كتب

ما الذي يمكن أن يقدمه مسلمو اليوم في عالم الحداثة؟ كتاب يجيب

هناك تأثيرات علمانية وحتى دهرية في العالم الإسلامي ولكنها لا ترتقي إلى أن تشكل ظاهرة قوية وجامحة

صدر مؤخرا للكاتب والباحث التونسي الدكتور رفيق عبد السلام، كتاب جديد بعنوان: "الإله والمعنى في زمن الحداثة" عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر في بيروت.

 

يتناول الكتاب في قسمه الأول معضلة الحداثة ومسارها المركب فكريا وسياسيا في العالم الإسلامي، وفي الجزء الثاني يبسط القول في نظريات الحداثة ومختلف مدارسها في الفكر الغربي.

 

هنا عرض بأهم ما تناوله الكتاب، الذي لا يمتاح أهميته فقط لكونه يلامس موضوعا فلسفيا وفكريا يبحث في علاقة الإسلام بالحداثة، وإنما لكونه يصدر أيضا عن واحد من الفاعلين في مشهد ما يعرف بـ الإسلام السياسي المعاصر"، بالنظر إلى المهمات التي اضطلع بها الدكتور رفيق عبد السلام في تونس (وزير خارجية ومسؤول علاقات خارجية في حزب حركة النهضة)، منشأ ثورات الربيع العربي المعاصر.

 

لئن كان هناك من معنى يمكن أن يلخص مضمون هذا الكتاب في مختلف فصوله وأبوابه، فهو تحرير الحداثة من سردياتها الكبرى التي أسرتها لعقود طويلة من الزمن، لصالح قراءة أقل وثوقية وأكثر انفتاحا وتواضعا، بما يتيح فتح أبواب الاجتهاد في الحداثة مع تحرير بواعث العزم وممكنات العمل خارج الحدود الضيقة التي رسمها الخطاب المهيمن، وذلك بعد تخليصه مما علق به من نزوع مركزي في نصوصه الأصلية وما صاحبه من آفتي التكرار والاجترار في العالم العربي والفضاء الإسلامي الأوسع.

كثيرا ما تقدم الحداثة نفسها، عبر فلاسفتها ومنظريها المشبعين بثيولوجيا التقدم، بأنها مسار حتمي  ومظفر يقوم على محطات من القطيعة والاهتزاز سواء على مستوى الوعي الفردي والجمعي أم على مستوى الاجتماع السياسي: قطيعة مع الماضي المظلم لصالح الحاضر المشرق، انتقال من الإنسان المندمج في الأشياء إلى الذات الفاعلة والواعية بنفسها ومحيطها، ومن الإنسان المذعور والمستلب لصالح الإنسان العاقل والراشد، أو هي انتقال من الحديقة السحرية للعالم إلى العالم المسطح والفاقد للأعماق السحرية والروحية على حد تعبير ماكس فيبر.

وقد تبين لنا من خلال استقراء التجربة التاريخية ومعاشرة النصوص أن مسيرة الحداثة مركبة ومتعرجة، وهي تتراوح بين الاستمرار والقطيعة، ويختلط فيها الديني بالعلماني والغيبي بالدنيوي، بل أزعم هنا أن الحداثة بقيت تتحرك داخل الموروث المسيحي اليوناني حتى في أكثر أشكالها تمردا عليه ورفضا له.

الحركة الإصلاحية والحداثة 

توقف الكتاب مطولا عند مغامرات الحداثة في عالم الإسلام وما صاحبها من اضطراب في الأذهان والنفوس واهتزاز في بنيان المجتمعات وأحوال الشعوب، وقد احتاج هذا التمشي الى شيء من التنقيب التاريخي في مسار ولادتها وتطورها في العالم الإسلامي، منذ الانفتاح المبكر لنخبة من كتبة السلاطين العثمانيين ومبعوثيهم لبعض العواصم الاوروبيةً، ثم فيما عرف لاحقا بتجربة التنظيمات في اسطنبول ودمشق والقاهرة وتونس، وما لحق ذلك من توسع احتلالي غربي، وما أفرزته من تصدعات سياسية وفكرية واسعة النطاق مازالت آثارها قائمة في العالم الإسلامي.

تتأسس أطروحة هذا الكتاب على فكرة أساسية وهي أن الحركة الاصلاحية الإسلامية للقرن التاسع عشر، مع ما اعترى خطابها من مظاهر الضعف وعدم الانسجام، كانت محطة أساسية ومهمة في ولادة ما يمكن تسمية بالحداثة أو الحداثات الإسلامية، ويبدو ذلك واضحا سواء من خلال عملية التخصيب التي أدخلتها للمجال التداولي الإسلامي عبر منهجها التأسيسي ( التأصيلي) والإدماج القائم على الاستيعاب وإعادة التأويل ضمن الاطار الإسلامي العام، أو من خلال دورها العملي في بناء المؤسسات الحديثة وضخها بالروح الإسلامية العامة، بما جسر الهوة الفاصلة بين عوالم الإسلام وعوالم الحداثة، وبين الفضاءات التقليدية والفضاءات الحديثة.

ويشدد هذا الكتاب على مقولة أساسية هي أن تعثر الحداثة في العالم الإسلامي لا يعود إلى اعتبارات فلسفية فكرية، على ما لذلك من أهمية، بقدر ما يعود لاعتبارات تاريخية تجد تفسيرها في توازنات القوة وحركة الجيوش وميزان الاقتصاد. لقد أخفق العالم الإسلامي في دخول مغامرة الحداثة والإسهام فيها لا لأنه لم يفهم مقولاتها ولم يتمرس بخطابها، بل لأنه افتقد الحد الأدنى من توازنه السياسي بسبب ما حل بساحته من توسعات استعمارية، ثم ما أصابه من شرذمة سياسية شلت قواه وحدت من قدرته على الفعل، إذ وجد نفسه يتحرك ضمن معادلة دولية أكبر منه. 

فكر الحداثة وما بعده 

يتناول الجزء الثاني من الكتاب فلسفة الحداثة في أهم مدارس الفكر الغربي بدءا من نيتشه وماكس فيبر، ثم المدرسة التفكيكية بمختلف تعبيراتها واتجاهاتها ثم انتهاء بالفيلسوف "المحافظ" ماكنتاير  الذي يتسم فكره بنقد الفلسفة الليبرالية يؤكد على مركزية الفضيلة في الاجتماع السياسي.

 

الحضارة الإسلامية ليست جوهرا ثابتا ومحنطا، بل شأنها في ذلك شأن الحضارات الكبرى فقدت الكثير من عناصر استمراريتها التاريخية وتأثرت إلى حد كبير بالغرب، ولكنها مع ذلك حافظت على روحها العامة وهويتها المتحركة والمتنوعة.

 



لم تكن فلسفة نيتشة مجرّد حدث عابر في تاريخ الفكر الغربي ولا مجرّد مدرسة أضيفت إلى سابق المدارس الفلسفة الغربية، بقدر ما مثلت منعطفا حادّا في مسار الوعي الغربي لما أحدثته من رجّات هائلة لقيم التنوير التي قامت على أساسها تجربة الحداثة الغربية، وفي مقدمة ذلك مفهوم العقل ومركزية الإنسان وغائية التاريخ، وبذلك صفّت فلسفة نيتشه ما تبقى من مكونات مسيحية معلمنة لصالح نزعة إلحادية جذرية، وهزت اليقين العقلاني لصالح منزع علماني شامل.
 
لا شك أنّ نيتشه قد ترك بصماته الفكرية في مختلف مناحي الثقافة الغربية، كما سجل حضورا متزايدا في الوسط الفلسفي الألماني والفرنسي ومجمل الفضاء الأوروبي والأطلسي عموما، خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية التي غذت مناخات القلق والفراغ العدمي توازيا مع اهتزاز اليقين بالقيم الثقافية للحداثة الغربية. 

تحولات الحداثة 

اتسمت الحداثة في طورها الأول (الحداثة الأوروبية) بطابعها الاحتكاري والمركزي إلى حد بعيد، ولذلك بقيت  تقتصر على بعض القوى الغربية، هذا إذا استثنينا اليابان الآسيوية التي تمكنت من تسجيل اختراقات مهمة عبر التعلم السريع من الأوروبيين، وروسيا القيصرية التي نجحت، وإن بدرجة أقل، في اكتساب قدر من هذه الحداثة العسكرية والتقنية، في سياق رهانها على اللحاق السريع بكبريات العواصم الأوروبية عبر الاستخدام الفوقي والموجه للدولة المركزية ضمن تراثها السلافي، حين كانت الحداثة بمثابة أسرار مبهمة وعوالم ملغزة أمام بقية شعوب العالم المسحورة والمذعورة منها، وهو ما تم تلخيصه في تلك المقولة التي ظلت تتردد باستمرار في بيانات الإصلاحيين المسلمين وحتى وقت متأخر: اكتشاف أسرار التقدم الاوروباوي (الحداثة قرينة الأسرار الملغزة) . 

بعد الحرب العالمية الثانية بدأت تتراجع هذه المركزية تدريجيا، ليس لضعف حل بالقوى الأوروبية ـ الأطلسية، ولا لأن الغرب فقد ديناميكيته وقدرته على الابتكار، بل لأن بقية العالم، أو ما أسماه فريد زكريا ما سوى الغرب ( the rest) شهد صعود قوى فاعلة وأقطاب نشيطة في طريقها إلى دخول عالم الحداثة والنجاح في السيطرة على وجهتها بدرجات متفاوتة، من الصين والهند والبرازيل وتركيا وغيرها، بما فتح الأبواب أمام تعدد الحداثات، وقد استفادت هذه الأمم من انسياب المعرفة العلمية وتقنيات التسلح، عن طريق التعلم والمحاكاة، ثم التطوير والتكييف، وحتى عن طريق الاختراق والقرصنة المعلوماتية أحيانا. هكذا فقدت الحداثة طابعها السحري الملغز، وأصبحت عبارة عن سجل مفتوح أمام أبصار  مختلف شعوب العالم ونخبه. فالعلوم والتقنيات التي كان للغرب قصب السبق فيها أصبحت اليوم موضوع ابتكار وجدة بل منافسة جدية من طرف قوى أخرى صاعدة كالصين وروسيا والهند، وأخرى ناشئة مثل كوريا الجنوبية واندونيسيا وماليزيا وتركيا وإيران وغيرها.

 

الأرجح هنا أننا لا نسير من نظام هيمنة أمريكي نحو نظام هيمنة صيني أو هندي أو روسي أو غيره، بل باتجاه تجاوز مفهوم القوة العظمى المهيمنة، لصالح تعدد القوى الدولية والإقليمية بما يشبه المجرات المتعددة والمتحركة بصورة متوازية.

 



فقدت الحداثة بصورة تدريجية ومتوالية طابعها الاحتكاري والمركزي، ليس بسبب قرار إرادي اتخذته القوى الكبرى بالتخلي عن سيطرتها وتحكميتها المركزية، ولكن لأن صيرورة الحداثة نفسها ووفق منطقها الخاص، صنعت وضعا عالميا فكك مركزية الغرب.

المعطى الجديد الذي نشهده اليوم ليس بالضرورة تراجع الغرب أو حتى ضعفه وذهاب ريحه بقدر ما يعود الأمر إلى صعود قوى دولية أخرى قادرة على المنافسة والمزاحمة. فمع انتشار التحديث على نطاق واسع وبكل مظاهره، ومن ذلك التوسع التمديني (التمركز الحضري) وانتشار التعليم والقدرة على اكتساب العلوم والتقنيات، ثم التمرس بالتصنيع، فقدت القوى الغربية مركزيتها الخاصة، ومن ثم غدا  بمقدور قوى كبرى وحتى متوسطة الحجم، المزاحمة في اكتساب مقومات هذه الحداثة ومراكمة عوامل القوة والثروة، على نحو ما نرى اليوم مع الصين والهند وكوريا الجنوبية وتايوان وتركيا وماليزيا وأندونيسيا وحتى كوريا الشمالية وإيران وغيرها.

من الواضح أن النظام الدولي يتجه اليوم نحو تعددية المراكز والقوى، بما يشبه نظام القرن التاسع عشر الذي كانت تتزاحم فيه قوى أوروبية متعددة من دون أن ترجح كفة أي من منها بصورة كاملة. الأرجح هنا أننا لا نسير من نظام هيمنة أمريكي نحو نظام هيمنة صيني أو هندي أو روسي أو غيره، بل باتجاه تجاوز مفهوم القوة العظمى المهيمنة، لصالح تعدد القوى الدولية والإقليمية بما يشبه المجرات المتعددة والمتحركة بصورة متوازية. هذا الوضع يوفر فرص للقوى المتوسطة الحجم وحتى ما دون ذلك في بعض الأحيان لامتلاك تأثير وممارسة أدوار تفوق ما كان متاحا لها بالأمس القريب. العالم يسير بخطى ثابتة نحو تعدد القوى وتبعا لذلك تعدد الثقافات والحضارات والنماذج، وعلى هذا الأساس يمكن القول إن تعدد المراكز الحداثية سيكون الحقيقة الأكثر بروزا في العقود القادمة.
  
على أن الحداثة تحمل في ذاتها شروط تجاوزها من الناحية الفكرية والعملية. فشيوع القيم السياسية للحداثة على المستوى العالمي من قبيل الحرية والكرامة والديمقراطية  يؤدي في وجه من وجوهه إلى تفكك الحدود الثقافية الفاصلة بين الغرب وغيره. فالقيم السياسية التي تدعي فرادتها الغربية ماعادت حكرا على نادي الامتياز الأوروبي الأطلسي، وهذا يعني تعويم الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عامة  في بحر الحداثة أو الحداثات الأكبر منه.

المسلمون ومصير الحداثة

في الأخير يخلص الكتاب إلى طرح سؤال مهم: ما الذي يمكن أن يقدمه مسلمو اليوم في عالم الحداثة التي باتت تتزاحم أمم كثيرة من الشرق والغرب على السواء حول تحديد وجهتها وضبط مسيرها؟  

الحضارة الإسلامية ليست جوهرا ثابتا ومحنطا، بل شأنها في ذلك شأن الحضارات الكبرى فقدت الكثير من عناصر استمراريتها التاريخية وتأثرت إلى حد كبير بالغرب، ولكنها مع ذلك حافظت على روحها العامة وهويتها المتحركة والمتنوعة.

المسلمون ليسوا كائنات ميتافيزيقية خارج عوالم الحداثة، بل هم يعيشونها بكل توتراتها وتناقضاتها ومكاسبها وإخفاقاتها ومشاكلها أيضا، وبهذا المعنى لا يوجد إسلام جوهري بمنأى عن تاُيرالحداثة بكل تقلباتها، بيد أن إصرار المسلمين على التشبث بمفهوم الله الواحد المفارق والصانع للقيمة والمعنى، في عالم يراد له أن يكون مدهرنا بالكامل من شأنه أن يفتح مسالك جديدة أمام مسار الحداثة.

 

لا شك أن المسلمين اليوم ليسوا قادرين على إعادة تشكيل العالم بشروطهم، كما أن عوالمهم التاريخية تفككت بفعل حركة الاستعمار ثم ما تلا ذلك من تجربة التحديث، غير أن ذلك لم يقض على ما يتمتع به المسلمون من قيم ملهمة وتطلعات كبرى يغذيها تاريخ طويل من الغلبة والانتصارات.

 



صحيح أن هناك تأثيرات علمانية وحتى دهرية في العالم الإسلامي ولكنها لا ترتقي إلى أن تشكل ظاهرة قوية وجامحة، بما يسمح بالقول بوجود اختراقات علمانية في المجال الإسلامي منها الى وجود حركة شاملة.
 
ولا شك أن المسلمين اليوم ليسوا قادرين على إعادة تشكيل العالم بشروطهم، كما أن عوالمهم التاريخية تفككت بفعل حركة الاستعمار ثم ما تلا ذلك من تجربة التحديث، غير أن ذلك لم يقض على ما يتمتع به المسلمون من قيم ملهمة وتطلعات كبرى يغذيها تاريخ طويل من الغلبة والانتصارات.

وهذا الجدل بين الإسلام والحداثة لا شك ماض إلى أن تستقر الأمور على معادلة محددة وصورة معينة، أي إلى أن تسكن الحداثة عالم الإسلام، ويسكن الإسلام عوالم الحداثة، في توليفة خاصة يمكن أن يطلق عليها الحداثات الإسلامية، ربما تبدو بعض ملامحها اليوم في تركيا وماليزيا وإندونيسيا ومصر وتونس وغيرها.