كتاب عربي 21

البابا يبكي بعين واحدة!

1300x600

(1)

مسكين ذلك الكاتب السياسي الذي يبحث عن جديد يكتبه، هذا إذا كان لديه رسالة وليس مجرد معلق ببغائي على الأخبار المتوالية، فالأخبار تتغير لكنها لا تتجاوز حدود العالم البغيض الذي يؤلم الإنسانية..
 على كل حال هذا أمر مفهوم ومقدر في مسيرة الإنسان، فهناك أشياء كثيرة عرفناها وانتهينا منها مرة ومرات، ومع ذلك نظل نكررها لأن تكرارها مرتبط باستمرار الحياة، مثل الأكل والشرب والحب والجنس والكلام في السياسة..

كثيرا ما أشعر بالملل من تكرار الكلام نفسه عن الغلاء والفساد والظلم وغياب العدل واختلال المعايير، لكنني أنبه نفسي دوما أن المشكلة ليست في تكرار ما نكتبه ونتكلم فيه ونطالب به، المشكلة في واقع جامد وجاحد لا يغادر فساده ولا ظلمه ولا تضليله ومغالطاته، لذلك فإننا نكرر كلامنا لأن طلباتنا لم تتحقق، فمن الطبيعي إذا تحقق التغيير الذي نطالب فيه بالعدل والحرية والنزاهة، فإن مطالبنا ستتغير لمواكبة الواقع الجديد بكلمات جديدة ومطالب جديدة، نمضي بها خطوات أكثر إلى الأمام على طريق تحسين حياة الناس، والاقتراب أكثر من القيم الإنسانية التي يتحدث عنها الضحايا والجلادون معا، لأنها محل اتفاق لغوي حتى مع القامعين والفاسدين، بينما الخلاف والاختلاف معهم يظهر في السلوك والممارسات التي تخاصم اللسان وتناقض الكلام.

(2)

مضخات الأخبار تلاحقني منذ أيام وتغرق شاشة هاتفي بصور وتصريحات إدانة وقرارات حاسمة وسريعة ضد روسيا لارتكابها جريمة حرب في مدينة بوتشا الأوكرانية، وهذه أخبار مؤسفة تنهك قلبي المريض وتستنزف مشاعري ودموعي حزنا على الضحايا وغضبا على المجرمين القتلة، لكنني عندما أهدأ قليلا أتذكر جيمس راندي وجمي إيان سويس وأبدأ في تشغيل جهاز الشك، راندي المدهش كان ساحراً يكسب عيشه وشهرته من الخداع، وسويس اشتهر بنشاطه الثقافي المضاد لعمله، فهو لا يروج للخداع، بل يشكك فيه، وساهم في تأسيس مؤسسة تكافح الخداع باسم العلم وترفع شعار "الشك من أجل الحقيقة"، ويبدو أسلوب سويس واضحا في كلماته التي يبدأ بها الفيلم التوثيقي المهم "تجار الشك" الذي يفضح خبراء التغذية والأطباء والعلماء الذين يروجون لمنتجات الشركات بلغة علمية خادعة وأكاذيب تستهدف الربح وتوزيع منتجات ضارة بالصحة تحت عناوين تحسين الصحة أو التخسيس أو حماية كوكب الأرض، بينما العكس هو الصحيح.

يقول سويس: خبرتي الأساسية ومصدر رزقي في الخداع، لكنني لست مخادعا ولا محتالا.. أنا ساحر، والشيء الذي يميز السحرة عن المحتالين والأنواع الأخرى من اللصوص والكاذبين، هو أننا كاذبون صادقون، لدينا اتفاق أخلاقي أن نكذب بصدق، فأنا أقول لكم منذ البداية "انتبهوا.. سأخدعكم الآن".

أثناء حديثه يقدم سويس مجموعة من ألاعيبه بورق الكوتشينة بطريقة مذهلة يصفها بأنها خفة يد، ويعلق قائلا: هذا عملي وهذه مهاراتي وأنا أكسب رزقي بشرف، لكن هناك محتالون أخطر يستخدمون الخداع للتشويه والتشويش وتضليل الناس والتلاعب بهم وبإحساسهم بالواقع...

ويضيف سويس: أعرف كيف أخدع الناس وأعرف أيضا كيف يتعرض الناس للخداع، وهذا هو الأخطر.

(3)

أتابع حجم الأخبار المتعلقة بمجزرة بوتشا واهتمام قادة الغرب بالرد والانتقام والتأكيد على محاسبة مرتكب الجريمة الشنيعة (التي يعطل الغرب التحقيق الدولي فيها وعرضها في المنظمة الأممية!!)، وفي المقابل أتابع بعض تصريحات النفي الضعيفة من الجانب الروسي الذي يتحدث عن تلفيق وصناعة مسرحية لخداع المواطن الغربي وإقناعه بالاصطفاف مع قادته ضد الوحشية البوتينية، وقد بدأ هذا الاتجاه مع بداية الحرب لكنه أخذ منحى صراعيا في الإعلام بعد خبر في الأسبوع الأول من مارس الماضي عن غارة جوية روسية استهدفت مستشفى للولادة في مدينة ماريوبول الساحلية، وصرح الرئيس زيلينسكي أن المصابين علقوا تحت الأنقاض، ودعا زعماء الدول الغربية إلى فرض حظر للطيران فوق أوكرانيا، ونشر صورا مأساوية لحطام المستشفى، ثم انتشرت بكثافة صورة سيدة أوكرانية حامل تحاول الهروب في هلع وملابسها، وبينما تحدث الجانب الغربي عن البشاعة صرح الروس أن الصورة ملفقة وأن المرأة مدوّنة معروفة وعارضة أزياء تظاهرت بأنها حامل، ثم انتشرت في نفس الاتجاه صورة أخرى لطفلة رضيعة ملوثة بالدماء في حضن أمها داخل المستشفى الذي تعرض للقصف، وعرفت إعلاميا تحت عنوان "مأساة فيرونيكا". 

 

أوكرانيا ليست بلد المسيح يا صاحب القداسة وخادم خدام الله، فلماذا وافقت أن تحمل السيدة العذراء أربي جي دفاعا عن كييف وهي لم تلتفت يوماً إلى بيتها المدمر في الناصرة؟ لماذا يا "بطريرك الغرب" وصفت بوتشا بأنها "شهيدة" ولم تذرف الدمع على بيت لحم وجبل الجلجثة؟

 



ونشبت حرب إعلامية عنيفة وتنديد رفيع المستوى بالجريمة وحرب صور وتصريحات يتعلق معظمها بقسم الولادة في المستشفى، وهذه المشاهد بهذا الأسلوب نفسه أعاد إلى ذاكرتي قصة "الممرضة الكويتية في حرب "تحرير الكويت" التي انتشر لها شهادة متلفزة تؤكد فيها أنها رأت الجنود العراقيين يدمرون قسم الولادة بمستشفى الكويت و"ينزعون الأطفال الرضَّع من الحضّانات ويقتلونهم بلا رحمة ويرمونهم على الأرض، وبعد رواج شهادة الممرضة التي قالت إن اسمها "نيرة" انتفض بوش دفاعا عن الطفولة والأمومة والإنسانية في العراق وصوّت الكونغرس لصالح الحرب ضد العراق، ثم تبين بعد ذلك أن الشهادة ملفقة من جانب شركة دعاية استأجرها بنتاغون، وأن الممرضة المزيفة هي ابنة سعود الصباح سفير الكويت في واشنطن، وتم الكشف عن الكثير من فضائح الخداع الإعلامي الذي اعتمد فيه البنتاغون على إدارة أسسها للتضليل وتعاقد من خلالها مع شركات إعلان ودعاية وصحفيين في مؤسسات كبيرة حول العالم لترويج الأكاذيب ومنها فضيحة جيسكا الشهيرة في حرب احتلال العراق في مثل هذه الأيام من عام 2003، حيث تم الترويج لبطولة المجندة جيسكا لينش التي وقعت في كمين مع عشرة من زملائها يوم 23 مارس قبل سقوط بغداد، لكنها تقمصت بطولة رامبو وواجهت الأوغاد بالرصاص حتى نفدت ذخيرتها، فطعنها أحد المتوحشين العراقيين واقتادها مكبلة إلى مستشفى في الناصرية حيث سلمها لقائده الذي عذبها واستجوبها لمدة أسبوع، حتى نجحت قوة كوماندوس أمريكية محمولة على متن مروحية في اقتحام المدينة وتحرير جيسكا ونقلها إلى الكويت، ومساء يوم العملية أعلن بوش من البيت الأبيض نجاح أبطاله في تحرير چيسيكا لينش. 

ووزع الپنتاغون على وسائل الإعلام شريط ڤيديو للبطولة الباهرة، وبعد سقوط بغداد في مثل هذا اليوم (8 أبريل) توجه الصحفيون لتفقد موقع البطولة والحصول على تفاصيل جديدة فاكتشفوا الخدعة الحقيرة، جيسكا كانت مصابة في حادث سيارة وتم علاجها برحمة وإنسانية من كسور في الذراع والساق، وتم تسجيل شهادة الطبيب سعيد عبد الرازق الذي تربعت أسرته بالدم لإنقاذ حياة المجندة، وقبل يومين من تدخل قوات الكوماندوز تواصل مع الجيش الأمريكي لإعادتها، وأخذوها في سيارة إسعاف إلى المكان المتفق عليه، لكنهم فوجئوا بالجنود الأمريكان يطلقون عليهم النار وقتلوا الجميع بما فيهم جيسكا الذي تفاخر بوش نفسه أمام الأمة الأمريكية بالعملية البطولية لتحرير جيسكا!

(4)

عندما رأيت صورته وهو يدفن وجهه في العلم الأوكراني ويبكي متأثرا على ضحايا بوتشا، صورت لي خيالاتي المريضة أن البابا فرانسيس الثاني هو الوجه الديني لدموع بوش الإبن على ضحايا مستشفى الولادة الذين شاهدتهم "نيرة" بعينها، كان البابا يقول أمام وسائل الإعلام خلال قداس ديني بالفاتيكان إن الراية الأوكرانية المقدسة جاءت إليه من مدينة بوتشا "الشهيدة"، ولأن كل شيء يكون معدا مسبقا في مثل هذا "القداس السياسي"، فقد استدعى البابا عينة من أطفال أوكرانيا اللاجئين في إيطاليا، ليقفوا أمام الكاميرات على منصة القداس وهو يتحدث عن معاناة الأطفال وضرورة وقف الحرب.

واحتراما لأسلوب الاعتراف بالذنب أمام القس، سأبوح بما حدثتني به النفس الشريرة لكي أتطهر من شكوكي تجاه تصرف الحبر الأعظم، لقد قالت نفسي:

أوكرانيا ليست بلد المسيح يا صاحب القداسة وخادم خدام الله، فلماذا وافقت أن تحمل السيدة العذراء أربي جي دفاعا عن كييف وهي لم تلتفت يوماً إلى بيتها المدمر في الناصرة؟ لماذا يا "بطريرك الغرب" وصفت بوتشا بأنها "شهيدة" ولم تذرف الدمع على بيت لحم وجبل الجلجثة؟ ألم تتذكر القدس يا نائب يسوع وأنت تقبل باكيا رسم الصليب في علم أوكرانيا؟ ألم يكن محمد جمال الدرة طفلاً؟ وهل قتل الفلسطينيين والقصف شبه اليومي لأطفال ونساء غزة ليس حرباً تستوجب التنديد؟!

(5)

أيها الحبر الأعظم أيها القادة الغربيون المدافعون عن حقوق الإنسان والمنددون بالمجازر والمصممون على حماية العدالة، سأصدق كل ما تقولون، وأبكي متأثراً وأنا أتابع الأخبار التي تبثونها عن ارتكاب الجنود الروس لمجرزة في بوتشا وفي أماكن أخرى مجهولة ستكشفون عنها قريبا، سأتضامن معكم في ضرورة المقاطعات والعقوبات وطرد الدبلوماسيين ومطلب محاكمة الهمجي الجزار بوتين باعتباره مجرم حرب.. 

لكنني يا صاحب القداسة ويا أصحاب الجلالة والفخامة أحب أن أجتهد أكثر وأحيي مسلككم الرائع أكثر، لذلك أنتظر أن نتوسع في إدانة المجازر كل المجازر، يليق بهذه النخبة الدولية المهيمنة أن تنتصر للقيم الإنسانية في الأرض كلها وأن تسعى لحفظ قيم العدالة والرحمة والإنسانية وتطالب بتطبيق مسلككم النبيل تجاه أوكرانيا على الجرائم المثيلة في كل مكان على الأرض، وباعتباري عربيا فأنا أعاصر مأساة أوكرانية في الكثير من البلدان حولي تنتهك فيها حقوق الإنسان ومستشفيات الولادة والأطفال والنساء وتتوالى فيها المجازر بحق الفلسطينيين منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى غداً وبعد الغد إذا استمر الاحتلال العسكري لأراضي الغير، وهو المبدأ الذي تدينون به بوتين، سأدين بوتشا وكوتشا وموتشا شريطة أن تخبرونا بموقفكم من المجازر في كفر قاسم ودير ياسين وصبرا وشاتيلا وحيفا والقدس وجنين وبحر البقر وأبو زعبل و......

حينها فقط يمكن أن نصدقكم أيها المخادعون الكاذبون، فخدعتكم قديمة ومكررة ومملة، ومغفل من يصدق محتالاً بصحيفة سوابق مكدسة.

tamahi@hotmail.com