كتاب عربي 21

عبير موسي: العودة إلى الاستقطاب الثنائي

1300x600
في تونس مخاض لا يستطيع أحد أن يتأكد من نتائجه ومآله. هناك من يدفع بالأوضاع نحو حماية الديمقراطية كاختيار استراتيجي للبلد، لكنه يفتقر للخطة والمصداقية الضرورية، في مقابل من يستثمر في الأزمة السياسية والاقتصادية والأخلاقية القائمة من أجل إسقاط البناء المتعثر، وتهيئة "بديل" يكون أشبه بما كان قائما قبل عشر سنوات خلت. ويعدّ هذا الجهد ثمرة ما تقوم به قوى الثورة المضادة.

في هذا السيا،ق يجب تنزيل المعارك اليومية التي تخوضها عبير موسي، رئيسة الحزب الدستوري الحر والرامية إلى عودة الاستقطاب الثنائي وتغيير المسار السياسي برمته.

محامية عرفت بدفاعها المستميت عن الرئيس السابق زين العابدين بن علي وعن اختياراته ونظامه، في ذلك الوقت كانت تحظى بحماية الأجهزة السياسية والأمنية، مما جعلها تقف بشراسة ضد المحامين المعارضين لهيمنة السلطة، الذين استماتوا في سبيل استقلالية المحاماة. كانت تقف ضد الجميع وتعمل على إفساد اجتماعاتهم، وتفرض عليهم الاستماع إلى خطابها المدافع عن السلطة، وتجرهم جرا إلى الصدام معها.
هناك من يدفع بالأوضاع نحو حماية الديمقراطية كاختيار استراتيجي للبلد، لكنه يفتقر للخطة والمصداقية الضرورية، في مقابل من يستثمر في الأزمة السياسية والاقتصادية والأخلاقية القائمة من أجل إسقاط البناء المتعثر، وتهيئة "بديل"

عندما حدثت الثورة، وهرب ابن علي، وتغيرت الأحوال والأوضاع، فقدت نفوذها السابق، وقام خصومها في المحاماة بطردها من قاعة المحكمة التي أصدرت حكما يقضي بحل الحزب الحاكم السابق، التجمع الدستوري الديمقراطي. لكنها في تلك اللحظات، واجهت بكثير من الهدوء وكتمان توترها الداخلي، وقررت الانتقام لنفسها.

وجدت في الحزب الدستوري الحر الذي أسسه الدكتور حامد القروي، الذي تقلد مهمة وزير أول خلال مرحلة حكم ابن علي، فرصة للعودة من جديد إلى ساحة المعركة. انتمت إلى هذا الحزب، وقررت السيطرة عليه وتحويله إلى ثكنة سياسية، تعمل على مواجهة كل ما ترتب عن الثورة من نظم واختيارات وسرديات وأحزاب وأشخاص.

في البداية، حاولت التصدي للنظام والمنظومة من خارج الأجهزة القائمة التي وضعتها السلطة الجديدة، لكن عندما لم تحصل على نتائج ذات قيمة، غيرت تكتيكها، وقررت دخول اللعبة الديمقراطية، والاستفادة من الحريات القائمة، فعزمت على خوض الانتخابات التشريعية لسنة 2019، ونجحت في اختراق البرلمان، وأسست كتلتها التي تتشكل من 15 نائبا ونائبة، وشرعت في استغلال الديمقراطية ضد الديمقراطية.

حققت بهذا المنهج نتائج أفضل، خاصة عندما ركزت جهودها على استهداف حركة النهضة؛ إذ بذلك نجحت في تجميع الجمهور الغاضب على أداء الإسلاميين، الذي تضررت مصالحه بعد الثورة. كما أصبحت متحكمة كليّا في هياكل حزبها، وفي أعضائه بعد أن طردت كل مشاكس وراغب في أن يكون له دور ما في رسم السياسات، عندها انطلقت في الجزء الثاني من خطتها، التي تتمثل في استهداف المؤسسة البرلمانية، والعزم على تقويضها تدريجيا من خلال تقزيمها وإرباكها، وصولا إلى تأليب المواطنين عليها والمطالبة بحلها وإسقاطها.
استهداف المؤسسة البرلمانية، والعزم على تقويضها تدريجيا من خلال تقزيمها وإرباكها، وصولا إلى تأليب المواطنين عليها والمطالبة بحلها وإسقاطها

بناء عليه، شرعت منذ اليوم الأول لنشاط البرلمان في تنفيذ خطتها، متخذة من رئيس البرلمان راشد الغنوشي هدفا رئيسا واسترتيجيا.، تهاجمه بقوة وحقد، دون مراعاة سنه وتاريخه ومكانته داخل حزبه. وكلما حاول أن يتعامل معها بهدوء، زادت هي في التنكيل العلني به، حتى فقد الكثير من سلطته المعنوية، وأصبح مستهدفا أيضا من قبل عدد الكتل، وتحولت المناداة بإسقاطه من رئاسة البرلمان مطلبا ملحا ودائما. وهو ما دفع بحركة النهضة إلى انتهاج المناورة، والقبول بتحالفات غير طبيعية لكي تحول دون انهيار زعيمها.

في الأثناء، تستفيد عبير موسي من نتائج استطلاعات الرأي المستمرة، التي كشفت عن تصاعد تدريجي لشعبيتها، في مقابل تراجع حظوظ حركة النهضة، وقد زاد ذلك من طموحها وغرورها، واعتقادها بأن خطتها ناجحة، وأن المستقبل سيكون لها. على هذا الأساس، وسعت دائرة معاركها، فاستعملت كل الوسائل، بما في ذلك التصوير المستمر والمباشر لكل ما يجري داخل البرلمان، بما في ذلك اجتماعات اللجان المغلقة، واقتحام مكتب رئيس البرلمان، ومنع الجلسات العامة والخاصة، والاعتماد على مضخمات الصوت للحيلولة دون استمرار النشاط العادي للبرلمان، وهو ما دفع بزملائها إلى الانتقال إلى منى آخر للاجتماع، وإلى انتهاج السرية للتمكن من العمل بعيدا عنها. كما خاضت معارك مع الجميع؛ زملائها في المجلس من مختلف الكتل والانتماءات، والصحفيين الذين اضطروا لمقاطعتها، وكذلك الموظفين العاملين في البرلمان الذين اقتحمت مكاتبهم، وتدخلت في عملهم الإداري، وأهانت العديد منهم، وتحدت نقابتهم التي دافعت عن كرامتهم وحقوقهم.
الديمقراطية التونسية في خطر، وإذا لم تقم رئاسة الجمهورية، أيضا الأحزاب وفي مقدمتها حركة النهضة، بمراجعة نفسها والتخلي عن صراع الديكة، وأن يدرك الجميع خطورة التحديات الحقيقية

أصبحت مثل الأسد المنفلت في غابة مفتوحة، وبالرغم من كل هذه الممارسات المخالفة تماما لتقليد العمل البرلماني في كل أنحاء العالم، تلقى عبير موسي الدعم والتحريض من قبل عدد متزايد من المثقفين والجامعيين وبعض السياسيين ورجال أعمال؛ فهي بالنسبة إليهم الطرف الأقدر على مواجهة الإسلاميين ومحاصرتهم، وإبعادهم سياسيا، أو إعادتهم إلى السجون والمنافي. إنه الشبح الذي عجزوا عن مواجهته، فعثروا على من يعتقدون بأنه الأقدر على محاصرة العدو الرئيس والتخلص منه.

عبير ليست ظاهرة سياسية عادية، وإنما ظاهرة معقدة، تستثمر في الأزمة الهيكلية العامة في البلاد، وتزيد من تفاقم الشعبوية الزاحفة بخطى ثابتة نحو السيطرة على المؤسسات بعد إضعافها وإسقاطها وتحويل وجهتها.

الديمقراطية التونسية في خطر، وإذا لم تقم رئاسة الجمهورية، أيضا الأحزاب وفي مقدمتها حركة النهضة، بمراجعة نفسها والتخلي عن صراع الديكة، وأن يدرك الجميع خطورة التحديات الحقيقية، فإن البلاد ستسقط لا محالة في أيدي أعداء الديمقراطية. عندها لا ينفع الندم.