قضايا وآراء

"بلاك ووتر" الثقافوية في إسناد الانقلابات الدستورية

1300x600
قام الرئيس التونسي قيس سعيد ليلة ٢٦ تموز/ يوليو ٢٠٢١ بتنفيذ مجموعة من القرارات تحت بند الحالة الاستثنائية، مما ترتب على تلك الخطوات تعطيل العمل بالأحكام الدستورية، بانقلاب قصر على العملية الدستورية، فقام بتجميد صلاحيات البرلمان، ورفع الحصانة عن أعضاء البرلمان، وترأس النيابة العامة للتحقيق في القضايا التي اتهم بها أعضاء البرلمان، وبذلك يكون القاضي الأول والخصم والحكم.

تولى قيس سعيد أيضا السلطة التنفيذية بمساعدة رئيس حكومة يعينه هو شخصياً، وأتبع ذلك بإقالة رئيس الوزراء الحالي وتعيين بديل له من اختيار رئيس الجمهورية، ويكون رئيس الوزراء مسؤولاً أمام رئيس الجمهورية، ويتم تعيين أعضاء الحكومة الذين يقترحهم رئيس الوزراء بقرار من رئيس الجمهورية، كما أقال وزيري الدفاع والعدل.

شهدت تونس بعد الثورة التي انطلقت في ١٧ كانون الأول/ ديسمبر ٢٠١٠ أول مراحل الانتقال الديمقراطي بالتخلص من ابن علي ونظامه الديكتاتوري وامتداداته التسلطية في أجهزة الدولة، وتتالت خطوات الانتقال الديمقراطي ونفذ الشعب التونسي عدة استحقاقات انتخابية ودستورية، وتم انتخاب ثلاثة رؤساء متتالين بشكل ديمقراطي، حتى أقدم الرئيس الحالي "المنتخب ديمقراطياً" قيس سعيد باتخاذ هذه الخطوات الانقلابية على الدستور بتجميعه السلطات القضائية والتنفيذية في يده، وغل السلطة التشريعية والمتمثلة بالبرلمان التونسي بمنعه من الانعقاد.

كل هذه الإجراءات الانقلابية سبقتها مجموعة من الخطوات الحثيثة لتعطيل البرلمان والحكومة، فقام قيس السعيد بإزاحة رئيس الحكومة المكلف لأنه لم يمتثل لرؤيته، وهذا ليس ضمن صلاحياته الرئاسية، ثم رفض الرئيس استقبال الوزراء لتأدية القسم، وتوج تلك الخطوات برفض إنشاء محكمة دستورية تفصل في الخلاف بين السلطات، وبذلك فهو تحول للقاضي الأول والخصم والحكم.

المراقبون للتحولات السياسية والعمل السياسي من محللين سياسيين وأكاديميين وباحثين وخبراء يعلمون تماماً أن الممارسة السياسية تحتمل الكثير من الأخطاء والعثرات، وأن مهمتهم الأولى هي تصويب ما يحدث على الأرض من قرارات سياسية وفقاً للأحكام النظرية الجامعة والمتفق عليها في إدارة الحياة السياسية، بخاصة تلك التي تشكل النواة الرئيسية لهيكل النظام الديمقراطي مثل الأحكام الدستورية العليا والفصل بين السلطات الثلاث، والتي تمثل في مجموعها السند القانوني والأخلاقي في النظم الديمقراطية والمرجعية العليا للفصل في الأزمات السياسية.

تمثل فترات الانتقال الديمقراطي والتحول من نظام ديكتاتوري وقمعي إلى نظام تشاوري ديمقراطي من أشد التحديات التي تترتب على النخب الثورية الديمقراطية، حيث يكون هامش استعادة بقايا الأنظمة القمعية لمؤسسات الدولة وبسط نفوذها بها من جديد أمرا محتملا بشكل كبير، وبذلك تعد ثلاث فترات تداول ديمقراطي للحكم غير كافية لتثبيت الحكم بالنظام الديمقراطي.

وما واجهته تونس من مشكلات داخلية والترويج الإعلامي الشعبوي بأن هنالك فسادا هائلا بفعل سياسات حزب النهضة؛ أمرٌ ازداد في وتيرته في الفترة الأخيرة، فتم التركيز الإعلامي بشكل غير مسبوق على التردي في الأوضاع الاقتصادية والصحية وغيرها. وعملت الآلة الإعلامية في عواصم الثورات المضادة في سبيل ذلك أيضاً، وصورت المعيقات الداخلية بأنها انهيارات جذرية لأسس الدولة، وأن الشعب التونسي أمام خيارين؛ إما تردي الأوضاع والمشكلات الداخلية تحت مظلة الديمقراطية، أو التسلطية والإقصاء للخصم السياسي الإسلامي والمتمثل بحزب النهضة من مشهد الحكم، وذلك بالترافق مع العصا السحرية لعواصم الثورات المضادة التي ستحل كافة المشكلات الداخلية.

رحبت شرائح واسعة من الشعب التونسي بالقرارات الانقلابية، وخرج جزء منه للشارع مرحّباً بتلك القرارات في مشهد احتفالي، كما لو أن انضمام تونس لعواصم الثورات المضادة هو تأشيرتهم نحو الرفاهية والحلول السحرية لمشكلاتهم الخاصة والعامة.

وهذه الوقائع تؤشر على أن المسار الديمقراطي لا يخدم على نفسه بنفسه، وأنه يحتاج لعدة دعائم مؤسسية وتوعوية شعبية تجعل النظام الديمقراطي هو الخيار الوحيد في مواجهة الأزمات الداخلية والخارجية، وفي حل الخصومات السياسية والخلافات الأيديولوجية والحزبية حسب المرجعية الديمقراطية. لكن بفعل عدم جهوزية تلك المؤسسات للحفاظ على الفكر والممارسة الديمقراطية وترسيخها لدى جيل كامل نشأ عقب الثورة في محيط عربي ديكتاتوري قمعي، أدى ذلك لانتشار المواقف الشعبوية المرحّبة بالإجراءات الانقلابية.

تبني محاسبة حزب النهضة على مشكلاته الداخلية بخطوات إقصائية وانقلابية؛ أكبر مؤشر على عدم جهوزية النخب السياسية والثقافية والشعبية التي رحبت بتلك الإجراءات الارتدادية على دفع أثمان الممارسة الديمقراطية وعملية المحاسبة عبر صناديق الاقتراع. فالأمر يبدأ هكذا مع دول الثورات المضادة، بالتلويح بالجزرة للشعب الذي يعاني من مشكلات جذّرتها القمعيات والديكتاتوريات أصلاً قبل الثورات، عبر حل تلك المشكلات مقابل التخلي عن الديمقراطية التي هي رصيد ومكتسب الشعب الوحيد الذي يحفظ له كرامته وسيادته على أراضيه، ثم يتم التعامل مع كافة المكونات السيادية كمادة للبيع والشراء كلما اقتضى الأمر، بما فيها الجغرافيا والسيادة المائية والسياسية، تماماً كما حصل مع نظام السيسي، حيث بدأ الأمر بالانقلاب العسكري، ثم بالتخلي عن تيران وصنافير، ثم الامتثال للابتزاز الإثيوبي على سيادة مصر المائية.

وبفعل الضغوطات من قبل قوى الثورات المضادة لحل مشكلاته الداخلية وانحياز النخب الثقافية الشعبوية للقرارات الانقلابية وتخليها عن دورها التنويري، فإن شرائح واسعة من الشعب التونسي في هذه المرحلة لا ترى المصير المماثل، وما ينتظر عرقلة العملية الديمقراطية من نتائج وتحولات، ومن مشكلات داخلية يمكن حلها بالطرق الديمقراطية، ينتقل المشهد السياسي بالتدريج نحو سيطرة خارجية لقوى الثورات المضادة على استقلالية القرار السياسي داخلياً وخارجياً.

فمن يقدم العصا السحرية عبر المال السياسي الذي يبشر بانتهاء الأزمات الداخلية، سيفرض على الديكتاتور رؤيته لسياسة البلاد الداخلية والخارجية. وهذا يعد السيناريو الأسوأ وهو الماثل أمامنا في الدول التي عانت من الابتزازات السيادية للقوى المضادة للثورات التي ما زالت تعطل الحياة السياسية فيها، وتقدم الدعم المادي والعسكري المشروط بالتحالف الإلغائي الذي تلغي فيه سياسة الممول أي سياسة أخرى لحلفائها.

عند الوقوف على ترحيب نخب واسعة بالقرارات الانقلابية وتعطيل الحياة الدستورية كطريقة تصفوية لخصمهم السياسي ومحاولة إظهار الإجراءات الانقلابية على أنها صراع بين الرئيس والإسلاميين، نستطيع أن نوجز عدة ملاحظات خاصة على سلوك النخب الثقافية العربية المنحازة لإيقاف العمل ضمن المسار الديمقراطي، وهي كالآتي:

أولاً: النزعة الثأرية التعصبية، والتي هي نتاج ترسبات ثقافة قبلية وديكتاتورية نشأت في ظلها تلك النخب، رغم ادعاءاتها المستمرة بأنها في صف الديمقراطية. فالنزعة الثأرية والتخلص من الخصوم السياسية والأيديولوجية كانت أقرب لوعيهم وممارستهم على أرض الواقع، وهذا مرده لعدم جهوزية تلك النخب لدفع أثمان الاستحقاقات العملية لأفكارهم الديمقراطية التي أعلنوا في أكثر من مناسبة الانحياز لها في كتاباتهم ومؤلفاتهم ومنشوراتهم، فكان خيار الانحياز للوضع الطارئ، والذي يضمن لهم الخلاص من خصومهم الأيديولوجيين أقل تكلفة بل بلا ثمن يذكر في تقديرهم.

ثانياً: النزعة العنصرية. تنظر مجاميع واسعة من النخب الثقافية العربية، بالذات المنتمية منها للتيارات اليسارية، للتيار السياسي الإسلامي على أنه يحمل قيماً متخلفة، وتنكر على خصومها السياسيين الإسلاميين قدرتهم على طرح برامج سياسية واجتماعية من شأنها أن تنقذ المجتمعات. وتتجلى النظرة العنصرية والفوقية الأيديولوجية لتلك النخب بمجموعة مصطلحاتها التي تستخدمها في وصف خصومها السياسيين من تعبيرات صلفة تدل على عدم جهوزيتها للتداول الديمقراطي السلمي للحياة السياسية، فنراها تصف التيارات السياسية الإسلامية بالإخونج وغيرها من عبارات تؤشر على عدم تقبل تلك النخب الثقافوية من يسارية وغيرها لمشاركة الحياة السياسية مع الإسلاميين الذين يمثلون الملايين من أبناء البلاد العربية.

ثالثاً: النزعة الشوفينية. تعتبر النخب الثقافية التي تصف نفسها بالتنويرية وتقف في نفس الوقت في صف الثورات المضادة أو الديكتاتوريات؛ أن عدوها الوجودي الوحيد هو البرامج السياسية والاجتماعية التي تطرحها الأحزاب التي تقوم على أساس ديني، وبذلك هي تعلن حالة من التطرف الأيديولوجي المضاد، بناء على تصورها بأن أي حزب يقوم على أساس ديني سينتهي به الأمر للممارسة المتطرفة، فتتخذ تلك الشخصيات الثقافية مواقف متطرفة إلى أقصى يمين اليسار استباقاً وتفادياً لإشراك النخب السياسية القائمة على برامج إسلامية في الحياة السياسية، وبذلك تتمثل فوقية شوفينية أيديولوجية على شركائها السياسيين في نفس المجال السياسي والحيز الجغرافي.

رابعاً: المشكلات الذاتية لدى تلك النخب الثقافية. ارتداد النخب الثقافية عن أفكار الحرية والديمقراطية انعكاس لمجموعة الأزمات التي يعايشونها في تقدير مواقفهم حيال التحولات التاريخية الكبرى، والتي تكشف مقدار انتماء تلك النخب لأفكارها أو تعاملها مع ما تقوله وتكتبه على أنه مادة للاستهلاك الورقي فقط، ومدى مصداقية تلك النخب واستعدادها للدفاع عن أفكارها حول حرية المصير والاستقلالية على أرض الواقع. فهل نحن أمام شخصيات ثقافية وفكرية وأدبية أصبحت دول الثورات العربية المضادة أسرع لمخاطبتها عبر جيوبها والإقامات الذهبية؛ من قابلية أي جهة أخرى لمخاطبة عقولها؟

خامساً: الديمقراطية الانتقائية، وهي الوليد المشوه والمطلب لمن عاشوا تحت مؤسسات دولة قمعية، وأعلى مراتب التشبيح والبلطجة في السلوك الثقافوي، حيث لم تنضج لدى المطالبين باستحقاقها قابلية استيعاب النظام الديمقراطي لكل مناحي الحياة ولخصومهم السياسيين والأيديولوجيين، والأنساق السياسية الممثلة للنظام السياسي برمته.

ينظرون للديمقراطية كممارسة أداتية لتعميق سيطرة نسق على آخر أو مكون على آخر، ولدينا من يفكر بهذا الشكل من كافة التيارات والأحزاب التي تطرح برامجها السياسية والاجتماعية على مقاسها فقط دون غيرها من مكونات المجتمع، في حين أن خطة وصولها للحكم لا تشمل كل من يخالفها في نظرتها السياسية أو الاجتماعية في مجتمعات تقدم البرامج العقائدية والأشخاص على البرامج العملية التي قد تنهض بكل مناحي الحياة، فتعمد للإقصاء والإلغاء والتهليل لممارسات قمعية ديكتاتورية كونها تخلصها من خصومها السياسيين بطرق اعتادوا عليها في ظل الديكتاتوريات.

الحياة الديمقراطية ورؤية أحزاب تدرك مخاطر الانقلاب على من يخالفونها في البرامج أمر يحتاج لبيئة ديمقراطية، ووعي ديمقراطي تعززه المؤسسات في الدولة، وغياب تلك الأدوار التأسيسية لتلك المؤسسات وتغييب الوعي الذاتي يجعلنا لا نستغرب أن نرى من وصلوا بطرق ديمقراطية للحكم يجهزون على خصومهم السياسيين بالطرق الانقلابية، كذلك لا نستغرب من يشبّح لتلك الممارسات من الشخصيات الثقافوية ممن هتفوا يوماً ضد الديكتاتوريات، طالما هنالك من يرفض الديمقراطية التي تفرز إسلاميين في أجهزة الحكم، ويشترط ديمقراطية بمخرجات إلزامية.

ما زالت التجارب ماثلة أمام الشعب التونسي، وما زال بالإمكان أن تحمي النخب الثورية الحرة منجزات ثورة كانون الأول/ ديسمبر ٢٠١٠، وما زال الوقت يسمح للشعب التونسي بتفادي النتائج المترتبة على بلع الرئيس التونسي للدستور والمنجزات الديمقراطية التي كلفت أبناء الثورة التونسية الكثير، وبالإمكان إنقاذ الديمقراطية التونسية إذا تحالفت القوى السياسية الحزبية على اعتبار إجراءات قيس السعيد انقلاباً على الديمقراطية، لا على أنها فرصة لتخلصهم من خصوصهم السياسيين، فإن لم تتوحد القوى الحزبية بمواجهة تلك القرارات، لن يمر وقت حتى نشهد سيناريو إجراءات جديدة تصفي أدوارها، وتعيد مشهد الحكم لحكم الرجل الواحد والحزب الواحد والرؤية الواحدة.