قضايا وآراء

عن "خاشقجي" فلسطين.. أمثلة مثيرة من سيرة "فتح" في القمع

1300x600
مارست الأحزاب الحاكمة في العالم العربي ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ السلطة بطريقة "التسلُّط" والقهر والفرض، ورغم اختلاف مشاربها الأيديولوجية (اشتراكية، ليبرالية، علمانية، ثورية، حركات تحرر وطني، وحتى الملكية والأميرية) فقد كانت في حقيقة الأمر، أحزابا "شمولية- توتاليتارية"، تحتكر السياسة بما هي شأن عام، ولا تسمح لغيرها بالاقتراب منها، وتعاملت مع جموع الشعب كرعاع، وجسم ما دون سياسي!

وإذا حاولت بعض القوى والأحزاب والشخصيات السياسية أو الاجتماعية أو الفكرية والثقافية، أو حتى تيارات من الحزب الحاكم، تقديم اقتراحات أو اجتهادات أو ملاحظات، فضلا عن توجيه الانتقادات والمؤاخذات، فإن الحزب الحاكم ينقلب إلى قبيلة سياسية تشدها الغريزة والعصب والحميّة العمياء. ولا فرق هنا لدى المتعصبين إن كان الموقف الذي يدافعون عنه صائبا أم خاطئا، وطنيا أم تابعا، شريفا أم وضيعا، فما يهمهم هو اسم القبيلة ووجودها وحضورها، وهو ما يصدق عليه قول الشاعر الجاهلي:

"وما أنا إلا من غزيّة إن غوت   غويت وإن ترشد غزيّة أرشد"

ولذلك، سنجد أن معظم هذه الأحزاب "التسلّطية" الاستبدادية، تنطوي في جوهرها على حروب أهلية وفتن وإحن ونعرات ومكائد وشرور.

حركة "فتح" تعتبر النسخة الفلسطينية النموذجية الممثلة لهذه الحالة، تجلّى ذلك في محطات أساسية عديدة من مسار تطورها، وهي متسقة مع خصائص نهجها اليومي، وتكشف أن العنف وممارسته مكوّن أساسي من مكوناتها السلوكية والتربوية والحركية والإدارية والسياسية الملازمة لها.
حركة "فتح" تعتبر النسخة الفلسطينية النموذجية الممثلة لهذه الحالة، تجلّى ذلك في محطات أساسية عديدة من مسار تطورها، وهي متسقة مع خصائص نهجها اليومي، وتكشف أن العنف وممارسته مكوّن أساسي من مكوناتها السلوكية والتربوية والحركية والإدارية والسياسية الملازمة لها

فعلى صعيد الاغتيال السياسي، سنجد أن هذه ممارسة صاحبت "فتح" منذ بداياتها، فعدا عن أول حادثة عنفية مسجلة تعود لسنة 1966 (بعد سنة واحدة من انطلاقة فتح) المتعلقة بمقتل يوسف عرابي وعنصر آخر، فقد سُجِّل في عام 1968 اغتيال القائد صبحي ياسين، وهو من بقايا عصبة القسام وأحد رفاقه (كان قائدا لمنظمة "طلائع الفداء" التي اندمجت في حركة فتح). وفي عام 1969 قامت حركة فتح بتصفية معسكر فدائي إسلامي أقامه شباب مسلم متحمس كان ملتفا حول الحاج أمين الحسيني، بالقرب من مدينة الفحيص في الأردن، وأسفر عن مقتل ثلاثة من مجاهدي ذلك المعسكر. وفي نفس العام دعمت فتح انشقاق نايف حواتمة عن الجبهة الشعبية (منافسة فتح الرئيسية) ووقعت خلال ذلك اشتباكات بين الطرفين.

وتروي كتب المذكرات لاحقا عن محاولات اغتيال سياسي كثيرة (بعضها لم ينجح)، طال بعضها أقطابا من "فتح" نفسها، كما طالت قيادات في الحركة الوطنية الفلسطينية. كما هو حال محاولة اغتيال ناجي علّوش (عضو المجلس الثوري لحركة فتح، ذي المشارب القومية واليسارية)، فقد كان ياسر عرفات أعدّ بيانين مسبقين؛ أحدهما في حال نجحت العملية والآخر في حال فشلها!

وفي الحرب الأهلية اللبنانية، وما بعدها، تُروى هنا وقائع مثيرة عن هذا الجانب المظلم من تصفيات داخلية، كان بعضها لأسباب صغيرة تافهة، وبعضها لأسباب وأهواء شخصية. وهنا تسجل حادثة اغتيال المبدع رسام الكاريكاتير ناجي العلي عام 1987.

وفي الأرض المحتلة كان اغتيال الأكاديمي الإسلامي إسماعيل الخطيب؛ الأستاذ في الجامعة الإسلامية في غزة عام 1983. وقد تحدث أبو مازن في مرافعته الشهيرة ضد خصمه دحلان عن وقوف هذا الأخير وراء سلسلة اغتيالات؛ كان من أهمها اغتيال أهم شخصية فتحاوية في قطاع غزة قبل أوسلو (أسعد الصفطاوي) وذلك في صيف 1993 (عشية عقد اتفاق أوسلو). ودحلان هذا سينشئ قوة خاصة تتبع جهاز الأمن الوقائي الذي كان يقوده، اسمها (هكذا) "وحدات الموت".. ويا للهول، هل توجد في العالم دولة، فضلا عن حركة تحرر وطني، تنشئ مثل هكذا وحدات، تكون موجّهة حصريا ضد ناسها وشعبها، ويكون هدفها ملاحقة وتعقب وتصفية معارضيها، السياسيين، والشخصيين على حد سواء؟!
السلطة الفلسطينية منذ قيامها عام 1994، كانت تتجه بطاقتها وحركيتها باتجاه العنف الداخلي، وممارسة السلطة بطريقة التسلط الداخلي، فكان أول صدام دموي قامت به بعد بضعة شهور من قيامها

والسلطة الفلسطينية منذ قيامها عام 1994، كانت تتجه بطاقتها وحركيتها باتجاه العنف الداخلي، وممارسة السلطة بطريقة التسلط الداخلي، فكان أول صدام دموي قامت به بعد بضعة شهور من قيامها (في تشرين الأول/ 1994 في مدينة غزة) عندما ارتكبت مجزرة مسجد فلسطين التي قتل فيها ستة مصلين، كما قامت تلك السلطة بعدها بعام تقريبا بتصفية المناضل الفتحاوي محمود الجميّل، من مدينة نابلس، أثناء توقيفه في سجن جنيد، وقِيل إن تصفيته تمت بناءً على رغبة رئيس بلدية نابلس آنذاك، والذي كان أيضاً يتمتع بعضوية كل من اللجنة المركزية لحركة فتح واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير!!

وحوادث العنف السياسي أو الشخصي التي صدرت عن السلطة الفلسطينية وأجهزتها وقياداتها وكوادرها يَقصُر مقال كهذا في الإحاطة بها، خاصة في مرحلة الفلتان الأمني الذي ساد في السنوات الأخيرة من انتفاضة الأقصى.

ومن عرف حركة فتح وعايشها عن قرب سيكتشف سريعا بأن العنف هو أحد المركبات السلوكية الأساسية التربوية والتعبوية والإدارية المعتمدة. وفتح تتميز عن أي تنظيم فلسطيني آخر بهذه الخاصية، خبرنا ذلك أيام الحركة الطلابية، عندما وجدناها تشتبك مع منافسيها؛ سواء أكانوا إسلاميين أم اليساريين، في ما كنا نسميه "طُوَش الجامعات" في الثمانينيات.

كما عرفت السجون - ولا زالت - ألوانا شتى من ذلك العنف الموجّه للداخل حصرا، وهناك في السجون توجد ممارسات سريعة في الأقسام الخاصة بفتح هذه الأيام، ويضيق المقام عن حصرها، ولكن تكفي الإشارة هنا إلى أن أحد ممثلي أسرى فتح في أحد السجون الصهيونية في الجنوب، لديه "وحدة قمع" من الأسرى أنفسهم، يقوم بتنقيلها بين الأقسام بالتنسيق والتواطؤ والتفاهم الكامل مع إدارة السجن؛ من أجل قمع أبناء شعبه وتنظيمه من زملائه الأسرى. وأفرز هذا العنف مئات حالات العداوة الشخصية لأسرى؛ لم يعد نتيجة مثل هذه الممارسات بإمكان الكثير منهم قبوله للدخول والعيش في غالب أقسام فتح في السجون.

وذات طوشة حدثت في أحد سجون الشمال عام 2013، كنت مع أمين عام تنظيم فلسطيني مرموق أعضاء في لجنة لإصلاح ذات البين (كان أحد طرفيها ممثل المعتقل عن حركة فتح)؛ أشار لي ذلك الأمين العام يومها إلى إصابة تركت ندبة في رقبته، كان قد تعرّض لها بينما كان يفك اشتباكا بالأيدي والأدوات الحادة في سجن نابلس القديم في سبعينيات القرن الماضي بين فريقين من فتح نفسها.
يكتشف المرء في السجن عندما يتعرف على العالم الداخلي على العديد من الأفراد لأسرى فتح؛ أن هنالك عديدين منهم لديه سجل جنائي حافل، يتضمن أحيانا التورط في تصفيات داخلية أو شخصية قام بها هؤلاء قبل دخولهم السجن على خلفية وطنية!

ويكتشف المرء في السجن عندما يتعرف على العالم الداخلي على العديد من الأفراد لأسرى فتح؛ أن هنالك عديدين منهم لديه سجل جنائي حافل، يتضمن أحيانا التورط في تصفيات داخلية أو شخصية قام بها هؤلاء قبل دخولهم السجن على خلفية وطنية!

ومن الحوادث ذات الدلالة الكاشفة هنا، قيام الراحل أبو عمار بإرسال مجموعة "قبضايات" لتأديب عضو في أول مجلس تشريعي، وهو من حركة فتح، لكونه اعتُبر مناكفا، وله آراء صُنّفت على أنها "مزعجة"، فأراد تأديبه، وبعد أن أُوسع ضربا، استدعاه في اليوم التالي وداراه وصالحه ومنحه 50 ألف دولار كترضية. وكان حادث كهذا مثلا على طريقة "أبو عمار" في ممارسة السلطة والقيادة. وفي هذا السياق، وجدنا "أبو عمار" يُثقل عيار تأديبه للبعض عندما أوقع الأذى بقدم نبيل عمرو في عام 2002، والأمثلة في هذا المقام كثيرة.

أما عن "فتح" الراهنة، فإنه يكون خبرا عاديا أن تسمع عن قيام عضو لجنة مركزية كجبريل الرجوب؛ بإرسال قبضايات لتكسير زميله في ذات اللجنة عزام الأحمد مما يتسبب بدخوله المستشفى! كما يكون عاديا عندما تسمع أن عضو مجلس تشريعي من فتح يقوم برد إهانة سابقة وُجِّهت له من قبل جبريل الرجوب فيقوم هذا النائب بضرب الرجوب على مرأى من الملأ. ومثل هذه الحوادث كثيرة، وغدت من مألوفات السلوك اليومي لحركة فتح؛ يمارسه الكبير قبل الصغير!!
تأتي حادثة الفتك الرسمي بالناشط المُعارض السياسي نزار بنات منسجمة مع هذا الإرث الطويل من ممارسة العنف والاغتيال السياسي

وتأتي حادثة الفتك الرسمي بالناشط المُعارض السياسي نزار بنات منسجمة مع هذا الإرث الطويل من ممارسة العنف والاغتيال السياسي، وهي في بشاعتها تذكرنا بحادثة الفتك الهمجي قريبة العهد بالصحفي السعودي جمال خاشقجي، والتي ظهر فيها محمد بن سلمان وكأن تلقى دروسه الاستبدادية من ديكتاتوريي مصر والهلال الخصيب!! والحقيقة أن خبرة فتح كحركة حروب أهلية تفنّنت في أشكال من التصفيات والقتل الهمجي، ولعلها اقتبست من محيطها العربي أسوأ ما فيه على هذا الصعيد، وتكفي الإشارة هنا إلى حادثة مقتل موسى عرفات (رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية) المُريعة في غزة عام 2005 كَمَثَل على هذا السلوك العنفي الأسود.

كما تأتي هذه الحادثة لتكشف أيضا بؤس الحالة التي أوصلت فتح نفسها وشعبها ومجتمعها، فاللجوء إلى العنف الهمجي والوحشي بهذه الطريقة هو علامة ضعف وبؤس وإفلاس، وكثيرة هي شواهد التاريخ التي كانت لحادث مشابه دورا جذريّا في إحداث النقلة الحاسة والفارقة من أوضاع إلى أوضاع أخرى.