أفكَار

نقاش علمي هادئ حول مراجعة أو تعليق عقوبة الإعدام (2 من 2)

محمد يتيم القيادي في العدالة والتنمية يراجع مواقف الفقهاء من عقوبة الإعدام (فيسبوك)

دافع القيادي البارز في حركة التوحيد والإصلاح وحزب العدالة والتنمية، محمد يتيم، على تعليق تنفيذ عقوبة الإعدام بالمغرب، معتبرا أن التضييق على ثقافة القتل والقصاص يُعد توجها تشريعيا عاما في الشريعة الإسلامية. 

واعتبر الوزير السابق في حكومة العثماني، في ورقة ننشرها في "عربي21" على جزءين، أن قاعدة التخيير في القصاص وفي حد الحرابة في الإسلام، تشكل مدخلا لمراجعة أو تعليق عقوبة الإعدام، داعيا إلى تضييق حالات تطبيق هذه العقوبة إلى الحد الأقصى في القانون الجنائي المغربي، وفي الممارسة  أيضا.

يركز الجزء الثاني والأخير، في تسليط الضوء عما إذا كانت قاعدة التخيير في القصاص وفي حد الحرابة مدخلا لمراجعة أو تعليق عقوبة الإعدام.

قاعدة التخيير في القصاص وفي حد الحرابة.. هل تكون مدخلا لمراجعة أو تعليق عقوبة الإعدام؟ 

قاعدة التخيير هي إحدى القواعد العامة التي تشهد ليسر الشريعة وسماحتها واستيعابها للواقع المتغير وللناس على اختلاف مستوياتهم وطباعهم وعلى حسن سياستها لهذه الطباع بالشكل الذي يجد كل منهم لنفسه مكانا داخل فضائها الرحب والواقع وفي ظل رحمة الإسلام التي تسع العالمين أي الناس على اختلاف الأقطار والأجيال على اختلاف الأزمنة.

والتخيير لغة هو جواز العدول عن الشيء إلى غيره مع القدرة عليه.. كما عرف بأنه ترجيح تصرف على غيره، وهو عند الفقهاء تفويض الأمر إلى اختيار المكلف في انتقاء خصلة من خصال معينة شرعا يوكل إليه تعيين أحدها بشروط معلومة.. 
 
والتخيير عند الفقهاء كما يكون في الإباحة بين فعل المباح وتركه.. وكل من الفعل والترك يتصف بالإباحة فإنه يكون أيضا في المندوبات كما يكون في الواجبات ويسمى الواجب المخير. 

ومن الأمثلة في القرآن الكريم ما جاء في التخيير في كفارة اليمين في قوله تعالى: "فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة".

 

الفقهاء ذهبوا إلى اعتبار قاعدة التخيير في القصاص في القتل العمد ونفس الشيء في القتل في حد الحرابة، ففي القصاص في القتل العمد يخير القرآن أولياء الدم بين العفو أو الدية أو هما معا وبين القصاص

 


  
وقد نقل الزركشي في البحر المحيط 206/1 عن الشافعي قاعدة تقول إن كل شيء في القرآن فيه أو فهو على التخيير وهو ما روي عن ابن عباس أيضا رضي الله عنه في قوله: "كل شيء في القرآن (أو؛ أو ) فصاحبه يخير فيه وقال عطاء رحمه الله: "ما كان في القرآن (أو، أو) فصاحبه فيه بالخيار أي ذلك شاء فعل.

وقد قسم العلماء التخيير إلى قسمين: تخيير شهوة وإرادة وتخيير مقيد بالمصلحة (المنتور للزركشي 1/263. 

أما القسم الأول فهو التخيير الذي ينتقل فيه المخير من واجب إلى واجب آخر من الخصال المخير فيه بهواه وإرادته كيفما هداه إليه طبعه ورغب فيه، فله أن يعرض عما يشاء ويقبل منها ما يشاء مثل التخيير في كفارة اليمين.. للحانث أن يختار أيا من الخصال الثلاث الإطعام أو الكسوة أو العتق بحسب ميله وما يراه أيسر له ويهواه.

يقول القرافي: "فالتخيير في الكفارة في خصالها معناه أن ينتقل عن أي خصلة شاء إلى الخصلة الأخرى بشهوته، وما يجده يميل إلى طبعه، أو ما هو أسهل عليه فإن الله ما خيره إلا لطفا به" 3/16. 

القسم الثاني تخيير رأي ومصلحة، ومعنى هذا التخيير في هذا القسم أن المخير يجب عليه اختيار الأصلح بشرط النظر والاجتهاد في تحصيل هذه المصلحة، بحيث أنه يتعين فعل هذا تارة وهذا تارة بشرط النظر والاجتهاد في تحصيل هذه المصلحة، بحيث أنه يتعين هذا تارة وهذا تارة ولا يتعين فعل واحد من هذه الأمور في كل وقت وليس للمخير أن ينتقل بين الخصال بهواه. وهذا القسم يقع في سائر ما خير فيه ولاة الأمر في الواجب.. ومن أمثلة هذا القسم من التخيير: تخيير الإمام في الأسرى وفي حد الحرابة "الفروق للقرافي 16/3.

والشاهد عندنا أن الفقهاء قد ذهبوا إلى اعتبار قاعدة التخيير في القصاص في القتل العمد ونفس الشيء في القتل في حد الحرابة، ففي القصاص في القتل العمد يخير القرآن أولياء الدم بين العفو أو الدية أو هما معا وبين القصاص، كما ورد في قوله تعالى:

"كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم. ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون". (البقرة: 178ـ 179)

جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسام قال: "ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يؤدي وإما أن يقاد".
 
ومنها ما جاء عن أبي داود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إنكم يا معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل وإني عاقله، فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين: بين أن يأخذوا العقل أو يقتلوا".
  
وفي رواية لأبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث إما أن يقتص وإما أن يعفو وإما أن يتخذ الدية فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه ومن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم".
 
قال الشوكاني في نيل الأوطار: "ظاهر الحديث أن القصاص والدية واجبتان على التخيير".

التخيير في حد الحرابة  

وفي حد الحرابة ذهب الجمهور إلى تنزيل العقوبة بحسب الأحوال، قال الشافعي رحمه الله ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما في قطاع الطريق ـ: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض، وكذلك قال غيره من السلف، وفي الصلب خلاف للأئمة رحمهم الله.

 أما وضع توقيع العقوبة فاختلف فيه أيضا؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن (أو) في الآية للتخيير، أي الإمام مخير في إيقاع هذه العقوبة على من شهر السلاح في فئة المسلمين وأخاف السبيل وظفر به وقدر على قاعدة ارتفاع الحكم لارتفاع علته والتصرف أو نسا الأحكام.
 
ورد في تعريف التصرف بالإمامة في الكتاب القيم للدكتور سعد الدين العثماني: "تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم": "التصرف بالإمامة حكم ألغي لانتفاء المصالح التي أملته أول مرة. وقد يعود مرة أخرى إذا اقتضت ذلك المصلحة العامة. فالنهي عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، الذي رأينا من قبل أنه تصرف بالإمامة، يمكن أن يعود مرة أخرى إذا اقتضته ظروف المجتمع وقدر المصلحة فيه أولو الأمر، والأمر نفسه يمكن أن يقال عن جميع التصرفات النبوية بالإمامة".

ونظير هذا المعنى أشار إليه القرطبي في الفرق بين النسخ ورفع الحكم بارتفاع علته استدلاله على أن النهي عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ثم إباحته ليس نسخا، يقول: "وفرق بين رفع الحكم بالنسخ ورفعه لارتفاع علته، فالمرفوع بالنسخ لا يحكم به أبدا، والمرفوع لارتفاع علته يعود بعود العلة".

ويبين الدكتور سعد الدين العثماني أنه من الممكن إيقاف العمل ببعض الأحكام أو العدول عنها لغيرها أو تأخير تنفيذها لانتفاء علتها أو شروط تطبيقها، حيث يورد على لسان بدر الدين الزركشي الذي يميز بين النسخ وبين الإنساء. "وسمي الحكم المرتفع لارتفاع علته حكما منسأ، كما قال تعالى: "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها" (البقرة \106)، وقد قرأها ابن كثير وأبو عمرو: "أو ننسئها"، من أنسأت الأمر إنساء إذا أخرته". 

يقول الزركشي: "وبهذا التحقيق تبين ضعف ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف أنها منسوخة بآية السيف، وليست كذلك بل هي من المنسأ، بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعله توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدا". ثم أورد النهي عن ادخار لحوم الأضاحي من أجل الدافة التي دفت على المدينة، والذي عقبة الإذن فيه. قال: "فلم يجعله ـ أي الشافعي ـ منسوخا، بل من باب زوال الحكم بزوال علته، حتى لو فجأ أهل ناحية جماعة مضرورون تعلق بأهلها النهي".

ويميز الدكتور سعد الدين العثماني بين النسخ والتصرف بالإمامة قائلا:
 
"إن النسخ لا يكون إلا بنص شرعي، فهو بالتالي لا يجوز إلا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أما بعد موته عليه الصلاة والسلام فلا نسخ. أما التصرف بالإمامة فيمكن أن يبقى ساري المفعول إلى حين موت النبي عليه الصلاة والسلام، بل يمكن أن يكون بعده إذا قدر ولي الأمر صلاحية استمراره، وقد يغيره إذا اقتضت المصلحة ذلك. ولذلك فمن الأدلة على كونه تصرفاً نبوياً صادرا من مقام الإمامة، تصرف الخلفاء الراشدين بخلافه".
 
ويضيف الدكتور سعد الدين العثماني مبينا أن عدم اعتبار التصرفات النبوية بالإمامة دفع بعدد من الفقهاء إلى القول بنسخ عدد من الأحكام: "ولدقة هذه الفوارق بين التصرفات النبوية بالإمامة والأحكام المنسوخة، فإن كثيرا مما اعتبره العلماء منسوخا هو على الراجح تصرف منه صلى الله عليه وسلم بالإمامة.. وبهذا التعليل نفسه علل فقهاء الأحناف اعتبارهم عقوبة التغريب (أو النفي) للزاني غير المحصن تعزيرا (أي تصرفا بالإمامة) لا حدا (أي عقوبة محددة بالنص لا دخل لولي الأمر في مقدارها). فأشار أبو بكر الجصاص إلى أن تلك العقوبة إنما أمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم لأن المسلمين "كانوا حديثي عهد بالجاهلية فرأى ردعهم بالنفي بعد الجلد، كما أمر بشق روايا الخمر وكسر الأواني، لأنه أبلغ في الزجر وأبلغ في قطع العادة".

وكثير من الأحكام التي يقتضي تشريعها أحكاما وسيطة كانت تصرفات نبوية بالإمامة اقتضاها فطم العرب عن عاداتهم الجاهلية وسد دواعي الشرك والبدعة، والتمهيد لتحلي المسلمين بالعقائد الحقة والأخلاق الفاضلة والالتزام بمبادىء الدين وأحكامه.

ومن الواضح أنه صلى الله عليه وسلم تصرفا بالإمامة قد انتقل من حكم شرعي أصلي في موضوع الزاني المحصن أي الجلد مائة جلدة إلى تقرير عقوبة تعزيرية إضافية أي التغريب أو النفي بعد الجلد وأنه فعل ذلك للمصلحة، مما يؤكد دوران الحكم مع المصلحة وجودا وعدما بما في ذلك الأحكام التي لها صلة بالحدود.

ومن ذلك أمره صلى الله عليه وسلم بقتل شارب الخمر في الرابعة الذي حار فيه العلماء الكبار وأعياهم جواب الحديث الوارد في الموضوع أي قوله صلى الله عليه وسلم.. فعن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "من شرب الخمرة فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه". وقد ذهب العلماء في هذا الأمر أربعة أقوال هي:

1 ـ قال أكثر أهل العلم بأن الحديث منسوخ، منهم الشافعي، والترمذي، والخطيب البغدادي، وأبو جعفر الطحاوي.
 
2 ـ وقال بعض العلماء إن الأمر بالقتل غير منسوخ، ومنهم عبد اللّه بن عمرو بن العاص من الصحابة، وأبو محمد بن حزم، وجلال الدين السيوطي.

3 ـ وأول بعض العلماء الحديث بأن "معناه إذا استحل ولم يقبل التحريم" مثل ابن حبان. 


4 ـ وذهب بعضهم إلى أنه من باب التعزيز الذي يفعله الإمام عند الحاجة، وحكاه ابن التميم للشافعي وأحمد، وقال "وهو أظهر"، وهذا قول ابن القيم الذي أكد أنه لم ينسخ، ولم يجعله النبي حدا لا بد منه، "بل هو بحسب المصلحة إلى رأي الإمام".

ويعقب الدكتور سعد الدين العثماني بعد توقفه عند هذا الخلاف وهل الحديث منسوخ أم لا أم أنه يتوجه إلى المستحل إلى ترجيح القول الأخير أي أنه من باب التعزير الذي يفعله الإمام سياية أي مراعاة للمصلحة وتقديرا لها حيث يستنتج الدكتور سعد الدين قائلا: "والمذهب الأخير ـ في رأينا ـ أرجح وأظهر لأدلة كثيرة. لكن المهم أن اختلاف العلماء حول هذا التصرف النبوي كان كبيرا، وأن اعتباره صادرا بحكم الإمامة يحل الخلاف بسهولة، ويمكن من أخذ مجمل أدلة كل فريق بعين الاعتبار..

 

إقرأ أيضا: نقاش علمي هادئ حول مراجعة أو تعليق عقوبة الإعدام (1من2)