مقالات مختارة

عندما يتعلق الأمر بجرائم الحرب فإن بريطانيا تشيح بوجهها

1300x600

لا يوجد أدنى شك الآن في أن القوات الروسية ارتكبت جرائم حرب فظيعة في بوتشا وإربين وبوروديانكا. ومع تحرير المزيد من المناطق حول المدن الأوكرانية مثل كييف وخاركيف تطفو على السطح المزيد من التفاصيل حول ما ارتكب من مذابح.
 
لقد ألقوا بالجثث في الآبار وفي الحفر، وتركوا بعض الجثث بلا دفن لأسابيع، وهددوا تحت فوهة البنادق من جاء لينقذ جيرانه الذين دفنوا تحت أنقاض البنايات التي دمرها القصف.
 
وأطلقت القوات الروسية الرصاص على زعماء القرى الذين رفضوا التعاون معها، ولم يوقروا حتى أفراد عائلاتهم. اغتصبوا النساء، كما صرح بذلك عضو في البرلمان الأوكراني واستخدموا المدنيين دروعاً بشرية.
 
بل لقد وجدت سيارات العائلات التي حاولت الهرب مخردقة بالرصاص رغم أنها كانت تحمل ملصقات كتب عليها كلمة "أطفال".
 
لقد عاملوا السكان بأسرهم على أنهم نازيون، والأدلة التي تم الحصول عليها فقط من الاتصالات التي تم اعتراضها بين القادة العسكريين الروس أدلة ساحقة ماحقة.
 
ولا مصداقية إطلاقاً لمزاعم ممثل روسيا الدائم في الأمم المتحدة، فازيلي نبنزيا، بأنه تم فبركة مقتل المدنيين وأن الجثث إنما أحضرها جنود أوكرانيون هم من ألقوا بها في الشوارع والطرقات بعد انسحاب القوات الروسية.
 
لم يكن لدى الوحدات الروسية المنسحبة وقت لإخفاء جرائمها في قبور جماعية فتركت ما يكفي من الأدلة عليها. كان من الأفضل لهم أن يبقوا صامتين بدلاً من أن يفتروا الكذبة بعد الأخرى. ولا شك في أن المكان الأنسب للحكم بشأن جرائم بهذا الحجم هو محكمة جنايات دولية.
 
يستحق الغزو الروسي لأوكرانيا أن يجري بشأنه تحقيق دولي شامل.
 
إعاقة العدالة
 
تتوالى المطالبات بإجراء تحقيق في جرائم الحرب، إلا أن ثمة مشكلة واحدة صغيرة.
 
فاليوم نفس البلدان التي تدعو إلى محاكمة دولية حول سلوك القوات الروسية هي نفس البلدان التي ما لبثت باستمرار تقوض وتؤخر التحقيقات في جرائم الحرب الموثقة التي ارتكبت باسمها.
 
وأوكرانيا بالضبط هي السبب الذي من أجله كان ينبغي على حلفاء الناتو – وبالذات الولايات المتحدة وبريطانيا – توخي الدقة الشديدة للحفاظ على إطار دولي للعدالة عندما كانت قواتها هي التي تقوم بالغزو والقصف.
 
وهذه البلدان لم تخفق فقط في إجراء تحقيق شامل في جرائمها هي، بل سعت بفعالية إلى إعاقة كيانات مثل محكمة الجنايات الدولية ومنعها من القيام بمهامها. استمرت تلك الإعاقة للعدالة عقوداً من الزمن وما زالت مستمرة بكل قوة وعنفوان حتى هذا اليوم.
 
كان رأس حربة عدوانهم على العدالة الدولية هو قرار الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب فرض عقوبات على مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية فاتو بن سوده وعلى مسؤول كبير في الادعاء لدى المحكمة هو فاكيسو موتشوتشوكو.
 
أعلن ترامب أن التحقيقات التي يجريها هؤلاء المسؤولون في محكمة الجنايات الدولية في جرائم الحرب الأمريكية في أفغانستان وفي الجرائم الإسرائيلية في فلسطين تمثل تهديداً للأمن القومي الأمريكي. إضافة إلى ذلك أعلن مايك بومبيو، الذي كان حينها وزيراً للخارجية، أن الولايات المتحدة وضعت قيوداً على إصدار تأشيرات الدخول لأفراد معينين "لديهم علاقة بجهود محكمة الجنايات الدولية للتحقيق في شخصيات أمريكية."
 
رفع الرئيس الأمريكي جو بايدن العقوبات التي كانت مفروضة على محكمة الجنايات الدولية إلا أن إدارته استمرت في التنديد بما تجريه من تحقيقات في الجرائم التي ترتكبها جميع الأطراف، إسرائيلية وفلسطينية، وتعارضها بشدة.
 
وعندما أكدت محكمة الجنايات الدولية أخيراً أنها ستفتح تحقيقاً في الأعمال الإسرائيلية في فلسطين، قال وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن في تصريح له: "ليس من صلاحيات محكمة الجنائيات الدولية فتح تحقيق في هذا الأمر. فإسرائيل ليست طرفاً في محكمة الجنايات الدولية ولم تقر منح الصلاحيات للمحكمة، ولدينا مخاوف شديدة من محاولات محكمة الجنايات الدولية ممارسة صلاحياتها على الشخصيات الإسرائيلية."
 
وأضاف: "الفلسطينيون غير مؤهلين للتصرف كدولة ذات سيادة، وبناء عليه فهم غير مؤهلين للحصول على العضوية كدولة في محكمة الجنايات الدولية ولا المشاركة فيها كدولة ولا تخويلها بأي صلاحيات."
 
تصريحات بلينكن أقل جلافة وأكثر تدبراً من تصريحات سلفه بومبيو، ولكن السياسة تبقى بدون تغيير ولا تبديل.
 
الإشاحة بالوجه
 
متحدثاً بلغة روسية مشوهة، توجه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون هذا الأسبوع إلى الروس بشكل مباشر مخاطباً إياهم حول ما يتم فعله باسمهم في أوكرانيا. وقال جونسون إن ذلك كان بمثابة خيانة للأمانة وطعنة غادرة في قلب كل أم "لوحت لابنها مودعة حينما غادر ليلتحق بالجيش."
 
جسد هذا الفيديو انعداماً في الفهم على كل المستويات.
 
فالروس يخشون من التجنيد الإجباري ويبذل الواحد منهم كل ما في وسعه للتهرب منه، وحينما تحين اللحظة التي لا مهرب منها فإن الوداع يكون أشبه بالجنازة منه إلى الاحتفال.
 
جهلاً منه بواقع الحياة في روسيا، أنهى جونسون كلامه بالتحذير التالي: "سوف يحاسب أولئك الذين يتحملون المسؤولية ولسوف يتذكر التاريخ أولئك الذين أشاحوا بوجوههم."
 
كيف يتوقع رئيس وزراء بريطانيا أن يؤخذ كلامه على محمل الجد بينما كانت بريطانيا نفسها "قد أشاحت بوجهها" عدداً لا يحصى من المرات؟
 
والقائمة لا تنتهي. لقد كافأ طوني بلير بوتين على جرائم الحرب التي ارتكبها في الشيشان ما بين عام 1999 وعام 2003 بأن رتب للزعيم الروسي لقاء مع الملكة ويداه مغموستان في الدماء. في الشيشان أخلت القوات الروسية الملاجئ التي لاذ بها المدنيون بإلقاء القنابل اليدوية عليهم. وما كان من جورج دبليو بوش إلا أن اعتبر حرب بوتين ضد الشيشان جزءاً لا يتجزأ من حربه هو ضد الإرهاب.
 
قصفت قاذفات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة العراق مستهدفة السكان دون تمييز، حتى أطلقوا على ذلك استراتيجية "الصدمة والترويع". تتراوح التقديرات بشأن عدد من لقوا نحبهم في العراق جراء الغزو بين ما يقل عن 300 ألف وما يزيد عن مليون. وطبقاً لما أحصاه "مشروع تكاليف الحرب" التابع لجامعة براون فإن ما لا يقل عن 500 ألف إنسان قضوا نحبهم في الحروب الأمريكية التي شنت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في كل من أفغانستان والعراق وباكستان.
 
والمرة تلو الأخرى ظلت مساعي التحقيق في عمليات القتل والتعذيب التي مورست ضد المدنيين في أفغانستان والعراق تتعرض باستمرار للتقويض.
 
تقويض التحقيقات
 
إزاء تخلي محكمة الجنايات الدولية عن تحقيقها في مزاعم ارتكاب القوات البريطانية جرائم حرب في العراق ما بين عام 2003 وعام 2008، لاحظت مدعي عام المحكمة فاتو بن سوده أنه على الرغم من التحقيقات المحلية إلا أنه لم توجه تهمة واحدة لأي من الجنود – "وهي نتيجة تحرم الضحايا من حقهم في العدالة."
 
وأضافت بن سوده: "حقيقة أن التحقيقات من قبل السلطات البريطانية في المزاعم لم تفض إلى محاكمة واحدة لا يعني أن تلك المزاعم كانت كيدية، بل يعني في الأغلب بأن أجهزة التحقيقات المحلية لم تتمكن من تحصيل ما يكفي من الأدلة لإحالة القضايا إلى المحكمة، أو أن القضايا التي تمت إحالتها لم تحظ بفرص واقعية في أن تفضي إلى إدانة عبر المحاكمة الجنائية."
 
فاقت جهود ويكيليكس كل الجهود الأخرى لإحاطة الجمهور بما ارتكب من جرائم حرب في العراق، وكان من أبرز ما قامت به المجموعة في هذا المجال هو نشر مقطع فيديو سري التقطته مروحية من طراز أباتشي يوثق هجوماً على العشرات من المدنيين، بما في ذلك اثنان من الصحفيين، في أحد أحياء بغداد. وها هو جوليان أسانج، الرجل الذي كان يقف من وراء تلك الجهود، يقبع داخل سجن بلمارش البريطاني بانتظار تسليمه إلى الولايات المتحدة بتهمة انتهاك قانون الجاسوسية.
 
لقد أشاحت بريطانيا بوجهها عندما قتلت القوات الإسرائيلية في الرابع عشر من مايو / أيار 2018 ما يزيد عن ستين فلسطينياً أعزل أثناء تظاهرهم قريباً من الجدار العازل في غزة. ترتكب جرائم القتل كل أسبوع تقريباً عندما تطلق القوات الإسرائيلية الرصاص على الفلسطينيين فتزهق أرواحهم.
 
صنف جونسون تحقيق محكمة الجنايات الدولية في حرب غزة عام 2014 وفي بناء المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة، وكذلك إطلاق حماس للصواريخ من غزة، "هجوماً على إسرائيل".
 
لقد شاركت بريطانيا بفعالية في هجمات الطائرات المسيرة في عهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما، الذي لجأ إلى استخدام تلك الطائرات عدداً من المرات يعادل ما يقرب من عشرة أضعاف استخدام سلفه جورج بوش لها. فقد تم خلال فترتي حكم أوباما شن 563 هجوماً، في الأغلب باستخدام الطائرات المسيرة، لضرب أهداف في الباكستان والصومال واليمن مقارنة بسبعة وخمسين هجوماً في عهد بوش.
 
أسفرت تلك الهجمات عن قتل ما بين 384 و807 مدنيين في تلك البلدان بحسب تقارير جمعها مكتب التحقيقات الصحفية.
 
كما تستمر بريطانيا في الإشاحة بوجهها في اليمن حيث يقدر عدد من قضوا نحبهم في الحرب بنهاية عام 2021 ما يقرب من 377 ألفاً. بل رفضت بريطانيا اتباع الولايات المتحدة في قرارها وقف مبيعات السلاح إلى المملكة العربية السعودية.
 
فقط بعد سنوات من الضغط وبعد صدور خطاب موقع من مائة من أعضاء البرلمان وافقت بريطانيا على تقديم دعم مالي للشهود في المشروع الذي تقدمت به غامبيا لإحالة جريمة الإبادة الجماعية للروهينغيا في ماينمار إلى محكمة الجنايات الدولية.
 
ومع ذلك فبريطانيا ذاتها ليست طرفاً رسمياً في الإجراءات.
 
لطخة عار على ضميرنا
 
من بين جميع المطالبات بالتحقيق في جرائم الحرب في أوكرانيا، أشدها فحشاً كانت تلك التي صدرت عن إسرائيل نفسها، ذلك البلد الذي تأسس على جرائم الحرب. فحتى قبل إقامة الدولة ارتكبت مجزرة الطنطورة، ثم تلا ذلك مذابح كفر قاسم وخان يونس وصبرا وشاتيلا، والحروب في لبنان، وكل عملية من العمليات العسكرية التي شنت ضد غزة. بل لقد بلغت قائمة المجازر التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية من الطول ما يؤهلها لتشكيل أبجدية خاصة بها.
 
قبل عام واحد فقط وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق بنيامين نتنياهو تحقيق محكمة الجنايات الدولية في جرائم الحرب الإسرائيلية والفلسطينية بأنها "معادية للسامية". واليوم، تجرأ وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد وانتهك إحدى المحرمات في إسرائيل حينما هاجم روسيا متهماً إياها بارتكاب جرائم حرب.
 
ودون أن يقصد أن يشكل كلامه مفارقة مثيرة، قال لابيد: "بلد ضخم وقوي غزا جاراً أصغر بدون أي مبرر. تارة أخرى، تغرق الأرض بدماء المدنيين الأبرياء."
 
كيف إذن يمكن للبلدان الرائدة في الغرب أن تأمل في تأمين عدالة دولية فاعلة؟ تلك العدالة مطلوبة بلا شك، وتصرخ أوكرانيا استجداء لها. كم ضخمة هي لطخة العار التي علقت بضميرنا. ولماذا عندما يتحدث الغرب عن جرائم الحرب لم يعد الكثيرون في الشرق الأوسط وفي آسيا وأفريقيا وجنوب أمريكا لديهم رغبة في الإصغاء؟
 
ما الذي يمنح بريطانيا الحق في وعظ الآخرين حول نظام دولي قائم على القواعد والأحكام ضد الطغاة عندما تكون حروبها – والتي تشن باسم الديمقراطية والمساءلة والمحاسبة – قد ألحقت بالأبرياء من الناس كل هذا الدمار؟
 
أثناء تعرضهم للقصف يشق على المدنيين أن يقال لهم إنهم يموتون في سبيل قضية عادلة.
 
ما قاله عراقي في وصف تجربته أثناء حملة "الصدم والترويع" التي شنت على بلاده يمكن أن ينطبق تماماً على أوكراني يصف ما يفعله اليوم الغزو الروسي به وبدياره:
 
"أقول عنها إنها حرب قذرة لأنهم يريدون إنجازها على عجل، ولذلك يستهدفون محطات المياه ومحطة توليد الكهرباء وكل الاحتياجات الأساسية للناس، وهي بالفعل أساسية، فأينما كنت تعيش، هناك على الأقل شيء مهم يمكن أن يتعرض للقصف."
 
يحتاج العالم بالفعل إلى محكمة جنائية دولية تمارس عملها في كل حرب، ولكن لكي تحظى بأي مصداقية، ينبغي أن تحقق في جميع عمليات القتل خارج نطاق القانون، وفي الجانبين الروسي والأوكراني.
 
من شأن منح الحصانة من المساءلة للجيوش الأقوى في العالم أن يقوض التحالف الأهم على الإطلاق، ألا وهو التحالف الذي يهدف إلى تقديم من ينتهكون قواعد الحرب إلى العدالة.

 

(ميدل إيست آي)