قضايا وآراء

مائة عام من الهراء (2)

1300x600


(لوحة برج جامع الكتبية لونستون تشرشل 1943)


كان "الأربعون حرامي" المشاركون في مؤتمر القاهرة (1921)، والمقيمون في معلم من أجمل وأفخم النماذج المعمارية على نيل القاهرة؛ وهو فندق سميراميس القديم (الذى هدمناه للأسف بأيدينا، بحسب مقال الشاذلي)، يحاولون رسم خرائط قصرية لـ"الشرق الأوسط". وهو المصطلح الاستعماري الذي يصف رقعة جغرافية بعيدا عن أي معيار أو مفهوم قومي أو وطني أو اجتماعي أو ثقافي/ حضاري، وقد رسخ في الذاكرة وأضحت له أسانيده "العلمية" الزائفة، بتوالي الهزائم والنكبات.. والقاهرة، وقتها مشغولة بـ"قضيتها".

وكانت مصر تعرف باسم "السلطنة المصرية" تحت الحماية البريطانية بين عامى 1914 و1922، وكان يتولى الحكم السلطان فؤاد الأول - الملك فيما بعد، وفقا لدستور 1923 - بينما تولى الوزارة عدلي يكن باشا منذ 16 آذار/ مارس (أعلن عن تأليفها في 19) وحتى 8 كانون الأول/ ديسمبر 1921، لكن مع شهر نيسان/ أبريل شهدت القاهرة احتفالات كبيرة بمناسبة عودة سعد زغلول من المنفي.

وفي مذكراته قال محمد علي علوبة باشا (كان ضمن أعضاء الوفد مع سعد باشا في باريس): "لما كلف السلطان فؤاد؛ عدلي باشا، فرح الناس، وقد تألفت وزارة "الثقة" التي طالما سعى سعد ورفاقه إلى تأليفها. وبالرغم من ذلك، فإن الخلاف دب بين الاثنين، وانقسمت الأمة إلى فريقين: فريق عدلى يضم كثيرا من المثقفين ووجهاء البلاد، وفريق سعد ويضم كثيرا من العامة والبسطاء".

* * *

هكذا يمكن تقسيم المشهد في القاهرة إلى ثلاث لقطات: في الأولى، وعلى النيل كان الأربعون يترأسهم الوزير ونستون تشرشل، يرسمون خرائط تحدد مستقبل العرب في قارة آسيا. و"يرسم" تعبير حرفي بالنسبة لتشرشل؛ فهو "يرسم" خرائط دول بالمفهوم السياسي، لكنه أيضا، وكما تفيدنا الوثائق التاريخية، كان "يوزع وقت فراغه بين ممارسة هوايته الجديدة في الرسم الزيتي، وبين كتابة مخطوطة مذكراته عن تاريخه في الحرب العالمية الأولى، وقد رسم خلال حياته أكثر من 550 لوحة، أبرزها لوحة جامع الكتبية في مراكش.

ومن المفارقات أنه في آذار/ مارس الماضي (أي في مئوية مؤتمر القاهرة)، أعلنت دار "كريستيز" للمزادات عن بيع لوحة "برج جامع الكتبية"، التي رسمها تشرشل، وكانت تمتلكها الممثلة الشهيرة أنجلينا جولي، مقابل 11.5 مليون دولار. ورسم تشرشل اللوحة التي يظهر فيها جامع الكتبية، أكبر جوامع مدينة مراكش المغربية، في عام 1943، وأهداها لحليفه أثناء الحرب العالمية الثانية، الرئيس الأمريكي الـ32 فرانكلين روزفلت. وقد اشترتها عائلة أنجلينا جولي في عام 2011".

في اللقطة الثانية كان السلطان، في قصره (عابدين)؛ الذي يبعد مسيرة أقل من دقائق عشر من "محترف تشرشل"، يكلف عدلي يكن بتأليف الوزرارة.. في الثالثة كان مصريون يتجهزون للاحتفال بعودة زعيم الأمة.

الخلاصة الأولى، السريعة، أن مصر كانت "مشغولة بنفسها" بينما الأقلام والأسلحة (الاستعمارية) تفعل فعلها. هذا التشابه الأول، المكتمل، بين مفتتح ونهاية المائة عام، والتشابه الثاني تشابه ناقص، وفي حاجة لبحث مفعول النقصان. فهو في معنى أول مؤشر على أن المفتتح كان أفضل، ذلك أنه في القضية الوطنية الكبرى (الاستقلال وجلاء المحتل) كان كل فريق يعتبر أن وجود الفريق الآخر ضرورة وواجب. وعن هذه النقطة سيدور حديثنا في هذا الجزء من السلسلة.

الخلاصة الثانية أنه على الرغم من زوال الاحتلال، إلا قليلا؛ فإن هذا القليل هام للغاية، وعنه سيكون حديث طويل. ومفهوم طبعا أن المقصود هو فلسطين.

التشابه الناقص، والذي يبدو فيه حال مصر وشعبها أفضل قبل مائة عام، يمكن البدء في النظر إليه من واقع يسجله نجدة فتحي صفوة في كتابه "هذا اليوم من التاريخ- المجلد الثالث"، في تناوله ليوم 19 آذار/ مارس 1921، حيث يذكر "أن رئيس الوزراء محمد توفيق نسيم كان قد استقال يوم 16 آذار/ مارس ليفسح المجال أمام (السلطان) أحمد فؤاد لاختيار وزراة جديدة تتولى المفاوضات مع بريطانيا لإنهاء الحماية، فقبل السلطان الاستقالة، وعهد إلى عدلي يكن بتأليف وزارة جديدة. وقد سبق لعادلي أن شغل وزارات مهمة عديدة آخرها وزراة الخارجية. وألف عدلي يكن وزارته الأولى (وقد ألف الوزراة بعد ذلك مرتين) في 19 آذار/ مارس وأعلن برنامج وزارته، وكان برنامجا طموحا يتضمن، في ما يتضمن، أنها ستدخل في مفاوضات رسمية مع الحكومة البريطانية للوصول إلى استقلال مصر، وستدعو الوفد المصري (الذي كان يرأسه سعد زغلول باشا) إلى الاشتراك في المفاوضات، وأن الأمة سيكون لها، على لسان ممثليها في جمعية وطنية، القول الفصل في هذا الاتفاق الذي سيتم التوصل إليه بنتيجة المفاوضات، وأن هذه الجمعية الوطنية ستكون أيضا جمعية تأسيسية تصوغ دستور البلاد. ووعد عدلي في برنامجه أيضا أن الانتخابات ستكون حرة بحيث تمثل رأي الأمة تمثيلا صحيحا، كما وعد بالعمل على رفع الأحكام العرفية العسكرية، وإلغاء الرقابة على الصحف".

أوفى عدلي بوعوده، أو بالأهم منها والتي كانت في استطاعته، للدقة. ووعوده ما تزال مطلبا، وهذه هي المشابهة المؤلمة، فقضايا من نوع: انتخابات حرة، وصحافة بلا رقابة، وحياة بلا أحكام عرفية أو طوارئ، ما تزال مطالب غير متحققة، والأكثر مفارقة، والذي يمثل عنوانا للقرن المنصرم، أن الخيار الأول للوطنية المصرية كان التفاوض؛ من الجلاء حتى سد النهضة.

 


(رسم لعدلي يكن (الجالس) موجودة في كتاب "في المرآة" لعبد العزيز البشري (صادر في 1927) وتحت هذا البيت الشعري: لا معنى بكل شيء ولا.. كل عجيب في عينه بعجيب)

 


* * *

في الفصل المعنون "الأمة بين سعد وعدلي!" من كتاب أحمد بهاء الدين "أيام لها تاريخ" (الطبعة الثالثة، 1991، دار الشروق)، نقرأ: "هذان العظيمان!.. كل منهما جاء من نبع، وسار في واد. كل منهما كان يمثل تيارا معينا.. فاتفاقهما تحالف بين التيارين، وخلافهما صراع بين القوتين.. يكتب فيه النصر لتيار والهزيمة لآخر.. ومن النصر والهزيمة يولد التطور. عدلي.. سليل الأسرة التركية العريقة، وربيب الطبقة الحاكمة فعلا.. وسعد الفلاح ابن الفلاحين، الذي نجد بين إخوته من يحملون أسماء "شلبي" و"ستهم" و"فرحانة!".. وإن كان من طبقة متوسطة ميسورة الحال".

قبل 1919 كان التمايز بين عدلي وسعد ظاهرا للكافة؛ ظهر للمرة الأولى في الجمعية التشريعية عام 1913، فقد كان سعد وكيل الجمعية المنتخب وعدلي وكيلها المعين، وهما وبحسب بهاء الدين "صديقان يتبادلان التقدير والإعجاب.. ولكن القدر الذي جاء بكل منهما من نبع، وأراد أن يجعل كل واحد منهما رمزا لقوة جبارة عاتية.. هذا الذي بعثته الطبقة الحاكمة الذي هو ابنها، وذلك الذي بعثته إرادة الشعب.. الشعب الذي لا يعرف أحد مضمونه الجديد بعد.. ولا بد أن يقع الصدام.. وتجيء أول معركة.. توعز الحكومة إلى أحد الأعضاء أن يسألها: إذا حدث وتغيب رئيس الجمعية التشريعية، فمن الذي يرأس الجلسة.. الوكيل المعين أم الوكيل المنتخب؟ وترد الحكومة بالإجابة المحضرة من قبل: الوكيل المعين طبعا.. ويهب سعد.. إنه يمثل إرادة الشعب.. وعقيدته.. إن إرادة الشعب يجب أن تكون لها السيادة على إرادة الحكومة".

وفي موضع آخر برز معدن عدلي، فإذ يحثه المندوب السامي البريطاني، كتشنر، على دعم الحكومة والتصدي لسعد، يجيبه عدلي (الذي يصفه بهاء الدين بـ"اللاعب النظيف"): إنني (كعضو ونائب رئيس الجمعية التشريعية) لم أتعود أن أكون تابعا للوزراة!".

 

 

(فيديو عودة سعد زغلول من المنفى سنة 1921)

 

* * *

وفعلت السنوات الثماني فعلها، وجاءت لحظة المعركة الكبرى بين الصديقين؛ فحسبما ينقل لنا سعيد الشحات عن أحداث يوم 25 نيسان/ أبريل 1921، تحت عنوان: "سعد زغلول يهاجم صديقه رئيس الوزراء عدلى يكن والمصريون ينقسمون إلى سعديين وعدليين"، انعقد مؤتمر يعتبره المؤرخون النقطة الفاصلة في تاريخ العلاقات بين سعد وعدلي.

ونقلا عن مذكرات علوبة، يذكر الشحات أن عدلي "أخذ يفاوض سعد في أمر تشكيل هيئة المفاوضين (الذين سيفاوضون البريطاني لرفع الحماية والاستقلال والجلاء)، لكن سعدا، وقد اطمأن إلى مكانته في الشعب، صمم على أن يكون هو رئيس المفاوضين، وإلا فإنه يمتنع عن الدخول في المفاوضة ويحاربها، ولما لم يجد النقاش معه نفعا، وكان يستحيل أن يرأس المفاوضين وفيهم رئيس الحكومة ووزير الخارجية، مما يخالف كل تقليد للحكومات، انحصر الخلاف إذن في رئاسة المفاوضة التي تشبث بها سعد، ونجم عن ذلك مهاجمة سعد لوزارة صديقه عدلي".

في أمر الخلاف يهمنا أمرين: الأول بعض ما جاء في كلمة سعد في مؤتمر شبرا، والثاني متعلق بما أعقبه من وقائع.

جزء من كلمة سعد (وفيها تلك العبارة التي ثارت مثلا) يصلح للحظة الحاضرة، كما كان صالحا وقتها، وصالحا في كل مرة يجد فيه الإنسان نفسه في موقف يتعارض مع موقف حكومته تجاه قضايا كبرى خاصة بوطنه، فقد قال سعد: "قالوا إعطاء الرياسة لغير رئيس الحكومة مخالف للتقاليد المعروفة.. ما هذه التقاليد؟ لكل بلد تقاليدها، فهل في تقاليد مصر ما يمنع أن عظمة السطان يعطي الرئاسة لمن يشاء؟ كلا ثم كلا، وإذا صح في البلاد الأوروبية أن رئيس الحكومة يجب أن تكون له الرياسة، رئاسة هيئة المفاوضات، فلا يصح ذلك في مصر مطلقا بالنسبة للمهمة السياسية التي نحن بصددها، فإن مصر ليست بلدا دستوريا ووزراته لا ينتخبها الشعب، بل هي معينة من طرف الحاكم، فلا يمكنها أن تدعي أنها وزارة دستورية نائبة الأمة، فهي معينة من عظمة السلطان، بل وأجاهر بالحقيقة الآتية: المندوب السامى "البريطاني" أيضا. فالوزراة في مصر لا تمثل الأمة، لا حقيقة ولا حكما، بل تمثل سلطة الحماية المضروبة عليكم رغم أنوفكم. ورئيس الوزارة ليس إلا موظفا من موظفي الحكومة الإنجليزية، يسقط ويرتفع بإشارة من المندوب السامي، وهو بهذه الصفة لا يمكنه أن يكون بإزاء رئيسه، وزير خارجية إنجلترا، حرا في الكلام، لأنه مدين له بمركزه.. إذا كانت الحكومة المصرية هي التي تعين المفاوضين فهذا يعني أن جورج الخامس يتفاوض مع جورج الخامس".

يمكننا أن نزيل من المشهد: الحماية، والمندوب السامي، والاحتلال، و"جورج الخامس"، وهي تفاصيل تاريخية، ويمكننا، بل ضروريا إذ أزلنا كل ما سبق، أن نزيل من المشهد عدلي وسعد، وننظر إلى واقع الحال الآن، حيث لا احتلال ولا سعد ولا عدلي، إلى واقع ما هو دستوري حقا، والوزراة المنتخبة ديمقراطيا، وإرادة الأمة الحرة. هذا هو التشابه المفجع، أن يكون المصريون أحرارا في ظل الاحتلال، بينما هم الآن..

الأمر الثاني متعلق بالتظاهر، ذلك أنه ترتب على وقوع الشقاق انقسام الأمة إلى فريقين. وينقل الشحات عن محمد حسين هيكل في مذكراته أنه "سرعان ما اندلع لهب الخلاف، وانطلقت المظاهرات في الشوارع منادية بحياة سعد، ورأت الوزارة أن من الواجب عليها أن تعيد الأمن إلى نصابه وتقمع الفوضى، فنشأ عن ذلك اشتباك متكرر بين البوليس، و"بولك الخفر" وبين المتظاهرين، (و) كثيرا ما كان ينجلى عن جرحى من الفريقين، وقتل أثنائه بعض الأفراد.. كان سعد بطبيعة الحال يشجع هذه المظاهرات علنا، ويتخذها عنوانا صادقا على تأييد الأمة له ونبذها من لا يسلمون بزعامته، بل لقد ذهب في التشجيع مرة إلى أنه ذهب إلى حيث قتل أحد المتظاهرين، وغمس منديله في دمه، ونادى الناس بأن عدلي هو الذي يحمل وزر هذا الدم".

عن الدم يذكر بهاء الدين أن "معارك الشوارع لا سبب لها إلا عدم الخضوع لإرادة الناس، مما يضطرهم إلى العنف".

وِزْر الدم وحق التظاهر دلالة المائة عام، فالآن في القاهرة، على النيل أو أمام القصر، أو في أي مكان آخر، إذا عَنَّ لمصريين التظاهر احتجاجا على الاحتباس الحراري فسيسيل الدم، وهذا واقع الهراء، بلا شك.

 

الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع