قضايا وآراء

تونس و"الربيع العربي 2"

1300x600
يتفق العديد من المهتمين بالشأن العربي على تسمية الاحتجاجات التي عرفتها بعض الدول العربية ما بين سنتي 2018 و2019 بالموجة الثانية من الربيع العربي، أو "الربيع العربي 2"، مع ما تحيل إليه هذه التسمية من تأثير وسائل التواصل الحديثة وارتباط الاحتجاجات بالشباب ومشكلة البطالة. وبحكم أن السياق الذي حصلت فيه هذه التحركات كان هو بلدان هامش الموجة الأولى (مثل العراق ولبنان)، فإن الربط بين "الربيع العربي 2" وبين تونس يحتاج إلى توضيحات.

وسنحاول في هذا المقال أن نفهم موقع "تصحيح المسار" في إطار الهندسة الجديدة للإقليم، وعلاقة كل ذلك بمسألة التطبيع مع الكيان الصهيوني وصفقة القرن، كما سنحاول أن نتدبر الدور الحقيقي الذي يلعبه الرئيس التونسي في إغلاق القوس الديمقراطي وتفكيك مخرجات الانتقال الديمقراطي وضرب أجسامه الوسيطة، كما يقول خصومه، أو دوره في إرساء ديمقراطية حقيقية بعيدة عن المحاصصة والفساد وتزييف الإرادة الشعبية، كما يقول أنصاره.

كانت تونس الدولة التي انطلقت منها شرارة "الربيع العربي 1"، وشملت من بعدها سبع دول هي مصر وسوريا والجزائر وليبيا والمغرب واليمن والبحرين. وقد انتهت أغلب ثورات الموجة الأولى من "الثورات العربية" نهايات مأساوية تراوحت بين الانقلاب العسكري (مصر) والحرب الأهلية (ليبيا، سوريا، اليمن) والقمع الدموي عبر تدخل أجنبي مباشر (البحرين).
الرئيس التونسي قد حوّل حالة الاستثناء إلى "مرحلة انتقالية" تهدف إلى التمكين لمشروعه السياسي (الديمقراطية القاعدية أو المجالسية). فمن خلال انفراده بإدارة حالة الاستثناء، يبدو أن الرئيس التونسي قد نجح -إلى حد هذه اللحظة- في فرض منطق الأمر الواقع وتمرير خارطة طريقٍ لا تشاركية فيها ولا حوار إلا مع "الشعب" داخليا، ومع الجهات المانحة خارجيا

رغم هشاشة الأوضاع الاقتصادية والأمنية والسياسية، ورغم التدخلات الخارجية بقيادة محور الثورات المضادة، بدت الثورة التونسية استثناءً حقيقيا على الأقل في بُعدين مركزيين مثّلا -إلى حدود 25 تموز/ يوليو- قطيعة مع الميراث الاستبدادي ومع مشاريع الزعامة واحتكار السلطة: أولا، الشراكة بين الإسلاميين والعلمانيين في الحكم (بصرف النظر عن تهافت الأسس الفكرية لهذه الشراكة)، وثانيا، الاحتكام إلى صناديق الاقتراع والإرادة الشعبية (بصرف النظر عن تزييف تلك الإرادة أو التلاعب بها فيما بعد).

مهما كان توصيفنا لإجراءات 25 تموز/ يوليو (انقلاب على الدستور أم خيار دستوري شرعي)، فإننا لن نختلف كثيرا في أن الرئيس التونسي قد حوّل حالة الاستثناء إلى "مرحلة انتقالية" تهدف إلى التمكين لمشروعه السياسي (الديمقراطية القاعدية أو المجالسية). فمن خلال انفراده بإدارة حالة الاستثناء، يبدو أن الرئيس التونسي قد نجح -إلى حد هذه اللحظة- في فرض منطق الأمر الواقع وتمرير خارطة طريقٍ لا تشاركية فيها ولا حوار إلا مع "الشعب" داخليا، ومع الجهات المانحة خارجيا. ولا شك في أن هذا الواقع الجديد يجعل من الرئيس سلطة تأسيسية لجمهورية ثالثة؛ تقطع مع الجمهورية الثانية بدستورها وقوانينها ومؤسساتها وأجسامها الوسيطة.
لأننا نعرف جيدا أن المشهد التونسي هو مشهد غير مستقل في مستوى قراره الوطني سواء قبل 25 تموز/ يوليو أو بعده، فإننا نستبعد أن يكون "تصحيح المسار" قرارا داخليا محضا، ونعتبره استجابة داخلية لقرار جهات خارجية اقتضت مصالحها أن تدعم إجراءات الرئيس، لكن دون أن تُعطيَه صكا على بياض

ولأننا نعرف جيدا أن المشهد التونسي هو مشهد غير مستقل في مستوى قراره الوطني سواء قبل 25 تموز/ يوليو أو بعده، فإننا نستبعد أن يكون "تصحيح المسار" قرارا داخليا محضا، ونعتبره استجابة داخلية لقرار جهات خارجية اقتضت مصالحها أن تدعم إجراءات الرئيس، لكن دون أن تُعطيَه صكا على بياض. فما هي تلك المصالح التي آذنت بنهاية "الربيع العربي 1" ودخول تونس إلى زمن سياسي جديد، وهو زمن يسوّق له الرئيسُ وأنصارهُ باعتباره زمنَ الزعيم الملهم والديمقراطية المباشرة وسيادة الشعب، ولكنه في الحقيقة زمن الإملاءات الاقتصادية (الإصلاح الهيكلي مع ما يعنيه من تفقير مُمَنهج للفئات الشعبية)، والإملاءات السياسية (دخول نادي التطبيع ودعم صفقة القرن) وذلك مهما كان شكل النظامين السياسي والانتخابي، أي مهما كانت التسويات التي ستُفرض على نخب الحكم/ الوكالة في اللحظة المناسبة لا محالة؟

رغم الاختلافات بين مساري الانتقال الديمقراطي في تونس والمغرب، فإن قوة الحضور الإسلامي فيهما ومآلات ذلك الحضور أمران يُغريان بالمقارنة. لمواجهة الموجة الأولى من الربيع العربي، اضطُرت الدولة العميقة في المغرب (المخزن) إلى تمكين الإسلاميين من موقع صغير داخل أجهزة الحكم، ولكنها أبقت أهم الملفات والقطاعات (الأمن، الجيش، الديبلوماسية، المؤسسة الدينية الرسمية) من مشمولات "أمير المؤمنين". وفي تونس يكفي أن نضع "المركّب الجهوي- الأمني-المالي" مكان "المخزن"، و"حركة النهضة" في محل "حزب العدالة والتنمية"، لنفهم واقعا سياسيا تحكمه فجوة جوهرية بين التمثيل الشعبي (أو الشرعية الانتخابية) وبين الحكم أو القدرة على التأثير في صناعة القرار. ورغم أن الملك المغربي قد مرّر قرار التطبيع مع الكيان الصهيوني في ظل حكومة "إسلامية"، فإن علاقات العرش الاستراتيجية مع محور الثورات المضادة، جعلته يقرر استبعاد حزب العدالة والتنمية من مركز الحكم بطريقة "ناعمة".
يبدو أن المسألة لا تتعلق بتحجيم الدور السياسي للإسلاميين (دون السماح بهيمنة استراتيجيات الاستئصال ومنطق الصراع الوجودي)، بل إن المسألة تتعلق بتقييم القوى الدولية (خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) لتجربة الانتقال الديمقراطي في مختلف المستويات

أما في تونس، فيبدو أن المسألة لا تتعلق بتحجيم الدور السياسي للإسلاميين (دون السماح بهيمنة استراتيجيات الاستئصال ومنطق الصراع الوجودي)، بل إن المسألة تتعلق بتقييم القوى الدولية (خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) لتجربة الانتقال الديمقراطي في مختلف المستويات. لقد حرصت القوى الغربية على التحكم في مسار الانتقال الديمقراطي في تونس، ونجحت في حمل مختلف الفاعلين الجماعيين على تسويات مؤقتة وهشة.

ورغم أن مؤشرات حقوق الإنسان وحرية الإعلام وغير ذلك من الأمور المتعلقة بعالم الخيرات الروحية، كانت تشير إلى نجاح "الاستثناء التونسي"، فإن المؤشرات الاقتصادية التي تتعلق بعالم الخيرات المادية، كانت تنبئ بأن الوضع قد وصل حالة تستوجب تدخلا "جراحيا" عاجلا.

بصرف النظر عن الارتباطات الخارجية لـ"التأسيس الجديد" وعلاقاته ببعض القوى الإقليمية أو الدولية، فإن نجاح "تصحيح المسار" في البقاء إلى حد هذه اللحظة يدل على عدم وجود أية استراتيجية دولية جدية هدفها إسقاطه في هذه اللحظة أو إنجاحه. وهو ما يعني أن إجراءات الرئيس -سواء أسميناها انقلابا أم تصحيحا للمسار الثوري- قد جاءت في إطار مشروع جديد للإقليم يوظف استراتيجيات الفاعلين المحليين -ومنهم الرئيس- ولكنه يدفع بها في اتجاهات لا تكون مقصودة بالضرورة في الصيغ الأصلية لتلك الاستراتيجيات.

في المشروع الذي وضعته أمريكا وحلفاؤها الغربيون لتونس، لا يمكن أن نفصل بين الإملاءات الاقتصادية (الإصلاح الهيكلي) والديبلوماسية (صفقة القرن)، وإن كان للفاعلين المحليين هامش للتحرك والمناورة -تحالفا أو تصادما- تحت سقف تلك الإملاءات.
مهما كان موقفنا من إجراءات الرئيس قيس سعيد منذ 25 تموز/ يوليو الماضي، فإن تلك الإجراءات قد جاءت لتؤكد هشاشة الوعي/ المنجز الديمقراطي في تونس، كما جاءت لتؤكد أيضا أكذوبة الانشغال الغربي بالديمقراطية وبما قد تتعرض له من انتكاسات

ولفهم "تصحيح المسار" وضرورته في لحظةٍ ما قد يكون علينا أن نطرح الأسئلة التالية: ماذا ينفع الجهات المانحة أن تعيش تونس ديمقراطية صورية؛ والحال أن كل المعطيات تشير إلى أنها ستعجز عن سداد دينها العمومي الذي بلغ أكثر من 41 مليار دولار سنة 2021؟ كيف يمكن فرض "الإصلاحات الموجعة" في ظل نظام لا مركزي تتعدد مراكز الحكم فيه ولا تشتغل بمنطق الدولة ولكن بمنطق المافيات؟ بل كيف يمكن إصلاح الإدارة ومقاومة الفساد في ظل تغوّل النقابات وتحولها إلى دولة داخل الدولة؟ هل يمكن أن تبقى تونس برمزيتها الثورية خارج مسار التطبيع وصفقة القرن؟ وهل يمكن توظيف "تصحيح المسار" لإضعاف أصحاب السرديات الكبرى (بإسلامييهم وقومييهم ويسارييهم)، والدفع بهم إلى مقايضة "العمل السياسي القانوني" مقابل "التطبيع" وتأييد صفقة القرن؟

مهما كان موقفنا من إجراءات الرئيس قيس سعيد منذ 25 تموز/ يوليو الماضي، فإن تلك الإجراءات قد جاءت لتؤكد هشاشة الوعي/ المنجز الديمقراطي في تونس، كما جاءت لتؤكد أيضا أكذوبة الانشغال الغربي بالديمقراطية وبما قد تتعرض له من انتكاسات. فالغرب لا يشغله أساسا إلا ضمان مصالحه الجيو-استراتيجية في المنطقة. وهي مصالح لا يعنيه كثيرا أن تتحقق في ظل ديمقراطية تمثيلية ونظام برلماني معدّل، أو في ظل ديمقراطية مباشرة وحكم رئاسوي، أي لا يعنيه كثيرا شكل النظام الحاكم ما دام ذلك النظام قادرا على تحقيق الاستقرار في الداخل، وقادرا على مواجهة النفوذين الروسي والصيني في المنطقة، والأهم من ذلك كله ما دام ذلك النظام قابلا للاندراج في مسار التفقير الممنهج للشعب (تبني الإملاءات الاقتصادية)، والتطبيع مع الكيان الصهيوني وصفقة القرن باعتبار ذلك هو المقصد النهائي من عملية الإضعاف/ الإذلال الممنهج للتجربة الديمقراطية التونسية.

twitter.com/adel_arabi21