قضايا وآراء

كيف تكنس الولايات المتحدة الحكام وتلعب بمصائرهم؟

1300x600
لم تكن مقالتي السابقة (ماذا تخبئ الريح لشتاء مصر؟!) قادرة على حمل كل ما يتعلق بمصير السيسي والآلية التي يمكن أن يخرج بها من الحكم، كما أنني خمنّت مجرد تخمين بانقلاب الولايات المتحدة على السيسي، ولم أجزم به، وذلك بناء على معطيات داخلية وخارجية جديدة ولافتة، ولا أحد يستطيع أن يقطع بأحداث المستقبل، فهي في علم الله وحده..

وتأتي هذه المقالة استكمالا لبعض النقاط المتعلقة بمقالتي السابقة، وقد دفعني لذلك تعليق أحد الإخوة عليها.

ابتداءً نحن لا نقول بأن الولايات المتحدة قادرة على تغيير أي حاكم بضغطة زر، ولا نتوهم ذلك مطلقا، ولا نعتقد بأن الولايات المتحدة "إله أرضي" يمكنه فعل ما يشاء، وإلا لما خرجت من عدد من القواعد العسكرية في العراق ولما هربت من أفغانستان مذعورة تجر خلفها أذيال الخيبة والخسران المبين، وقبل ذلك بنحو 50 عاما حيث خرجت من فيتنام مهزومة كسيرة..
الولايات المتحدة تلعب لعبة ذكاء، وإن كانت ألعابها مكشوفة معظم الوقت؛ فهي حين تجد أن سقف الحاكم آيل للسقوط، وأن وقوفها إلى جانبه قد يعود عليها بالخسارة المعنوية أمام شعب ما، أو إذا أحست أنه لم يعد خادما مطيعا، أو أن وجوده يضرّ بها؛ فإنها تتخلى عنه

كل ما في الأمر أن الولايات المتحدة تلعب لعبة ذكاء، وإن كانت ألعابها مكشوفة معظم الوقت؛ فهي حين تجد أن سقف الحاكم آيل للسقوط، وأن وقوفها إلى جانبه قد يعود عليها بالخسارة المعنوية أمام شعب ما، أو إذا أحست أنه لم يعد خادما مطيعا، أو أن وجوده يضرّ بها؛ فإنها تتخلى عنه، وتصدر ضده تصريحات متدرجة، محكومة بقوانين اللعبة السياسية الأمريكية إلى أن يسقط، وإن لم يسقط تعيد علاقتها معه بالتدريج، حسبما تقتضيه الظروف والمصالح، أو تظل على مسافة منه وتعيد المحاولة..

ولو عدنا بالذاكرة إلى الثورة المصرية (كانون الثاني/ يناير 2011)، وكيف تدحرجت التصريحات الأمريكية تبعا للحالة المتحركة على الأرض، لفهمنا معنى لعبة إسقاط الأنظمة..

في بداية الثورة المصرية اكتفت الولايات المتحدة بالفرجة كغيرها من الدول، ولم تكن تعلم - قطعا – بما ستـؤول إليه الحال، وحين أحست باحتمالية نجاح الثورة؛ طالبت الحكومة المصرية بعدم التصدي العنيف للتظاهرات، وكررت هذا المعنى بأساليب متعددة، وبدأ إعلامها وخصوصا CNN يبث الأخبار والمشاهد المصورة بشكل مكثف. وقد كنت حينها في القاهرة وشهدت الأحداث كلها عن قرب شديد من خلال إقامتي في فندق يقع في قلب ميدان التحرير، ورأيت بأم عيني قناة CNN وغيرها من القنوات وهي تنصب أجهزة النقل المباشر على أسطح الفنادق حين حمي الوطيس.

وربما لم يربط كثيرون بين تصريحات أوباما وبين ما يحدث على الأرض؛ فقد بدأ أوباما يصعّد شيئا فشيئا اتساقاً مع ما يحدث على الأرض، وحين أحسّ أن نظام مبارك ينهار، قال بصوت مرتفع: "على مبارك أن يتخلى عن كرسي الرئاسة"، وفي اللحظة الحرجة التي تأكد فيها أن مبارك قد انتهى أجله لا محالة؛ قال: "على مبارك أن يتنحى الآن"، وركز على كلمة "الآن"..!!

فالولايات المتحدة لا تخلع الحاكم مباشرة، بل بطريقتين:

الأولى: التخطيط - عبر أذرع موالية لها - لانقلاب عسكري كما حدث في كوبا/ كاسترو، وفنزويلا/ تشافيز، وتركيا/ أردوغان وغيرها..

الثانية: التخلي عن الحاكم، ودفع حلفائها الغربيين لذات الفعل، كما هو الحال في سقوط مبارك، وهو ما قد يحدث في مصر السيسي في وقت من الأوقات.
استمرار الولايات المتحدة في التعامل مع مصر من منطلق المصالح المشتركة فقط؛ سيدفع المنطقة إلى مزيد من الاضطراب والاحتقان، وسيحبط القوى التي تؤمن بالديمقرطية وحقوق الإنسان، وسيدفع إلى نشوب الفوضى

وقد يأتي التخلي عن السيسي في لحظة ما لأسباب منها:

* إن استمرار الولايات المتحدة في التعامل مع مصر من منطلق المصالح المشتركة فقط؛ سيدفع المنطقة إلى مزيد من الاضطراب والاحتقان، وسيحبط القوى التي تؤمن بالديمقرطية وحقوق الإنسان، وسيدفع إلى نشوب الفوضى وعدم الاستقرار..

* علاقة السيسي السابقة مع ترامب العدو اللدود لبايدن وحزبه، والانحياز الذي أبداه السيسي للحزب الجمهوري، مع التقليل من شأن الديمقراطي من خلال خلية أحمد موسى الإعلامية التي طبّلت لترامب وبرنامجه، وجزمت بفوزه على حساب بايدن إبان الانتخابات الأخيرة، إضافة إلى تصريحات عدد من الساسة المصريين في ذات السياق؛ مما تسبب بجرح في جبين بايدن، ترك ندبة صغيرة يتحسسها بأطراف أصابعه بين الحين والآخر..!!

* إحساس الإدارة الأمريكية بأن السيسي لا يمثلها في مصر بوصفه شخصية غير قادرة على لعب دور الرئيس المقنع لشعبه، لاشتداد ظلمه وقهره لهذا الشعب، ولانتفاء العدالة والسلم الأهلي، ولا تريد الولايات المتحدة أن يُحسب السيسي عليها، لا سيما أن ترامب وصفه بـ"دكتاتوري المفضل". وربما لا يحب بايدن أن يكون من بين حلفائه دكتاتور مفضل، وكان بايدن صرح بعد الإفراج عن محمد عماشة قائلا: "محمد عماشة في المنزل أخيرا بعد 486 يوما في السجون المصرية، بسبب حمله لافتة في تظاهرة... الاعتقال، التعذيب واستبعاد النشطاء مثل سارة حجازي ومحمد سلطان أو تهديد عائلاتهم غير مقبول. لا مزيد من الشيكات على بياض لديكتاتور ترامب المفضل"..!!

* لا ننسى أن بايدن كان قد وعد بالوقوف في وجه دكتاتورية السيسي في دعايته الانتخابية؛ ومع معرفتنا بأن الدعاية الانتخابية شيء والواقع شيء آخر، إلا أن هذا لا يعني أن يتخلى بايدن تماما عن وعوده الانتخابية؛ فهو يراقب الواقع المصري، ليحدد موقفه منه في القادم من الأيام. وقد حاول السيسي أن يجمّل صورته من خلال إجراءات شكلية كبناء السجون 7 نجوم، ورفع حالة الطوارئ؛ إلا أنه في المقابل قام باعتقال وإعادة اعتقال المئات من الأشخاص في فترة وجيزة، لا تتعدى الشهر الواحد.
في حين تتفاخر الأمم بالمؤسسات التربوية والجامعات المتخصصة والمستشفيات المجهزة؛ تفتخر مصر ببناء السجون، بينما الطلبة في المدارس يقعدون على الأرض

وبالمناسبة، أنا لم أسمع من قبل ولم أرَ إعلاما يطبل لأيام طويلة، وكلما تم الحديث عن الحرية والديمقراطية، كما فعل إعلام السيسي في الحديث عن السجون الجديدة؛ ففي حين تتفاخر الأمم بالمؤسسات التربوية والجامعات المتخصصة والمستشفيات المجهزة؛ تفتخر مصر ببناء السجون، بينما الطلبة في المدارس يقعدون على الأرض، والبحث جار عن 300 ألف معلم متطوع لسد العجز في عدد المعلمين؛ مما يجعلنا متأكدين من أن السيسي كان يقصد ما يقول حين قال مقولته الشهيرة: "يعمل إيه التعليم في وطن ضايع"؟!

* المطالبات المستمرة من خلال منظمات حقوق الإنسان وهيئات المجتمع المدني وجماعات ضغط في الكونغرس، بمعاقبة مصر على همجية الإجراءات الأمنية التي تقوم على الاعتقال والتعذيب والترويع والإخفاء القسري والقتل خارج نطاق القانون والإهمال الطبي المؤدي إلى الوفاة.. إلخ.

أما ما حدث مؤخرا من تواصل بين السيسي وبايدن؛ فهو لا يعدو كونه تواصلا مصلحيا، لا تواصل "الكيمياء" التي كانت تربط ترامب بدكتاتوره المفضل..!!!
حين ترفع الولايات المتحدة يدها عن حاكم باطش، تصبح فرص التخلص منه أكثر قابلية للتحقق، لكن ليس من الحصافة في شيء أن نقلل من دور أمريكا الذي تلعبه في الكرة الأرضية

وأود أن أوضح أنني لم أدعُ في مقالتي السابقة إلى الاتكاء على الولايات المتحدة لتخلع حكامنا الظلمة بالنيابة عنا، لكن حين ترفع الولايات المتحدة يدها عن حاكم باطش، تصبح فرص التخلص منه أكثر قابلية للتحقق، لكن ليس من الحصافة في شيء أن نقلل من دور أمريكا الذي تلعبه في الكرة الأرضية؛ فهذه روسيا الدولة العظمى ترتعد فرائصها لمجرد أن يلوح رئيس الولايات المتحدة بعقوبات اقتصادية عليها، وهذه إيران التي تتحطم من الداخل بسبب الحصار الاقتصادي، ومثلها كوبا وكوريا الشمالية، والأمثلة كثيرة..

جميل أن نكون أقوياء واثقين من أنفسنا، لكن علينا أن ندرك ما يدور حولنا، وعلينا أن نفهم أننا لا تعيش في هذا العالم وحدنا، وأن نظرية 1 + 1 = 2 ، باتت قابلة للأخذ والرد بعيدا عن المنطق الرياضي الكلاسيكي، في ظل عالم لا يؤمن بالحقيقة ولا يحترم المنطق والعدل والقانون..

إنها عدالة القرد ومنطقه المخادع في قسمة قطعة الجبن بين القطين، والتهامها كلها بالحيلة والمكر، مدعيا تحقيق العدالة.. وما أكثر القطط التي تقتتل على قطع الجبن في وطننا الذي أدمن المواء، وأكثر القرود من حولنا..!!