كتاب عربي 21

تونس.. شكرا للانقلاب

1300x600

بعد حوالي عشر سنوات من انفجار مهد الربيع العربي تحول الأمل الكبير إلى يأس أكبر واستحال حلم التغيير كابوسا تؤثثه الخشية من عودة أشباح الاستبداد أشد شراسة وبأسا. لكنّ كل كارثة مهما كان حجمها فإن لها وجها إيجابيا ولو كان ضئيلا وكذا حال الانقلاب الذي أطاح بمسار ديمقراطي وليد عمره عشر سنوات. لن نخوض هنا في جرائم الانقلاب وفي بشاعة المذبحة التي ارتكبت في حق تونس وثورتها وقد تحوّل المشهد السريالي إلى مهزلة حقيقية بعد أن كانت البلاد أمثولة الأمم في التحرر والديمقراطية وحقوق الإنسان.
 
لم يدم شهر العسل طويلا بين قوى الثورة أو بأدقّ العبارة تلك المحسوبة على الثورة وبين براثن الدولة العميقة التي تمكنت من العودة إلى المشهد والإطاحة بالمنجز الشعبي وتصفية كل ما بنته البلاد خلال عقد من التضحيات والجهود. لن نخوض أيضا في بشاعة المُنقلب وضحالته فهو ليس في الحقيقة سوى واجهة رثّة لقوى إقليمية ودولية أكبر منه ومن جماعته استغلت رغبته في السلطة وهوسه بكرسي الحكم لوأد حلم عظيم.

إن وقوف البلاد على حافة الإفلاس وظهور شبح المجاعة في الأفق بعد اختفاء المواد الأساسية من رفوف المتاجر وبعد الارتفاع الصاروخي للأسعار وانتشار الجريمة بشكل مرعب يؤشّر بجلاء على الهاوية السحيقة التي تسير نحوها تونس بكل ثبات. 

البناء الهشّ 

لا يتسّع المجال هنا لسرد أطوار الفشل الذريع الذي وقعت فيه النخب السياسية والفكرية خاصة بعد ثورة يتيمة سلّمت أمانة مُنجزها الأكبر متمثلا في الإطاحة برأس النظام إلى مجموعة من القوى العاجزة والفواعل المتناحرة. كان التغيير في تونس فجائيا مباغتا لكل المراقبين والفاعلين في الداخل والخارج وهو ما سهّل تكالب مجاميع النضال وتجار الديمقراطية وسماسرة حقوق الإنسان القفز إلى سدّة المشهد وقيادة السفينة لينتهوا بها في قاع المحيط. 

كانت الثغرة الأولى في جدار الثورة متمثلة في أنْ تسلّم المقودَ جيلٌ لا علاقة له بها أي أنّ النخب السياسية والفكرية التي أثثت المشهد منذ 2011 هي نخب لم تنتم في أغلبها إلى الجيل الشاب الذي دكّ نظام بن علي وأجبره على الفرار. جلبت هذه القوى معها صراعات الجيل السابق على الثورة ومناكفاته الأيديولوجية وتحوّل الصراع من صراع ضد الاستبداد وجذوره العميقة من أجل تحقيق أهداف الثورة إلى صراع على الهوية وعلى طبيعة الدولة وبنائها السياسي.

 

صحيح أنّ المشهد التونسي قبل الانقلاب لم يكن مشهدا ورديا وأنّ التعثر والتخبّط كانا سيدا الموقف وهو أمر طبيعي في كل المسارات الثورية الخارجة من طور الاستبداد، لكنّه كان مسارا وطنيا خالصا يتحسس طريقه نحو التوازن ثم الاستقرار بعد أن نجح في تحقيق أهم مطالب البناء الديمقراطي وهو مطلب الحرية.

 



عاد الصراع القديم بين اليمين واليسار إلى السطح حتى غطى على مؤامرات الدولة العميقة وخططها من أجل استعادة زمام السلطة بعد فشل القوى السياسية في تحصين المسار عبر فرض نظام برلماني صرف يقضي على أحلام الاستبداد في إحياء سلطة الفرد المطلقة. من جهة ثانية لم يلتفت أحد إلى هشاشة الوضع الاجتماعي بعد موجة الاضرابات الكبيرة التي قادها الاتحاد العام التونسي للشغل وقاد بها الاقتصاد نحو الانهيار المريع. لم يلتفت أحد إلى تمرّد المرفق الإعلامي الحكومي والخاص على الثورة ورموزها ونجاحه الكبير في ترذيل المشهد السياسي وإسقاط صورة السياسيين وخاصة منهم نواب مجلس الشعب في ذهن العوامّ. لم يلتفت أحد كذلك إلى حالة الترقب الشعبي الحارقة وهي تأمل في أن تساهم الثورة في تحسين وضعها الاجتماعي الكارثي.

كانت نتيجة هذا الفعل الذي شاركت فيه كل القوى السياسية عن قصد أو عن غفلة مفتاح الباب الذي مكّن الدولة العميقة من الإطاحة بالقيمة الحضارية للثورة في ذهن العوام فخرج السؤال القاتل: ماذا ربحنا من هذه الثورة ؟ وكان الجواب القاصم: لا شيء فكلّهم فاسدون. 

حتمية الانقلاب 

كان الانقلاب نتيجة حتمية لمسار انتقالي كارثي سقط في شراك الأطماع الخارجية والمؤامرات الإقليمية والعجز الداخلي وهو الأمر الذي يُبطل عنه صفة المفاجأة فالكلّ كان يعلم أنّ الطريق صار مسدودا. لقد بقيت القوى الصلبة للدولة بيد النظام القديم من إدارة وأمن وإعلام وثقافة وقضاء ومؤسسات رسمية رغم ما طرأ عليها خلال فترات قصيرة متباعدة من رغبة في التحرر والاستقلال والخروج من دائرة الهيمنة والتوجيه لصالح هذا الطرف أو ذاك.
 
لا يمكن أن نلوم المنظومة الانقلابية على ما فعلته لأنّ الطبيعة تأبى الفراغ ولأنها نجحت خلال وقت قصير جدا في الإطاحة بكل المؤسسات الشرعية وتصفية كل أجهزة الرقابة الدستورية بما فيها البرلمان والدستور نفسه. نجح الانقلاب في تصفية الثورة ومسارها بتعلّة تصحيح المسار وإصلاح الخلل وإنقاذ البلاد كما فعل الانقلاب المصري قبل ذلك بسنوات.
 
لم ينجح الانقلابيون بفضل قوّتهم لكنهم نجحوا بسبب ضعف الفريق المقابل في منعهم من الفوز بل إن الطرف المقابل قد وفّر لهم كل أسباب النجاح حين نجحت أحصنة طروادة داخل البرلمان من شيطنة عمل المجلس وتحويله إلى مسرح للتهريج والفوضى. 

فضل الانقلاب 

إنّ أهمّ مكاسب الحركة الانقلابية قدرتها على تعرية كامل المشهد التونسي وغربلة وظيفة كل الفواعل فيه وفضح دور المكونات الهلامية التي كانت محسوبة على الثورة وهو كشفٌ لم يكن ممكنا قبله. من كان يصدّق أنّ تصفية المسار الانتقالي ستكون ممكنة وبكل تلك السهولة؟ ومن كان يظن ولو في أبشع كوابيسه أن التيارات السياسية كحركة الشعب والتيار الديمقراطي وكل الفصائل المتدثرة بالحداثة والحرية وحقوق الإنسان مثلا ستكون أصلب أحزمة الانقلاب؟

من كان يتصوّر أن يسكن الشعب هذا السكون ويرضى بمصادرة أعزّ مكتسباته وأثمن أحلامه بعد أن كان منذ مدة قصيرة يغلي ثائرا مطالبا بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية؟ من كان يتخيّل أن يُغلُق البرلمان ويصادَر الدستور ويعود قمع الحريات بتلك البشاعة كأنّ شيئا لم يكن؟ من كان يتوقع أن تصير قارورة الزيت أغلى ثمنا من الحرية؟

لا أحد كان يتوقع ذلك لكنّ هذا ما حدث بالضبط. هذه الخلاصة تؤكد أنّ الوعي الجمعي وحتى النخبوى كان في واد وأن الحقيقة كانت في واد آخر. لقد برهنت النخب التونسية بكامل أطيافها على أنها كانت أعجز من استلام اللحظة الثورية الفارقة بل إنها كانت أحد أهم ركائز الانقلاب وأبرز مسبباته.

 

الانقلاب قدّم للثورة والشعب والوعي الجمعي خدمة جليلة بأن أبان حقيقة المشهد وأقام الحجة على الجميع بأنّ سرديات الاستبداد القديمة التي تثمّن عظمة الشعب وذكاء النخب ووطنية القوى واستقلالية القرار والسيادة.. كلها أكاذيب وأوهام وطلاسم وأن البلد واقع تحت أبشع أنواع الاحتلال الداخلي.

 



إنّ أخطر ما كشفه الانقلاب هو وهم الدولة التونسية ووهم السيادة الوطنية ووهم الاستقلال فكيف يمكن لدولة مستقلّة ذات مؤسسات (مدنية وعسكرية وأمنية وقضائية وتشريعية ) وذات سيادة أن تصمت أمام مشروع تخريبي يصفّي بجرّة قلم مكاسب ثورة مكللة بدماء الشهداء وتضحيات الفقراء ؟ لا أحد بإمكانه أن ينكر الدول الاقليمي وخاصة المصري والإماراتي في إنجاح الانقلاب التونسي ولا أحد يستطيع أن يتجاهل أن كل ذلك قد تمّ بضوء أخضر أوروبي وأمريكي بهدف تصفية آخر معاقل الربيع العربي نسجا على المنوال المصري وإنْ بخصوصية تونسية. لكن مهما كان حجم التدخّل الخارجي وعمقه فإنه يبقى غير قادر على تجاوز وزن الفواعل الداخلية بما فيها الفواعل الاقليمية التي كانت نشطة في تفعيل الانقلاب التونسي.

صحيح أنّ المشهد التونسي قبل الانقلاب لم يكن مشهدا ورديا وأنّ التعثر والتخبّط كانا سيدا الموقف وهو أمر طبيعي في كل المسارات الثورية الخارجة من طور الاستبداد، لكنّه كان مسارا وطنيا خالصا يتحسس طريقه نحو التوازن ثم الاستقرار بعد أن نجح في تحقيق أهم مطالب البناء الديمقراطي وهو مطلب الحرية.
 
كشف الانقلاب كذلك القدرة الهائلة للأذرع الاعلامية على شيطنة الثورات واستنزاف الحماس الثوري وتعفين المشهد السياسي والاجتماعي مسنودة بقدرة النقابات العمالية على كسر نسق الانتاج وتعطيل الدورة الاقتصادية في سبيل تأجيج الغضب الشعبي. كشف الانقلاب كذلك أنّ مصير البلاد ومصير شعبها وثورتها لا تقرّره قواها الحية وإنما تصنعه أروقة وزارات الخارجية في الدول الغربية بتنسيق مع غرف الانقلابات في الخليج. فلا النخب السياسية أو الفكرية أو الحقوقية كانت قادرة على توحيد كلمتها في مواجهة جريمة كبرى بحجم جريمة مصادرة الدستور وغلق برلمان الشعب.
 
لا يختلف الأمر كذلك بالنسبة للقوى الصلبة في البلاد حيث نجح الانقلاب للمرّة الأولى في جرّ المؤسسة العسكرية إلى مغامرة هي الأخطر في تاريخه بعد أن أغلقتِ البرلمان مدرعاته ودباباته.
 
بناء على ما تقدّم يكون الانقلاب قد قدّم للثورة والشعب والوعي الجمعي خدمة جليلة بأن أبان حقيقة المشهد وأقام الحجة على الجميع بأنّ سرديات الاستبداد القديمة التي تثمّن عظمة الشعب وذكاء النخب ووطنية القوى واستقلالية القرار والسيادة.. كلها أكاذيب وأوهام وطلاسم وأن البلد واقع تحت أبشع أنواع الاحتلال الداخلي. هكذا يكون درس الثورة والانقلاب واضحا أمام الأجيال القادمة وفحواه أنّ التعايش مع الاستبداد انتحار وحجة العاجزين وأنّ الحلول الوسطية أشبه بمشانق يقيمها الثوار لأنفسهم بأيديهم. فهل ستنجح تونس بوعيها الجديد في محاسبة الأيادي المرتعشة التي أطاحت بثورتها وأحرقت حلمها في الحرية بما في ذلك النخب المحسوبة على الثورة من الإسلاميين أولا ومن سماسرة الديمقراطية وحقوق الإنسان ثانيا؟