أخبار ثقافية

محمد علي كلاي.. رجل السلام العنيف

كان كلاي العنيف داخل الحلبة رجل سلام وديع في حياته- أ ف ب

في أوائل سبتمبر سنة 1960، انعقدت دورة الألعاب الأولمبية في العاصمة الإيطالية روما. كانت دورة عادية باستثناء صغير؛ هو بزوغ نجم الملاكم الشهير محمد علي كلاي، أو كاسيوس كلاي، كما كان يُسمى وقتها، قبل إشهار إسلامه وتغيير اسمه سنة 1964.

 

كان كلاي المولود سنة 1942 في الثامنة عشرة من عمره وقتَ فوزه بتلك الميدالية، وكان الملاكم الأصغر الذي يفوز بها، مفتتحا طريقه نحو الأرقام القياسية. وقد تبدو تلك الذكرى مناسبة لتأمل ما يمثله محمد علي كلاي في عالم الرياضة والسياسة معا.

بدأ كلاي مسيرته الاحترافية في أكتوبر التالي (سنة 1960)، ثم فاز سنة 1964 ببطولة العالم للملاكمة للوزن الثقيل، مسجلًا رقما قياسيًا لكونه أصغر ملاكم يقتنص هذا اللقب. وكرر الفوز باللقب عامي 1974 و1978.

ومن حيث أطلت الإنجازات، اقتحمت الأزمات عالمه. فقد استدعي للتجنيد في الجيش الأمريكي في سنة 1967 بينما الحرب على فيتنام في أوجها، فرفض رفضا صارخا متحديا القوانين الأمريكية، طالبا أخذه إلى السجن إذا اقتضى الأمر.

لا أظن أنني بحاجة لسرد تاريخ محمد علي كلاي، فهو علامة في دنيا الرياضة، لكني أحب هنا أن أتأمل ثنائية تبدو مدهشة. هي ثنائية العنف - السلام لدى محمد علي. 

ما أقصده أنه يبدو لي أن كلاي، فور ولوجه إلى عالم الملاكمة، يتلبّسه مسٌّ شيطاني لا نعرفه، فيحيله وحشا عاشقا للافتراس، بل إنه يبدو في بعض نزالاته مستمتعا بافتراس خصمه المتداعي، مستهزئا من ترنحه أو سقوطه أو آلامه. ثمة مظاهر كثيرة لتلك القسوة نراها في مقاطع الفيديو المنتشرة له على اليوتيوب، لكن يمكننا الاكتفاء ببعض الأمثلة.

في النزال الذي منح كلاي بطولة العالم، انتصر كلاي على بطل العالم وقتها سوني ليستون بعد ست جولات حامية، استسلم بعدها ليستون بسبب إصابة قوية في عينه منعته من استكمال النزال، وكان قبله قد أصر على استفزاز محمد علي وفريق العاملين معه بإطلاق نار من مسدس صغير نحوهم. بعد هزيمته، بينما ينزف على كرسيه وأطباؤه يضمدون جراحه، جرى كلاي المحتفل نحوه مستفزا إياه بفرحة الانتصار.

 



لكن ليستون اليائس طلب إعادة النزال في العام التالي، ليسحقه كلاي بالضربة القاضية في الجولة الأولى، وتلك كانت حكاية أشهر صورة في القرن العشرين بحسب مجلة سبورتس إليستراتيد الأمريكية. التقطها المصور الأمريكي نيل ليفر لمحمد علي حين أخذ يقفز فرحا أمام خصمه الملقى النازف، صارخا: "انهض وقاتل أيها الأحمق".

 



إيرني تيريل ملاكم آخر جلب البؤس والشقاء على نفسه حين قرر استفزاز كلاي بمناداته باسمه القديم كاسيوس كلاي وليس محمد علي، وكانت اللقاءات التلفزيونية التي تُعقد قبل المباريات تكاد تخصص لاستفزاز الملاكمين، ومنح كل منهما فرصة لإغاظة صاحبه، تبهيراً لكل منهما وإشعالا لغضبه على منافسه. في ذلك اللقاء تعمد تيريل استفزاز كلاي باسمه السابق فقال له كلاي: "لم لا تناديني باسمي يا رجل؟ لم أقل لك أن اسمي هو كاسياس كلاي وإنما اسمي هو محمد علي، سأعاقبك وأجعلك تنطق اسمي الحقيقي داخل الحلبة بعد المنازلة إن لم تنطقه الآن".


ْ



وكان كلاي "أسود القلب" كما يقول المصريون، فلم يتسامح مع تيريل حين بدأ الدم يتدفق من وجهه، وأخذ يستمتع بتوجيه لكمات متتالية قوية لخصم شبه مستسلم، حتى إنني لم أقو على استكمال مشاهدة النزال على اليوتيوب، بينما يصيح كلاي بخصمه المنهار "ما هو اسمي؟ ما هو اسمي؟". وقد وصف النقاد المباراة: "لقد كانت مظاهرة رائعة من مهارة الملاكمة وعرض البربرية الوحشية".

 



هكذا كان كلاي فور ولوجه عالم الملاكمة. ربما هذه هي طبيعتها المتوحشة والمُعدِية للمنتمين إليها. يرتبط ذلك دون شك بنوازع العدوان لدى الإنسان، ورغبته عبر التاريخ في إشباعها منذ أقيمت المصارعات الوحشية في المدرج الروماني ابن الحضارة الرومانية العريقة، حيث كان البشر يذبحون بعضهم بعضا، كما كانت الحيوانات المفترسة تمزق المحكومين بالموت تمزيقا، بين صيحات الانتصار والطرب التي يطلقها آلاف المتفرجون الذين أشعل الطرب حماستهم للدماء.


الوجه الآخر لثنائية محمد علي هو انحيازه الواضح، خارج عالم الملاكمة، إلى السلام، لا باعتباره نزعة لحظية أو موضة، بل باعتباره توجها أصيلا ومصيرا منشودا، يدافع عنه مثلما يدافع المرء عن قيمه الجوهرية.

في مؤتمر صحفي شهير دافع كلاي عن رفضه أن يُجنَّد في الجيش الأمريكي، ليقاتل في حرب فيتنام، مطلقا كلماته مثل لكماته؛ ساحقة، مُدمِية، عنيفة: "ضميري لن يسمح لي بإطلاق النار على إخوة لي، أو ناس أكثر سمرة مني، أو بعض الفقراء الجوعى الذين يعيشون في الوحل من أجل أميركا القوية الكبرى. ثم لماذا أطلق النار عليهم؟ فهم لم ينعتوني أبدا بالزنجي ولم يسحلوني، لم يطلقوا كلابهم عليّ، ولم يجردوني من جنسيتي، أو يغتصبوا أو يقتلوا أمي أو أبي.. فلماذا أطلق النار على هؤلاء المساكين؟ خذوني إلى السجن إذاً".

 



كان كلاي يعي تماما أنه يواجه دولة غاشمة، تديرها نخبة سياسية لم تتخلص من العنصرية الراسخة في وجدانها، ولن تتسامح مع شاب يتحدى نزعتها الاستعمارية الجديدة. تلقى كلاي عقابه: سُحِبت رخصة ملاكمته وحكم عليه بالسجن لمدة لا تزيد عن خمس سنوات وغرامة 10 آلاف دولار، وتلك غرامة هائلة وفق قوة الدولار حينئذ. بالطبع استأنف كلاي على الحكم فألغته المحكمة العليا سنة 1970، وعاد إلى صولاته على الحلبة، ولم يكن حكم السجن قد نفذ حتى الحكم النهائي الذي رد إليه اعتباره.

على أن انحيازه لحقوق الإنسان ونشاطه ضد التفرقة العنصرية لم يتوقفا يوما. وله في ذلك تصريحات شهيرة، منها مثلا: لا أثق بأي شخص لطيف معي ووقح مع النادل، لأنهم كانوا سيعاملونني نفس المعاملة لو كنت مكانه. في تلك الفترة، كان مجرد التصريح بتساوي السود والبيض مغامرة تقتضي شجاعة مقترفها، لأن المجتمع الأمريكي لم يكن قد تخلص من عنصريته.

ربما كانت حلبة الملاكمة تثير الوحش المتربص داخله، لكنه خارجها، لا يلبث أن يصير إنسانا وديعا مؤمنا بالسلام والعدل والمساواة بين البشر.