قضايا وآراء

لماذا كانت جماعة الإخوان؟ وما أهمية بقائها؟ وإلى متى؟ (5–5)

1300x600
إذن، ولدت جماعة الإخوان المسلمين، دون أي ترتيب مسبق من جانب الأستاذ البنا (رحمه الله).. فعندما أقبل عليه "المؤمنون بدعوته" يسألونه: "ما اسمنا ومن نكون؟"، كانت إجابته غاية في البساطة والتوفيق: "نحن إخوة في خدمة الإسلام، فنحن إذن "الإخوان المسلمون".. "وجاءت بغتة.. وذهبت مثلاً.. وولدت أول تشكيلة للإخوان المسلمين، من هؤلاء الستة، حول هذه الفكرة، على هذه الصورة، وبهذه التسمية"، حسبما جاء على لسان البنا، في كتابه "مذكرات الدعوة والداعية".

وضوح الرؤية وعبقرية القيادة والإدارة

كان الأستاذ البنا (على المستوى الشخصي) آسفا ومتألما لما آل إليه وضع الأمة التي فقدت رأسها (عبد المجيد الثاني، آخر سلطان عثماني- سنة 1924)، مهموما بإعادة بناء كيانها الذي انهار أمام عينيه، وإعادة نسج لُحمتها التي تفككت، عملا بقوله تعالى: "وإن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاتقون"، وما من سبيل إلى ذلك، إلا إيقاظ المسلمين، بالدعوة والموعظة الحسنة التي كان البنا رائدا فيها، ومثالا يحتذى في ممارستها، وأن ينتقل بالإسلام (لدى الناس) من صورته الطقوسية، إلى صورته الحركية التي عاشتها القرون الأولى، فدانت لها الدنيا.. أمة واحدة.. مسلمون لربهم عابدون، لدينهم عاملون، لوحدة الأمة واستعادة مكانتها التي تستحق ساعون.. هذا كل ما كان يشغل البنا، وكرس له حياته القصيرة التي انتهت باغتياله، عن اثنين وأربعين عاما فقط!

مع حركة البنا الدؤوبة، وجدت فكرته أو "أجندته" قبولا بين الناس، على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية، ومستوياتهم الثقافية، وما نزل داعيا في بقعة إلا وترك خلفه فيها "شعبة إخوانية" عهد بمسؤوليتها إلى من توسم فيه الفطرة السليمة، والغيرة على الإسلام، والاستعداد للبذل والعطاء، والتضحية ماديا ومعنويا.. وكانت "شُعب الإخوان" مشرعة الأبواب، لا يُرد عنها أحد، أيا كانت غاية الزائر من دخولها.. فمن أراد التزكية وجد من يعطي الدروس، ومن أراد التسلية والمسامرة، وجد من يتحدث إليه فيما يفيد، ومن أراد أن يكون "أخا عاملا" في الإخوان فما عليه إلا تسجيل اسمه وتسديد اشتراك زهيد، حسب حالته المادية، ومن ثم يصبح "أخا" في التو، وعضوا في "أسرة" لا تزيد عن خمسة أشخاص، تهدف أول ما تهدف إلى التعارف والتكافل، وممارسة الأخوّة "الإسلامية" عمليا.. هكذا بكل بساطة.

انتشرت "شُعب الإخوان"، وزاد عدد منتسبيها على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية والثقافية، فكان لا بد للبنا أن يخطو خطوته التالية؛ كي يمكنه الحديث إلى هذا العدد الهائل، في غياب كل وسائل التواصل التي نعرفها اليوم، فخصص يوم الثلاثاء من كل أسبوع لإلقاء درسه أو موعظته؛ على الحضور الذين كانوا يتوافدون في هذا اليوم على "المركز العام" من كل فج عميق، وعُرفت هذه اللقاءات باسم "حديث الثلاثاء" أو "عاطفة الثلاثاء".
أثبت الواقع المُعاش الذي نحن عليه شهود، خضوع كافة المؤسسات الدينية، في بلادنا قاطبة، العريقة منها والحديثة، لهيمنة السلطة السياسية

ثم شرع في كتابة رسائله التي شكلت الإطار العام لفكرة الإخوان المسلمين؛ ليجد فيها "الأخ" ما ينبغي أن يعرفه عن "دعوته"، وما ينبغي لغير الإخوان أن يعرفوه عن الإخوان، وكان بعضها بمثابة دستور ومنهج عمل.. ففي رسالتيّ "إلى أي شيء ندعو الناس؟" و"هذه دعوتنا" شرح البنا (بوضوح) ملامح "دعوته"، وفي رسالة "التعاليم" تناول "أركان البيعة" على العمل للإسلام. وفي رسالة "المؤتمر السادس" وجه خطابه (حصرا) إلى "الإخوان العاملين المجاهدين"، أي "النخبة" إذا صح التعبير، وهم الذين باتوا على وعي كامل بأهداف "الدعوة" وغايتها، ومستعدون للبذل والتضحية في سبيلها بالنفس والنفيس، إلى جانب رسائل أخرى، تناول فيها قضايا ومفاهيم شتى.

ضرورة أثبت الواقع الحاجة إليها..

ولأننا بصدد بلورة خلاصات لهذه السلسلة، في حلقتها الأخيرة، فليسمح لي القارئ الكريم، بالقفز من مربع التاريخ، إلى مربع الواقع..

لقد أثبت الواقع المُعاش الذي نحن عليه شهود، خضوع كافة المؤسسات الدينية، في بلادنا قاطبة، العريقة منها والحديثة، لهيمنة السلطة السياسية!.. فهذا الأزهر (في مصر) بكل مكوناته: مشيخة الأزهر، دار الإفتاء، مجمع البحوث الإسلامية، وزارة الأوقاف، جامعة الأزهر... إلخ، يخضع لتدخل مباشر من السلطة التنفيذية، ممثلة فيمن يشغل موقع رئيس الجمهورية. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، منها على سبيل المثال طلب السيسي من شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب العمل على "تجديد الخطاب الديني"، وبعبارة أخرى "تمييع الخطاب الديني"، ولما وجد مقاومة "سلبية" من شيخ الأزهر، عهد بهذه المهمة إلى المفتي ووزير الأوقاف اللذين لم يتوقفا يوما عن "رمي" الناس بكل ما هو غريب ومستهجن، ولا يقول به طالب في الإعدادية الأزهرية! كما استعانت أجهزة السيسي التي تدير ملف الإعلام، بإعلاميين وكُتاب (منهم ملحدون) للإسهام في هذه الهجمة الشرسة على الإسلام. وقبل أيام قلائل، طالب السيسي المصريين بمراجعة معتقداتهم التي ورثوها عن آبائهم.. كان ذلك في اتصال هاتفي مع إحدى الفضائيات!

وهذه السعودية التي كان يُضرب بها المثل في التشدد والتطرف، حتى أن نفرا من فقهائها ألفوا رسائل في تحريم الموسيقى والغناء، وتفسيق حليق اللحية، ووجوب النقاب.. ها هي اليوم تلغي هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتنشئ "هيئة الترفيه" التي خصصت الجزء الأكبر من نشاطها لإقامة الحفلات الموسيقية المختلطة التي تُمارس خلالها المحرمات شرعا وعرفا، كما لم تسلم مؤسسة الحرمين الشريفين من سطوة السلطة، فأصبح منبر المسجد الحرام بوقا للنظام الحاكم، يبث من فوق رسائله، ويصفي حساباته مع خصومه في الداخل والخارج! وعلى ذلك فقس.
سيطرة السلطة التنفيذية (في بلادنا) على المؤسسات الدينية التي هي بمثابة "مرجعيات" يثق فيها عامة الناس، كونها أمينة أو مستأمنة على دينهم، جعلت منها "مؤسسات وظيفية" ملزمة بتنفيذ ما تطلبه منها السلطة التنفيذية، ما يعني أن الدين أصبع "عجينة" بيد هذه السلطات الحاكمة

إن سيطرة السلطة التنفيذية (في بلادنا) على المؤسسات الدينية التي هي بمثابة "مرجعيات" يثق فيها عامة الناس، كونها أمينة أو مستأمنة على دينهم، جعلت منها "مؤسسات وظيفية" ملزمة بتنفيذ ما تطلبه منها السلطة التنفيذية، ما يعني أن الدين أصبع "عجينة" بيد هذه السلطات الحاكمة، تشكلها كيفما تشاء، وتوظفها متى شاءت، ضد من تشاء! هذا وضع لا يستقيم بأي حال، ويجب دحض وتفنيد كل ما ينتج عنه من انحرافات، فمن يمكنه القيام بذلك سوى الإخوان المسلمين، بوسطيتها وشمولية فهمها للدين، إلى جانب العلماء العاملين المستقلين؟

الدعوة والسياسة اليوم وغدا

الإخوان المسلمون (في تقديري) كيان دعوي بالأساس، من حقه، ومن واجبه أيضا، أن يكون له موقف من كل ما يجري، على مختلف الساحات؛ الدينية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والصناعية، والزراعية، والدفاعية، والشُرَطية، وحتى الفنية والرياضية، اتساقا مع شمولية الإسلام التي تميز دعوة الإخوان المسلمين.. ويتم التعبير عن هذا الموقف في بيان، يُنشر على منصات "الجماعة" الإعلامية.. أما المنافسة السياسية، فهذا شأن "أفراد الإخوان" وليس شأن "الجماعة" قيادة وكيانا، أي أن تكون المشاركة السياسية عبر "أفراد" يحملون فكرة الإخوان، ويتبنون فهمها للدين ونظرتها للحياة، يرون في أنفسهم الأهلية والقدرة على المنافسة السياسية، وليس من خلال "تكليف" أو "اختيار" القيادة لشخصيات؛ قد لا تكون أهلا للمنافسة السياسية. وقد وقفت بنفسي على حالات كثيرة، من هذا النوع! ولهؤلاء الأفراد الحرية الكاملة في تكوين "أحزاب سياسية"، وليس حزبا واحدا.
لا أقول بالفصل بين الدعوي والسياسي، ولكني أقول بـ"التخصص"، وفقا لقاعدة "كلٌّ مُيَسّر لِما خُلِق له".. فالداعية (المتفرغ للدعوة) شخصية تجمع ولا تفرق، ولا تنافس أحدا في شأن من شؤون الدنيا

أنا لا أقول بالفصل بين الدعوي والسياسي، ولكني أقول بـ"التخصص"، وفقا لقاعدة "كلٌّ مُيَسّر لِما خُلِق له".. فالداعية (المتفرغ للدعوة) شخصية تجمع ولا تفرق، ولا تنافس أحدا في شأن من شؤون الدنيا، فالمنافسة (بطبيعتها) تولد نوعا من "الخصومة" أو النفور" وتخلق "حاجزا" بدرجة ما بين المتنافسين، وهذا يخصم من قبول الداعية لدى الجمهور، غير أن من حقه، بل من واجبه أن يناقش أمورا سياسية، كلما اقتضى الأمر.. أما السياسي فهو مؤهل للتنافس السياسي، وميزة السياسي الذي يحمل الفكرة "الإخوانية" أن خطابه خالٍ من التشهير بالخصوم الذي هو السلوك السائد بين السياسيين، على تفاوت في الدرجة، وأنه لا يكذب، وأنه يعمل لصالح الجمهور وليس لحسابه الخاص، وأنه يتعامل مع المنصب السياسي باعتباره مَغرما لا مغنما.. إلخ.. فهو (إذن) يمارس الدعوة (أثناء المنافسة السياسية) بسلوكه المنضبط، لا بخطابه الذي يجب أن يكون سياسيا بامتياز، يطرح فيه المشاكل والحلول والبرامج.

نخلص من كل ما تقدم، إلى أن المجتمع سيظل بحاجة إلى "فكرة" الإخوان المسلمين حتى لو تفكك التنظيم الحالي، لأي سبب من الأسباب، وهو (اليوم) في حالة تنذر بالتفكك للأسف الشديد. أما إذا تمكن "التنظيم" من تجاوز هذه الأزمة، وقام بالمراجعات اللازمة التي من شأنها معالجة السلبيات التي علقت بالفكرة، وجُلها يعود للتعسف في قراءة رسائل الأستاذ البنا، فسنكون (حينئذ) أمام تأسيس أو ميلاد جديد للجماعة، يمكنها (وفق التصور الذي ذكرت آنفا) أن يستمر بالعمل إلى آمادٍ طويلة، شرط المراجعة التطوير المستمرين.. فهذا التصور لا يضع "كيان الإخوان" في مواجهة "كيان السلطة"، أو منازعتها في "قيادة" المجتمع، مع احتمال وقوع تصادم معها في بعض المواقف السياسية، وهذا أمر طبيعي ومقبول في ظل سلطة "راشدة" تؤمن بأهمية الرأي الآخر في تسديد مواقفها وتحسين أدائها.

twitter.com/AAAzizMisr