كتب

تمزيق الضفة والقطاع وطرد الفلسطينيين مخطط سابق على حرب 1967

الاحتلال وحده من قرر مصير الضفة والقطاع.. (عربي21)
الكتاب: أكبر سجن على الأرض.. سردية جديدة لتاريخ الأراضي المحتلة
المؤلف: إيلان بابيه
ترجمة: أدونيس سالم
الناشر: الأهلية للنشر والتوزيع/2020 


حددت الحكومة الإسرائيلية في الفترة الممتدة بين يونيو وأغسطس 1967 بوضوح، المبادىء التي سوف تلتزم بها كل الحكومات التالية في التعامل مع الضفة الغربية وقطاع غزة... لقد مثلت تلك الحكومة أوسع توافق صهيوني ممكن، فقد جلس الاشتراكيون من حزب العمال الموحد إلى جانب مناحيم بيغن المؤيد للصهيونية التصحيحية، وتشاركوا النصر والسلطة مع سائر الكتل والمجموعات التي تشكل حركة العمل الصهيونية، وانضم إليهم أعضاء من الأحزاب الدينية الأشد تطرفا، كما من الأحزاب السياسية الأكثر علمانية وليبرالية، لتتخذ قرارات حاسمة حددت مصير هذه الأراضي والشعب الذي يسكنها حتى يومنا هذا. 

في الواقع لم يضطلع أي طرف (عربي أو غربي) بدور محوري سواء في الماضي أم الحاضر في تقرير مصير الضفة والقطاع باستثناء حكومة إسرائيل. وكل القرارات التي اتخذت كانت نتيجة لا مفر منها للإيديولوجيا والتاريخ الصهيونيين. لقد عكست تلك القرارات التفسير الصهيوني المتوافق عليه حول حقيقة فلسطين كدولة لليهود فقط. ولم تكن حرب 1967 نتيجة حتمية لتصاعد التوتر بين إسرائيل وكل من سوريا ومصر، إذ أن سرعة حسم المعركة، وآلية الحكم التي وضعت قيد التنفيذ مباشرة بعد القتال، تثيران التساؤل حول حقيقة ما كان مخططا له منذ عقود.

الهدف الأساس كان ضم أكبر قدر ممكن من الأراضي ولكن بدون السكان. غير أن عملية تطهير عرقي أخرى بعد تلك التي حدثت عام 1948 كانت مستبعدة لسببن لا علاقة لهما بمدى لا أخلاقية هذا الفعل، إنما بسبب أنها قد توقظ الضمير الغربي الذي كان نائما حتى ذلك الوقت، ولأنه لم يكن من الواضح ما إذا كان الجيش الإسرائيلي جاهزا لخوض هذه المغامرة. مع ذلك فإن الطرد التدريجي وسلب الأراضي، التي أدت إلى تقليص عدد السكان الفلسطينيين بشكل كبير في الأراضي المحتلة، كانت سياسة مقبولة تماما لأنها ستسهل ضبط أقل عدد ممكن من الفلسطينيين ضمن جدران سجن ضخم. هذا هو ملخص التمهيد الطويل الذي يستهل به المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه كتابه "أكبر سجن على الأرض".
 
يشرح بابيه في كتابه طريقة تنفيذ القرارات المتخذة سنة 1967، التي بدأت بترسيم الحدود الجغرافية والديمغرافية لهذا "السجن الضخم"، تلته صياغة واضحة للبنية التحتية القانونية الهادفة إلى تنظيم الإدارة البيروقراطية للأراضي المحتلة، حيث حددت الحكومة الإسرائيلية في المرحلة الأولى مواقع استيطانية لليهود، ضمن ما أسماه "أسافين" دقتها في الضفة الغربية وقطاع غزة، كما اتخذت قرار واضحا بشأن النظام القضائي سوف يعتمد لإدارة شؤون السكان دون أن تحدد وضعهم القانوني. 

ويشرح بابيه أيضا كيف استخدمت إسرائيل نموذجين للسجن، الأول هو السجن المفتوح الذي ظل قائما ما بين 1967 واندلاع الانتفاضة الأولى في 1987، واتسم بقدر من القمع كان كافيا لإطلاق الانتفاضة. والثاني كان السجن المشدد الحراسة الذي فرضته بين 1987و1993، حيث أدى الضغط الدولي في ما بعد إلى محاولة جديدة لاستحداث سجن مفتوح "جرى تقديمه للعالم الخارجي على أنه عملية سلام، بينما ينهي السردية التاريخية لكتابه بتوضيح كيف تمت إعادة فرض السجن المشدد الحراسة الثاني على الضفة الغربية وقطاع غزة في القرن الحالي.

أسافين الاستيطان

قضت السياسة الفعلية لإسرائيل بتقسيم الضفة الغربية وقطاع غزة إلى منطقتين رئيسيتين؛منطقة فلسطينية، ومنطقة يهودية. وشكلت المناطق الجبلية التي تتوسط الضفة، التي تضم المدن الرئيسية والأعلى كثافة سكانية، مشكلة بالنسبة للخبراء الاستراتيجيين الإسرائيليين، أما القسم المتبقي من أراضي الضفة الغربية فكان يعتبر بطريقة ما جزء لا يتجزء من الدولة اليهودية الموسعة المستقبلية. 

وبدأت مصادرة الأراضي بشكل مكثف في القدس مع نهاية 1968، حيث لم ينل غالبية السكان أي تعويض عن هذه المصادرة، حيث كانت الوسيلة الأبرز لتوسيع مساحة هذا "الإسفين" السرقة الممنهجة للأراضي، والاستيطان، وتصنيف بعض المناطق كمساحات خضراء، أي مناطق محظورة على الفلسطينيين، وهدم المنازل، والرفض المتكرر لطلبات الفلسطينيين بتشييد إضافات على أبنيتهم، والامتناع عن الاستثمار في أي بنية تحتية لمشاريع إسكان فلسطينية مستقبلية، مع أن الفلسطينيين كانوا يدفعون الضرائب ذاتها التي يدفعها المستوطنون. يقول بابيه أنه في اليوم الذي وقع فيه الاحتلال طرد إلى الأردن ستة آلاف فلسطيني كانوا يعيشون في ثلاثة من أصل الأحياء الأربعة في البلدة القديمة: حي المغاربة الذي هدم بالكامل، وحي السريان، وحي الشرف، وكانت هذه الأحياء تضم خمسة مساجد، وأربع مدارس، وسوقا تاريخيا، تعود كلها إلى عصر المماليك، بيد أن عملية التهويد محتها من الوجود.

وبينما عملت الحكومة الإسرائيلية على ترسيم حدود "القدس الجديدة"، تولى سياسي واحد مسألة ترسيم أكثر وضوحا للحدود بين دولة يهودية مستقبلية من جهة، والضفة الغربية وقطاع غزة الفلسطينيين من جهة أخرى، وهذا الرجل هو إيغال آلون، الذي ركز جهوده على الاستيطان في الأراضي المحتلة، لضمان قضم أكبر مساحة جغرافية من دون دمج السكان. وترجمت خطة آلون إلى استراتيجيتين كبيرتين الأولى: جغرافية حددت بوضوح الأجزاء المنوي تهويدها واستيطانها، والثانية:فرض واقع إداري حدد طبيعة المكافآت والعقوبات المترتبة على قبول الحكم الإسرائيلي أو رفضه. في استراتيجية التهويد والاستيطان كانت الخطوة الأولى تقضي باستيطان نقطة بعيدة، ومن ثم المطالبة بجميع الأراضي بين إسرائيل وهذه المستوطنة اليهودية، يلي ذلك تطبيق مبدأ الحصرية على جميع الطرق المؤدية إليها، وبعد ذلك تأمين الحماية لهذه الرقعة الجديدة من الأرض بإقامة معسكرات تدريبية على الأراضي المصادرة. 

وابتداء من 1967 لجأت إسرائيل إلى المراسيم الصادرة عن الحكم العسكري للاستيلاء على أكثر من 41% من أراضي الضفة الغربية. وبحلول 1985 باتت تسيطر على 52% من أراضيها. ومع 1992 ارتفعت هذه النسبة إلى 60.8%. وانتهت هذه العملية بإنشاء 130 مستوطنة في الضفة الغربية، و16 مستوطنة في قطاع غزة. وفي نهاية القرن العشرين بلغ عدد المستوطنين المقيمين في المكان 200 ألف نسمة، مع تسجيل عدد مماثل من المستوطنين المقيمين في منطقة القدس الكبرى. 

على غرار الضفة الغربية شهد قطاع غزة مزيجا من عمليات الطردوالاستيطان لخلق واقع جيوسياسي جديد. صحيح أن النموذج الاستيطاني في القطاع استغرق وقتا أطول، لكن إقامة بنية تحتية للسيطرة على القطاع كانت تقتضي مصادرة الأراضي وطرد الناس منها حتى قبل نهاية 1967. وبحسب مصادر الأمم المتحدة طردت إسرائيل نحو 180 ألف فلسطيني في الأيام الأولى من احتلال الضفة والقطاع.

وفي اليوم الأول من دخول الجيش الإسرائيلي إلى الأراضي المحتلة وزعت على السكان قائمة بالأنظمة الجديدة، التي نصت على استيلاء الجيش على كل الأراضي التي كانت ملكا للحكومة الأردنية، ووجوب تسديد جميع الضرائب إلى الحاكم العسكري. 

بالإضافة إلى إنشاء خمس محاكم عسكرية، وسبعة مراكز اعتقال. يبين بابيه أن المشرعون الإسرائليون تعاملوا في الأراضي المحتلة مع القانون الدولي من خلال مقاربة غير نزيهة. فالأراضي المحتلة اعتبرت تارة خاضعة للقانون الإسرائيلي، وتارة أخرى غير خاضعة له، بما يخدم استراتيجية استيطان تلك الأراضي. فكان فرض القانون العسكري يبرر على قاعدة أنه ينبثق من الواجبات والامتيازات التي يمنحها القانون الدولي لإسرائيل بصفتها قوة محتلة. ولكن عندما يعرقل هذا القانون الجهود الاستيطانية كان يجري استحضار القانون الإسرائيلي. وقد تم وضع الصيغة النهائية لهذا النظام المزدوج والمعقد في أواسط سبعينيات القرن الماضي.

السلطة المطلقة للاحتلال

فوجىء الاسرائيليون باندلاع الانتفاضة الأولى، وألقوا باللوم على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي كانوا يرون أنها تحسنت كثيرا إبان الحكم الإسرائيلي، غير أن اقتصاد الأراضي المحتلة كان يدار إلى حد كبير كما كانت المستعمرات تدار، ما جعلها في حالة تبعية كاملة للمستعمر، وقد أدت إلى القضاء على قطاعي الزراعة والصناعة، مع غياب شبه كامل للبنية التحتية للاستثمار أو الادخار وارتفاع كلفة المعيشة، وعدم القدرة على الوصول إلى أسواق التصدير العربية. وفي ظل استمرار نموذج السجن الكبير كانت حقوق العمل في إسرائيل أقرب ما تكون إلى "المكافآت" على السلوك"الجيد" منها إلى حقوق مكتسبة. وظلت السياسة القمعية الانتقامية ضد الشعب الفلسطيني جزءا من هذا الواقع اليومي. فقد هدمت الحكومة الإسرائيلية بين عامي 1967- 1982/ 1338 بيتا فلسطينيا في الضفة الغربية. كذلك اعتقلت خلال الفترة الزمنية ذاتها أكثر من 300 ألف فلسطيني بدون محاكمة لفترات زمنية مختلفة. 

يوضح بابيه أنه السنوات ما بين 1987و1993 كانت فترة تأسيسية صيغت خلالها بعض الوقائع القائمة اليوم في الضفة الغربية وفي قطاع غزة حتى سنة 2005. حيث أظهرت بيروقراطية الاحتلال سلطتها المطلقة بتحويل السياسات المؤقتة بما فيها العقوبات إلى سياسات روتينية. من ذلك مثلا نصب الحواجز الأمنية، التي بدأت كسياسة تهدف إلى عزل القدس عن الضفة الغربية، وكتعبير عن رغبة حازمة بنزع هويتها الفلسطينية، وهو ما شكل بطريقة ما استمرارا حتميا لسياسات "الأسافين". 

أيضا حدوث تغيير دراماتيكي في وظيفة وحدات النخبة في الجيش وفي الهدف منها، فقد تحولت إلى فرق موت ومجموعات من العملاءالمخربين الذين يندسون في المظاهرات الفلسطينية بملابسهم المدنية، أو بكامل عدتهم العسكرية حين يهاجمون"العدو"، حيث كانوا كذلك رأس حربة في الاعتقالات الجماعية وعمليات الإساءة والتعذيب التي طالت المعتقلين. 

ومن هذه السياسات الانتقامية قرار منع العمل داخل إسرائيل، النشاط الذي كان يساهم ب25% من الناتج المحلي الإجمالي للأراضي المحتلة، عدا عن هدم منازل الفلسطينيين دون إنذار، وتدمير بنيتهم التحتية الريفية، كاقتلاع أشجار الزيتون، وتخريب المحاصيل، فضلا عن تحويل المياه بعيداعن المدن والقرى الفلسطينية وفي كثير من الأحيان إلى المستوطنات اليهودية.

بحلول عام 2017 كانت نسبة 40% من مساحة الضفة الغربية تقع تحت الحكم الإسرائيلي المباشر. وعززت إسرائيل وجودها داخل تلك المساحة بالحواجز والقواعد العسكرية، والمناطق العسكرية المقفلة. ركزت هذه السياسة على المنطقةالمسماة بحسب اتفاق أوسلو(ج) من الضفة الغربية، وكان هدفها خفض عدد السكان الفلسطينيين القاطنين هناك. 

في 1967 كان نحو 300 الف فلسطيني يعيشون في هذه المنطقة، أما اليوم فلا يتجاوز عددهم 50 الفا. ببنما ارتفع عدد السكان اليهود من حوالي ألف إلى أكثر من 400 الف في الفترة الزمنية ذاتها. يقول بابيه: ظل السجن الكبير يخضع لتعديل مستمر، فالضفة الغربية لا تخضع للحصار على نحو مماثل لقطاع غزة، لكن الدخول إليها والخروج منها محدودان جدا. 

كذلك تخضع الحركة داخلها إلى قيود مشددة، فجميع الطرق الرئيسية هي طرق تمييز عنصري، أي أن الفلسطينيين ممنوعون من استخدامها، كما أن الحركة عليها تمثل تحديا بعد أن أنهت السلطات الإسرائيلية بناء طريق سريع يقسم الضفة الغربية إلى شطرين من الشمال إلى الجنوب.. وسواء عاش الفلسطينيون ضمن مساحة ال40% أو خارجها في الضفة الغربية، حسب تقرير "اللجنة المستقلة لحقوق الإنسان" في 2010، فإنهم تعرضوا إلى حملة ممنهجة من انتهاكات حقوق الإنسان على أيدي الإسرائيليين، وعلى أيدي السلطة الفلسطينية أيضا.. حيث يقوم المساجين أنفسهم بحفظ السلام لسلطات السجن!.