كتاب عربي 21

المساحات المضيئة.. حماس وانتخاباتها الداخلية

1300x600
أعلنت حركة حماس عن هيئتها القيادية في قطاع غزّة، التي أفرزتها انتخاباتها الداخلية في القطاع. كان من بين الفائزين سيدتان، وبقي يحيى السنوار رئيسا للحركة في غزّة، بعد تنافس واضح مع قياديّ آخر على الموقع، هو نزار عوض الله. وقد أعيد التصويت على انتخاب الرئيس أكثر من مرّة، الأمر الذي يكشف من جهة عن قدر ما من الاستقطاب حول نمط الإدارة الذي اتُّبع خلال الدورة الماضية في غزّة، ومن جهة أخرى عن تعديلات طالت اللائحة الداخلية الخاصّة بتنظيم حماس في "إقليم غزّة"؛ وسّعت من الدوائر التنظيمية التي تمكنها المشاركة في اختيار الرئيس للإقليم.

تمثل انتخابات الإقليم مرحلة من المراحل الانتخابية المتعددة في حماس، فالحركة التي كانت قد تمتعت بقيادة مركزية مقرّها في الخارج لفترة طويلة، أجرت بعد انتهاء انتفاضة الأقصى، وفوز الحركة في الانتخابات التشريعية الماضية (2006)، تعديلات جوهريّة طالت لائحتها الداخلية العامّة، أفضت إلى تقاسم قياديّ متساوي التمثيل في هيئاتها العليا المركزية، بين ثلاثة أقاليم: قطاع غزّة، والضفّة الغربيّة، والخارج.
يمكن استخلاص مجموعة من الأفكار من هذه الصورة العامّة لانتخابات حماس، بما فيها انتخاباتها المنجزة في غزّة

تعاني الحركة، كما عموم الفلسطينيين، من الانفصال القسري بين أماكن وجود الفلسطينيين، سواء داخل فلسطين أو مع الفلسطينيين في الخارج، بسبب الاحتلال بالدرجة الأولى، فلا يمكن للفلسطينيين التنقل بين الضفّة الغربية وقطاع غزّة، والأسوأ، أنّ الظروف متباينة جدّا بين أقاليم حماس الثلاثة. ففي حين يَسمح الاستقرار في قطاغ غزّة، وغياب الحضور الفيزيائي للاحتلال على الأرض التي تسيطر عليها حماس فلسطينيّا، بإجراء انتخابات تُشْرِك القاعدة التنظيمية على نحو شامل، بما يشبه صورة المؤتمر العامّ، فإنّ هذا الأمر أقرب إلى المحال في الضفّة الغربية، وذلك بينما تحول تعقيدات وجود الفلسطينيين في بلدان العالم دون تطوير تنظيمات لحماس في الخارج مكافئة من حيث العضوية التنظيمية لتنظيماتها في الداخل.

يمكن استخلاص مجموعة من الأفكار من هذه الصورة العامّة لانتخابات حماس، بما فيها انتخاباتها المنجزة في غزّة، ولا ينبغي الإغفال، والحالة هذه، جدارة أنصار حماس بالابتهاج، لتفرد حركتهم، من بين مجموع القوى الفلسطينية، لا في إنجاز انتخابات داخلية دورية فحسب، بل وفي شمولها، وعلنيتها النسبية، حيثما أمكن ذلك كما هو في قطاع غزّة، إلا أنّ حالة الابتهاج هذه، التي عكستها مواقع التواصل الاجتماعي، لا ينبغي أن تتحوّل إلى ضرب من استبطان الطهوريّة، التي ترفع قيادات الحركة ومنتسبيها فوق الطبائع البشرية المتسمة بالطموح والتنافسية، فإنّ وظيفة الانتخابات هي تنظيم تلك الطموحات، وما يتصل بها من تناقضات شخصية وجهويّة، وهو ما يبدو أنّ انتخابات حماس ما تزال قادرة على إنجازه، كما أن التنافسية الواضحة في الانتخابات الأخيرة تعطي المؤشر على أن إمكانية التغيير تظلّ قائمة، بالرغم ممّا قد يكرّسه طول العهد من صعوبات أمام التغيير.

إنّ الدلالات التي أثمرها التوسّع في إشراك الشوريات المحلية في انتخاب الرئيس، بدلاً من حصر انتخابه في مجلس شورى الإقليم، من أهمّ ما قدمته الانتخابات الأخيرة في غزّة، وأفضله. فبالإضافة إلى البعد الأخلاقي، الذي يخصم من قوّة الاحتكارية والوصائية والأبوية، لصالح الإحساس العامّ بالتساوي والتشارك في المشروع الواحد، مما يعزّز من علاقة الانتماء للمشروع، فإنّ آلية الإشراك الأوسع تجعل من عمليات ما يُسمّى "الكولسة" أصعب، بالإضافة إلى أنها تعطي مؤشرا أكثر دقة على التوجهات العامة، وتقييمها لأداء القيادة.
آلية الإشراك الأوسع تجعل من عمليات ما يُسمّى "الكولسة" أصعب، بالإضافة إلى أنها تعطي مؤشرا أكثر دقة على التوجهات العامة، وتقييمها لأداء القيادة

يبدو أن مصطلح "الكولسة" في السياقات الانتخابية، قد استعير من كواليس المسرح، حينما يقوم الممثلون بترتيباتهم في الخفاء من خلف الستار الفاصل بينهم وبين الجمهور، وبما أن وظيفة الانتخابات هي تنظيم علاقات المنتسبين، باستيعاب طموحاتهم وتناقضاتهم، فإنّ القوانين الناظمة لهذه العملية، في صيغ المنع والتجريم، لا تكفي، وإنما لا بد من صياغة العملية الانتخابية نفسها، في أفضل الصور التي تُصعّب من عمليات التربيط الخفية تلك، وتتيح الفرصة لأكبر قدر ممكن من المستويات التنظيمية للمساهمة في اختيار قيادتها، طالما أنّ الحديث يجري عن بشر من لحم ودمّ، القيمة الحقيقية لإنجازهم، في قدرتهم على إدارة اختلافاتهم في أحسن الصور الممكنة، وهنا مكمن الإشادة والثناء.

بيد أنّه، وإذا كان هذا ممكنا في قطاع غزّة، فإنّ إنجازه في الضفّة الغربيّة يظلّ محلّ أسئلة كبيرة يفرضها الواقع الأمني، مما يحتّم على حماس البحث المستمرّ، للنظر في التفاوت في الشرعيات الانتخابية بين أقاليمها المتعدّدة. فانتخاب القيادة من عشرات آلاف الأعضاء، ولو ضمن مراحل انتخابية تضيق بالتدريج، يختلف جوهريّا عن تزكيات محدودة من عشرات أو مئات، وفي أحسن أحوالها لا تبلغ إشراك القاعدة التنظيمية في حجمها الكامل، وهو أمر يوجب أن يترتب عليه نقاش حول التوصيفات والصلاحيات والوظائف والمهمات.

إنّ التقسيم لثلاثة أقاليم يُفترض أن يكون إجرائيّا، لتجاوز العقبات في الواقع، ولترتيب عملية انتخابية متدرّجة، إلا أنه وبحكم الواقع نفسه قد يتحوّل إلى تقسيم أصلي، نظرا لذلك التباين الحادّ المشار إليه، وهو تباين مركّب، من المعطيات الموضوعية الناجمة عن الاحتلال، والمعطيات الذاتية الناجمة عن اختلاف بنى حماس بين أقاليمها، وهي معطيات غير منفكّة عن المعطيات الموضوعية. فقدرة حماس على احتساب العضوية التنظيمية في كلّ أقليم متفاوتة بشدّة، فبينما يصعب هذا في الضفّة، فإنه أكثر سهولة في غزّة لكن تجدر الإشارة هنا، إلى أنّ عشرات الآلاف من سكان الضفّة الغربية اعتقلوا بتهمة الانتماء لحماس، مما ينبغي أن يمنع من التأسيس لبناء تنظيمي يفضّل إقليما على الآخر، وفق المعطيات الذاتية الناجمة عن معطيات الاحتلال، وإنما يوجب العودة للتكامل الوطني.
الرؤية الكلية الشمولية للقضية الفلسطينية تفرض تغليب التكامل الوطني، على المصالح الجهويّة، وتفرض اعتبار أصل المشروع والفكرة، لا بعض الظروف الخاصّة بهذا الإقليم أو ذاك، والتي قد تكون طارئة، وهذه الرؤية المشفوعة بالبحث الدائم عن أفضل الحلول للترتيبات الاستراتيجية

المقصود بالتكامل الوطني، أخذ المعطيات الوطنية بعين الاعتبار، لا التنظيمية والموضوعية فحسب، بمعنى نسب السكان، وحجم الجغرافيات، وطبائع الصراع الأصلية. فبينما بات قطاع غزّة قاعدة المقاومة الفلسطينية، والحجم الأكبر تنظيميّا بالنسبة لحماس، وقد ارتبطت به مصائر حماس حيثما كانت، وهو أمر يستوجب مراعاة خاصّة، فإنّ الضفّة الغربية تمثّل ساحة الصراع الرئيسة، على مستوى الواقع والسردية مع العدوّ، والفضاء الجغرافي والديمغرافي للقدس، وما زال الآلاف من عناصر حماس فيها يواجهون حملات الملاحقة الممنهجة. وفي المقابل، فإنّ "الشتات" الفلسطيني ينطوي على بعد جوهري في طبيعة الصراع، ظلّ يتراجع مع تأسيس السلطة الفلسطينية، وهو ما يفترض أن تواجهه حركة محمّلة بمقولات الاعتراض على السياسات الرسمية لقيادة المنظمة/ السلطة، وذلك باستعادة مكانة الفلسطينيين خارج الأرض المحتلة.

الرؤية الكلية الشمولية للقضية الفلسطينية تفرض تغليب التكامل الوطني، على المصالح الجهويّة، وتفرض اعتبار أصل المشروع والفكرة، لا بعض الظروف الخاصّة بهذا الإقليم أو ذاك، والتي قد تكون طارئة، وهذه الرؤية المشفوعة بالبحث الدائم عن أفضل الحلول للترتيبات الاستراتيجية غير المقيدة بالظروف الطارئة، هي التي تحوّل العلاقة بين الأقاليم إلى حالة تكاملية وإجرائية، لا إلى حالة أصلية تأسيسية.

سيبقى السجال حاضرا دائما حول ما يُسمى بالديمقراطية، في حركات المقاومة والحركات السرية، والتي تعاني ظروفا خاصّة، وحول أي المستويات فيها التي يجب أن تخضع للتداول، وحجم المشاركة في قواعدها، ومدى تمثيلها في دوائر الانتخاب الأكثر ضيقا، إلا أنه، وطالما أنّ حماس تحرص على هذه الدورية في انتخاباتها، وتنظّم بها أوضاعها الداخلية، بما يحافظ على وحدتها ومشروعها، فإنّ المساحات المضيئة في هذه التجربة تستحق الإشادة، وتستدعي البحث دائما لتوسيعها.

twitter.com/sariorabi