كتب

السلفية التكفيرية في تونس.. النشأة والطبيعة والمسار (1من4)

السلفية الجهادية من الدعوة إلى القتال.. قراءة تاريخية (فيسبوك)

الكتاب: "السلفية التكفيرية العنيفة في تونس من شبكات الدعوة إلى تفجير العقول"
الكاتب: الدكتور عبد اللطيف الحناشي
الناشر: الدار التونسية للكتاب، الطبعة الأولى تشرين الثاني /  نوفمبر2020،

(400 صفحة من القطع الكبير).
 
لا يتردد باحثون وإعلاميون وسياسيون تونسيون وعرب بتوصيف الشعب التونسي كـ "شعب مسالم لا علاقة له بالعنف والإرهاب"، وأنه من "أكثر شعوب العرب مسالمة ونبذا للعنف بالمعنى العصري للسياسة"، حسب قول المفكر والباحث المغربي الدكتور عبد الإله بلقزيز في كتابه: "ثورات وخيبات في التغيير الذي لم يكتمل"، تقديم محمد الحبيب طالب، منتدى المعارف بيروت 2012. 

وبالتوازي مع ذلك، يرى آخرون أن "الإرهاب دخيل على تونس"، وأن سببه هو حكومة الترويكا، حسب قول الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي: "الإرهاب دخيل على تونس، وتساهل حكومات الترويكا مع المتطرفين سهّل تغلغله". في حين اعتبر آخر، أنَّ سبب العنف هو حطام الاستبداد السابق: "تونس لا يوجد بها تاريخ إرهاب... وأن هذا العنف الذي نعيشه هو وليد النظام الدكتاتوري والاستبدادي الذي عرفته البلاد طيلة عقدين ونيّف من الزمن"، حسب قول الأستاذ راشد الغنوشي في حوار مع البلاد الجزائرية؛ لهذا.. فشل الإخوان في مصر ونجحنا في تونس. 

أما الاتحاد العام التونسي للشغل، فتحدث عن التوحّش وانعدام الإنسانية لغالبية الذين التحقوا ببؤر الصراع، معتبرا أن تلك الممارسات "لا يمكن أن تمتّ بصلة لشخصية التونسي ولا لحضارته وثقافته. جاء ذلك في بيان أصدره الاتحاد ضد قانون التوبة ومع محاسبة الإرهابيين.

في كتابه الجديد، الذي يحمل العنوان التالي: "السلفية التكفيرية العنيفة في تونس من شبكات الدعوة إلى تفجير العقول"، الصادر عن الدار التونسية للكتاب، الطبعة الأولى تشرين الثاني (نوفمبر) 2020،  والمتكون من توطئة، ومقدمة عامة، و13 فصلا، وخاتمة موزعة على 400 صفحة من الحجم الكبير، يقدم لنا الدكتور عبد اللطيف الحناشي أستاذ التاريخ السياسي المعاصر والراهن جامعة منوبة في تونس، بحثا أكاديميا علميا موثقا ورصينا عن ظاهرة جذور السلفية التكفيرية، من نشأتها وهيكلتها وتنظّمها إلى تشددها وتطرفها وانتشارها، وتوخيها الاٍرهاب والعنف بكل أشكاله نهج عمل ومبدأ حياة، مع التأكيد من البداية ذلك الغموض والضبابية التي تلف مصطلح الاٍرهاب، وما ينشأ عنها من إشكالات قانونية وأبستيمولوجية ومعرفية .

حول ظاهرة العنف السياسي في تونس

يقول الدكتور عبد اللطيف الحناشي في المقدمة: "صحيح أنَّ العنف السياسي الذي كان مصوّبا تجاه الأجهزة الاستعمارية المادية والبشرية، في تاريخ البلاد كان تواتره محدودا، مقارنة بما جرى في الجزائر(1830 ـ 1862) وليبيا (1911 ـ 1931)، باعتبار أن البلاد التونسية قد تحولت إلى "محمية" فرنسية، الأمر الذي ساعد على وجود ثنائية في الأجهزة والأنظمة، بالرغم من شكلية الكثير منها، ما أتاح للبلاد تحقيق تطور محدود ونسبي، في المجال التربوي والاجتماعي والمؤسساتي... لكن، مقابل ذلك لم يخل تاريخ الحركة الوطنية التونسية بدوره من العنف (الداخلي إن صحّ التعبير)، الذي بدأت بعض ملامحه تبرز بعد انشقاق المرحوم الحبيب بورقيبة وتأسيسه للحزب الحر الدستوري، الديوان السياسي، (1934). 

ظاهرة العنف السياسي والإرهاب، لا يربطها الباحث الحناشي بظهور التنظيمات ذات الطابع العنفي والإرهابي، أي الحركات الجهادية الإرهابية والتكفيرية، بل يربطها بنشوء الدولة الوطنية التونسية الحديثة، إذ يذهب إلى القول بأنَّ الحزب الحاكم بعد الاستقلال، مارس العنف بكل أشكاله (اغتيال الزعيم صالح بن يوسف في 12 حزيران / يونيو 1961 في ألمانيا) ضد الحركة اليوسفية والزيتونيين والقوميين والبعثيين والعروبيين والماركسيين والإسلاميين، وضد الحركة النقابية (1978)، وضد المجتمع سنة 1984 (أحداث الخبز). 

كما عرفت الساحة الطلابية بدورها، منذ مؤتمر قربة 1971، عنفا مزدوجا؛ عنف السلطة والعنف بين مختلف التعبيرات الإيديولوجية والسياسية الطلابية، وهي ظاهرة لازالت تعرفها هذه الساحة دوريا في الكثير من الكليات والمبيتات والمطاعم الجامعية، ظاهرة تتفاقم خاصة بمناسبة الانتخابات الطلابية للمجالس العلمية أو النقابية.

أما نظام بن علي، فكان نظاما مُوَلِّدا للعنف وليس ممارسا له فقط. وإن كان المنتمون لحزب النهضة من أكثر ضحايا العنف متعدد الأشكال والمضامين، فلم تكن بقية الأطراف بمنأى عن ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر.

 

يقدم لنا الدكتور عبد اللطيف الحناشي أستاذ التاريخ السياسي المعاصر والراهن جامعة منوبة في تونس، بحثا أكاديميا علميا موثقا ورصينا عن ظاهرة جذور السلفية التكفيرية، من نشأتها وهيكلتها وتنظمها إلى تشددها وتطرفها وانتشارها، وتوخيها الاٍرهاب والعنف بكل أشكاله، نهج عمل ومبدأ حياة مع التأكيد من البداية ذلك الغموض والضبابية التي تلف مصطلح الاٍرهاب، وما ينشأ عنها من إشكالات قانونية وأبستيمولوجية ومعرفية .

 



وإذا كان الشعب التونسي مسالما، فبماذا نفسر وجود بين ثلاثة إلى خمسة آلاف (3000 إلى 5000) مقاتل تونسي (كحدّ أدنى) قاتلوا على دفعات وفي فترات مختلفة في العراق وسوريا وليبيا... و غيرهم ممن شاركوا في مالي وقبلها في الجزائر وأفغانستان والبوسنة والهرسك والشيشان؟ وبماذا نفسر منع وزارة الداخلية لنحو 29 ألف تونسي منذ سنة 2012 من مغادرة أرض الوطن للالتحاق ببؤر الصراع في سوريا والعراق؟


وبماذا نفسر وجود ‬1390 ‬تونسيا (‬1349 ‬من ‬الذكور و‬41 ‬من الإناث) ‬مفتّشا ‬عنهم ‬دوليا ‬بتهم ‬تتعلّق ‬بالإرهاب؟ وبماذا نفسر السلوك "الوحشي" لبعض التونسيين تجاه المدنيين أفرادا ومؤسسات في بؤر الصراع: قتل وتمثيل بالجثث وتفجير المباني العامة والخاصة على ساكنيها؟ بل كيف نفسر ما قام به "الدواعش" في تونس تجاه سكان سفوح الجبال التونسية من ذبح وقتل وتمثيل بعشرات من العسكريين ورجال الحرس الوطني والشرطة والمدنيين تونسيين وأجانب؟

وبماذا نفسر العنف الاجتماعي الواسع الذي عرفته البلاد، بعد الثورة على الأقل، الذي اتخذ نسقا متصاعدا؟ ألا يمكن تحويل تلك الطاقات العدوانية الفردية إلى عنف ذي طابع سياسي منظم مؤدلج إذا توفرت الظروف والإمكانيات والتأطير... كما حصل في عدة بلدان عربية؟ 

يختلف الدكتور الحناشي مع النظرة "الطُّهورية" والتوصيفات غير الواقعية للمجتمع التونسي، بوصفه مجتمعا مسالما، كما هو سائد في المخيال الاجتماعي العربي، إذ يرى أنَّ تاريخ أي شعب من الشعوب، بما في ذلك الشعوب التي وصلت إلى درجة كبيرة من التقدم، لا تخلو من مظاهر العنف السياسي الذي تمارسه الأطراف السياسية فيما بينها، كما تزال بعض من مظاهر ذاك العنف المتداولة في أوساط بعض الأحزاب والتنظيمات والبرلمانات في البلدان المتقدمة. ناهيك عن العنف المتنامي الذي يمارسه بعض الأفراد المنتمين إلى المنظمات والجمعيات اليمينية المتطرفة سياسيا أو دينيا، أو الاثنين معا في أوروبا الغربية تحديدا.

 

ظاهرة اجتماعية

فالعنف كما التطرف بأشكاله المختلفة ظاهرة اجتماعية إنسانية وسياسية، عرفتها المجتمعات البشرية في كل حقبها منذ أن وجد الإنسان على سطح الأرض، والمجتمع التونسي لا يختلف عن بقية المجتمعات البشرية التي عرفت أو مازالت تعرف بدورها أشكالا مختلفة من العنف الاجتماعي والسياسي، يرتفع منسوبه أو يتقلّص حسب الظروف العامة الداخلية والخارجية. 

ولا شكّ أن تمدد ظاهرة السلفية التكفيرية العنيفة في تونس وضخامة المنخرطين في تنظيماتها من التونسيين في الداخل أو في الخارج، يدفع لطرح عدة أسئلة أخرى منها:

كيف ولماذا حصل ذلك في تونس التي تعدّ من الدول العربية القليلة التي حققت تقدما ملحوظا على الأصعدة الاجتماعية والثقافية والتربوية؟ وهي البلد المنفتح والمتفتّح الذي عُرف بريادته في مجالات عديدة؛  كتحرر المرأة والتنظيم النقابي والسياسي والحقوقي... كما أن ما حصل يدفع للبحث والتدقيق عن  حجم هؤلاء سواء الناشطين منهم في الداخل أو المقاتلين في بؤر الصراع، وأهم تنظيماتهم وأبرز العمليات العنيفة والإرهابية التي قاموا بها، وحجم ضحاياهم ومحاولة تحديد مواصفاتهم الاجتماعية والثقافية والجغرافية، ومعالجة الأسباب والعوامل التي دفعت بهؤلاء في الانخراط في تلك المجموعات.

لا شك أن الكتب والبحوث التي رصدت وحلّلت هذه الظاهرة في تونس على تميزها وفرادة البعض منها تظل محدودة، إذ يعتقد الدكتور الحناشي أن تونس بحاجة إلى المزيد من البحوث والدراسات العلمية والاستقصائية. أمر يتطلب من الدولة التونسية أن توفّر للباحثين ما لديها من وثائق ومعطيات، ما لم تمسّ بالأمن "القومي"، تخصّ هذه الظاهرة حتى يتمكنوا من دراستها من مختلف جوانبها، ما قد يساعد على معالجة أسبابها وتحجيم انتشارها... ودون ذلك، أي بغياب تلك المصادر تظل الصحافة وبعض المواقع الإلكترونية بما تتمتع به من حرية في النظام الديمقراطي أحد أهم المراجع التي يمكن للباحث الاعتماد عليها بعد التحقق من مصداقية المعطيات التي تقدّمها.

الجماعات التكفيرية المقاتلة في مطلع الألفية الجديدة

يتناول الدكتور عبد اللطيف الحناشي في الفصل الأول من كتابه، الجذور التاريخية لتشكل تيار السلفية الجهادية، في تونس، قبل الثورة حيث برز للوجود على مسرح "الحرب الدولية على الإرهاب" التي انطلقت مع تفجيرات الحادي عشر من أيلول / سبتمبر2001، فالتونسيون مشاركون في الصراعات الدائرة في كل من العراق وأفغانستان والبلقان، على الرغم من أن بلدهم ظل بعيدا عن مثل هذه الحروب.

ويمكن القول؛ إن الجهاديين التونسيين أدوا دورا غير مباشر في اندلاع الحرب في أفغانستان في 7 تشرين أول (أكتوبر) 2001، إذ إن اغتيال القائد الأفغاني المعادي لحركة "طالبان" الجنرال أحمد شاه مسعود على أيدي انتحاريين تونسيين في 9 أيلول / سبتمبر 2001، هو الذي شكل الشرارة التي فجرت الحرب الأمريكية على أفغانستان. وكان التونسيان المقيمان في بلجيكا تنكرا في زي صحفيين وسعيا لإجراء مقابلة مع مسعود، ثم فجرا الكاميرا وقضيا في الحادثة حاملين أسرارهما معهما.

ويقدم أستاذ التاريخ السياسي المعاصر والراهن الدكتور عبد اللطيف الحناشي تفاصيل دقيقة عن  ممارسة التيار "الجهادي الإسلامي" التونسي، المرتبط بتنظيم "القاعدة" عن العمليات العنفية التي قام بها في داخل تونس، لعل أبرزها: التفجير الذي استهدف كنيس "الغريبة" في جزيرة جربة (جنوب تونس) (21 قتيلا) في العام 2003. 

وبعد اندلاع الحرب الأمريكية على أفغانستان اعتقلت قوات التحالف عشرات التونسيين في باكستان وأفغانستان، ونقلت اثني عشر منهم إلى معتقل "غوانتانامو" في خليج كوبا. ومن ضمن المعتقلين نزار ساسي الذي أفرج عنه في السنة 2006 بعدما اعتُقل في باكستان لدى فراره من أفغانستان. ويتحدر ساسي (28 عاما) المولود في ليون (فرنسا) من أسرة تونسية، واعتقلته فرنسا مجددا بعدما تسلمته من الأمريكيين في السنة 2004، غير أنه نفى في كتاب ألفه أي صلة له بالإرهاب، مؤكدا أنه لم يكن سمع باسم "القاعدة" لدى وصوله إلى أفغانستان. كذلك أكدّ عبدالله الحاجي الذي أفرج عنه الأمريكيون وسلموه إلى السلطات التونسية، في ربيع 2007، أنه كان يعمل تاجر أقمشة في باكستان ولم يكن على صلة بتنظيمات إرهابية. وأخضِعَ الحاجي في عهد النظام السابق لملاحقة قضائية في بلده بسبب الاشتباه بانتسابه إلى تنظيم إسلامي محظور وغير معروف من قبل، هو "الجبهة الإسلامية التونسية".

وفي العراق قدرت الإحصاءات نسبة المشاركين المغاربيين في العمليات التي تنفذها المقاومة ضد القوات الأمريكية بـ 20 في المئة. وعلى الرغم من أن الجزائريين يشكلون نصف الانتحاريين المنحدرين من البلدان المغاربية، فإنَّ "حصتي" تونس والمغرب ارتفعتا إلى 5 في المئة لكل واحدة منهما. وأدّت الحرب العراقيّة دورا حاسما في تسريع بداية التحاور بين "الجماعة السلفيّة للدعوة والقتال" الجزائرية، التي كان يقودها أبو مصعب عبد الودود، وتنظيم "القاعدة في بلاد الرافدين"، الذي كان يقوده أبو مصعب الزرقاوي، الذي قتلته القوات الأمريكية في 7 تموز (يوليو) 2006. 

وكانت "الجماعة السلفيّة للدعوة والقتال "الجزائرية تريد إدراج عملها ضمن بُعدٍ أكثر عالميّة. فلم تفوّت فرصة الحرب الأمريكية على العراق، التي استقطبت تنظيم القاعدة إلى بلاد الرافدين، للتعبير عن موقفها، سواء في ما يتعلّق بالوضع في أفغانستان، في الشيشان، في لبنان، في الصومال أو في السودان، وفي العراق. وبشكلٍ خاصّ، فقد حاولت جاهدة التموضع تحت راية "القاعدة"، ومن ثم تلبية "الشروط" اللازمة للالتحاق كهذا.

 

يتناول الدكتور عبد اللطيف الحناشي في الفصل الأول من كتابه، الجذور التاريخية لتشكل تيار السلفية الجهادية في تونس، قبل الثورة، حيث برز للوجود على مسرح "الحرب الدولية على الإرهاب" التي انطلقت مع تفجيرات الحادي عشر من أيلول / سبتمبر2001، فالتونسيون مشاركون في الصراعات الدائرة في كل من العراق وأفغانستان والبلقان، على الرغم من أن بلدهم ظل بعيدا عن مثل هذه الحروب.

 



وشكلت الجزائر قاعدة الانطلاق الرئيسية للتونسيين نحو المشرق، للالتحاق بالمقاومة العراقية، عبر الأراضي السورية. وأدى تنظيم "الجماعة السلفية للدعوة والقتال" دورا محوريا على الصعيد الأيديولوجي والتنظيمي في عمليات التنسيق بينه وبين الجماعات السلفية الجهادية في كل من تونس والمغرب. وكان المتشدد الذي يُعرف بـ "أبو الهمام" يقود تنظيما مسلحا يدعى "جماعة أنجاد الإسلام ببلاد الر افدين"، كان مركز نشاطه سوريا، ويُعتقد أنه درج على إيواء "الجهاديين العرب" الراغبين في الالتحاق بجبهات القتال العراقية. 

وأظهرت التحقيقات أنه (أبو همام) عاد إلى الجزائر في آذار/ مارس 2005 وكان مكلفا من تنظيم "القاعدة" في العراق بتهيئة الطريق لمجموعة من الجهاديين التونسيين للالتحاق بمعاقل الجماعة السلفية للدعوة والقتال، بغية تدريبهم على استخدام الأسلحة والمتفجرات. واعتقلت أجهزة الأمن الجزائرية أبوهمام في حزيران (يونيو) 2006 بعد فترة قصيرة من عودته من سوريا، حيث كان يقيم منذ العام 2003. وتم الاعتقال بناء على تحريات أظهرت أنه كان يقود خلية جندت جزائريين للقتال في العراق، وتكفلت بكل ترتيبات سفرهم إلى سوريا والإقامة بها؛ تمهيدا لالتحاقهم بـ "قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين". 

وطبقا لمصادر أمنية جزائرية كان مُقررا أن تلتحق دفعة أولى بـ "الجماعة السلفية"، على أن تنضم دفعة أخرى في وقت لاحق. ولم توضح المصادر ما إذا كان التونسيون انضموا فعلا إلى معاقل التنظيم الجزائري المسلح أم لا، إلا أنَّ الثابت أنَّ تونسيين آخرين تدربوا في معاقل "الجماعة السلفية" الجزائرية، وعادوا إلى بلدهم حيث أقاموا معسكرا للتدريب في جبل "عين طبرنق" في الضواحي الجنوبية للعاصمة، قبل أن تكتشفهم أجهزة الأمن أواخر السنة 2006 بمساعدة الاستخبارات المصرية.

وسلم الجزائريون في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين عشرات التونسيين الذين ضبطوا وهم يتأهبون للسفر إلى العراق، ونالوا أحكاما قاسية بالسجن بعد مقاضاتهم في بلدهم. وكانت السلطات التونسية بالتنسيق مع القوات الأمريكية شنت في ذلك الوقت حملة واسعة لإزاحة الستار عن ظاهرة انتقال السلفيين الجهاديين التونسيين للقتال في العراق، والذين يتم استقطابهم لاحقا من قبل تنظيم "القاعدة"، ما أدى إلى اعتقال مئات من الشبان الذين أُحيل قسم منهم على المحاكم، بتهمة الضلوع في الإرهاب.

وشاركت أعداد كبيرة من الشبان التونسيين في القتال ضمن صفوف المقاومة العراقية، وشاركوا في تنفيذ عمليات انتحارية. ورغم عدم وجود إحصاءات عن أعداد الشباب الذين سافروا إلى العراق، إلا أن مسؤولا محليا في رابطة حقوق الإنسان في مدينة مدنين الجنوبية قدر أعداد "المتطوعين" من المحافظات الجنوبية بنحو ألف شاب. وفي ذلك الوقت، بدأت السلطات التونسية تنسب إلى مجموعة أخرى من الشبان المتدينين، الانتماء إلى تيار "السلفية الجهادية"، وسعت لإثبات وجود علاقات بينهم وبين التنظيمات المتهمة بالإرهاب.

 

قضاء ومحاكمات في تونس وخارجها

وقال المحامي سمير بن عمر المتخصص بقضايا الإرهاب؛ إن الخط البياني للملاحقات القضائية في هذا النوع من التهم، أخذ نسقا متصاعدا منذ سن قانون مكافحة الإرهاب الذي سنه البرلمان في العاشر من كانون الأول (ديسمبر) 2003، والذي تزامن مع اليوم العالمي لحقوق الإنسان. وقدر ابن عمر أعداد الذين لاحقهم القضاء في هذا المجال بمئات الأشخاص، بعضهم ألغيت الملاحقات في شأنه لعدم كفاية الحجج، والبعض الآخر صدرت في حقه أحكام بالسجن "لم تقل عن عشرة أعوام"، فيما انتظر بعض ثالث إحالته على المحاكم.

وكانت وزارة الداخلية التونسية تسلمت في العام 2006 من نظيرتها الجزائرية سبعة عناصر من محافظة بنزرت (شمال البلاد)، تم ضبطهم في الجزائر لدى محاولتهم السفر إلى العراق للانخراط في قتال القوات الأمريكية. وأصدرت الدائرة الجنائية في محكمة العاصمة تونس في 23 كانون الأول (ديسمبر) 2007 أحكاما بالسجن في حقهم، بعدما دينوا "بالانضمام إلى تنظيم إرهابي"، إضافة إلى 16 عنصرا آخرين أدينوا غيابيا. وراوح العقاب بين 5 و9 أعوام مع عشر سنوات من الرقابة الإدارية. 

وشملت المحاكمات طبقا لتقديرات المحامين ما بين 2003 و2007 أكثر من 100 شاب تونسي متهم، تراوحت أعمارهم بين 31 عاما و20 عاما، إضافة إلى مئات من الشباب التونسيين لم تُحل ملفاتهم على القضاء بعد. وانتقد محامو هؤلاء الشباب التونسيين قانون مكافحة الإرهاب الذي لوحقوا بموجبه، معتبرين أن الاعترافات انتُزعت منهم بالقوة، وكانت تهدف إلى حملهم على الإقرار بنيات تخريبية في تونس، فيما اقتصرت تهم الغالبية على التخطيط للقتال في صفوف "المقاومة العراقية".

وفي هذا السياق، يقدم الدكتور الحناشي بحثا موثقا عن محاكمات الجهاديين التونسيين بسبب قيامهم بأعمال إرهابية في الخارج، متصلة في الغالب بالحرب في العراق. وفي العراق قضت محكمة الجنايات المركزية في بغداد العام 2006 بإعدام تونسي للاشتباه بضلوعه في اغتيال الإعلامية أطوار بهجت. وقال متحدث في المحكمة؛ إنها أصدرت حكما بإعدام يسري فاخر محمد علي التريكي، الملقب بـ "أبو قدامة التونسي"؛ لضلوعه بتفجير مرقدي الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء، واغتيال مراسلة قناة "العربية" أطوار بهجت. 

والأرجح، أن حكم الإعدام نفذ بعد شهر من المصادقة عليه. وكان مستشار الأمن القومي العراقي موفق الربيعي أعلن في وقت سابق أن "عراقيين اثنين وأربعة سعوديين وتونسيا واحدا من تنظيم "القاعدة" في العراق، هم من نفذ تفجير المرقدين الدينيين بمدينة سامراء في شباط /فبراير2005، واغتيال الإعلامية أطوار بهجت". وبحسب الربيعي فإن الذي خطط للعملية هو "عراقي يدعى هيثم البدري، وهو من تنظيم "القاعدة" في محافظة صلاح الدين". 

وأضاف أن أبو قدامة التونسي الذي دخل العراق في تشرين الثاني / نوفمبر 2003 هو المنفذ الرئيسي لعملية تفجير مرقد الإمامين العسكريين. وأفاد أن القوات العراقية اعتقلته آخر شهر حزيران/يونيو 2005 عندما كان يحاول هو وخمسة عشر مسلحا أجنبياً اقتحام نقطة تفتيش في الضلوعية، الواقعة على بعد نحو 30 كيلومترا إلى الشمال من بغداد.

في أواخرعام 2006 وبداية عام 2007، شهدت مدينة سليمان، التي تبعد 30 كيلومترا جنوب العاصمة تونس أوّل اشتباك مسلّح بين سلفيين تونسيين قادمين من الجبال وقوّات الأمن والجيش.‬ فالمدينة هي عُقدة شرايين الطرقات التي تنطلق من سفوح جبال حمام الشط، التي كانت في الثمانينيات مقرا لمكاتب منظمة التحرير الفلسطينية نحو مدن السواحل الشرقية، وخاصة نابل وقليبية والهوارية. وكانت السابقة الوحيدة في هذا المجال تعود إلى أكثر من ربع قرن، عندما كانت مدينة قفصة المنجمية الجنوبية مسرحا لمواجهات استمرت ثلاثة أيام في بداية العام 1980 بين قوات الجيش ومعارضين قوميين للرئيس الراحل الحبيب بورقيبة ينتمون للجبهة القومية التقدمية لتحرير تونس.‬

وكانت العناصر التي نزلت من الجبال المجاورة لسليمان سلفية متشددة هذه المرة، لكن لم يُعرف اسم التنظيم الذي تنتمي إليه. الذين تابعوا أحداث المعارك بين هذه المجموعة السلفية المتشددة والجيش التونسي، أكدوا أن المعارك بدأت في "حي الأول من حزيران (يونيو) 1955" (تاريخ عودة بورقيبة من المنفى) في مدينة سليمان، وانتقلت إلى فيلا مهجورة من طابقين في حي مجاور، تحصن فيها المسلحون الذين نجوا من الاشتباكات الأولى، واستمرت من الرابعة فجرا حتى العاشرة الثلاثاء 4 كانون الثاني (يناير) 2007، حيث ذهب ضحيتها 14 قتيلا. وتم توقيف أكثر من 15 عنصرا من هؤلاء السلفيين الجهاديين، ومحاكمتهم في العام عينه. وقد جُرِح َقائد المجموعة السلفية الجهادية أسعد ساسي وأُسِرَ قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة. وكان ينحدر من مدينة بئر الباي القريبة من سليمان، وتردد أنه رجل أمن سابق تطوع للقتال مع السلفيين في أفغانستان والجزائر. أما مساعده الذي قُتل في الاشتباك المسلح نفسه فوق سطح بيته، فهو ربيع باشا (22 عاما) الذي كان غادر مدينة سليمان  لاستكمال دراسته الجامعية في محافظة قفصة وانخرط هناك في صفوف الجهاديين.

وبلغ عدد عناصر المجموعة السلفية الجهادية بنحو 32 عنصرا كانوا تدربوا في الجبال القريبة، ولا سيما  في جبل الرصاص وعين طبرنق منذ نحو سنة ونصف السنة. ولم تكشف سلطات الأمن وجودهم سوى من خلال العنصر الذي كان ينزل يوميا إلى بلدة حمام الأنف، ليشتري خبزا بكمية كبيرة لفتت انتباه الخبّاز. وهكذا حصل الاشتباك الأول مع قوات الدرك في 23 كانون أول (ديسمبر) 2006، لكن على الرغم من تطويق المنطقة، استطاع عناصر المجموعة النزول إلى سليمان، وكانوا مُجهّزين أسلحة متطورة من ضمنها قاذفات صواريخ "آر بي جي"، ما حمل الجيش على استخدام أسلحة ثقيلة للسيطرة على الوضع.