كتب

أسباب أخلاقية للاعتراض على اللامساواة.. قراءة في كتاب

يعتمد عدم مشروعية التمييز هنا على حقيقة أن الصفات المميزة التي يستند إليها مثل العرق والنوع الاجتماعي

الكتاب: "لماذا اللامساواة ذات أهمية؟"
المؤلف: تي. إم. سكانلون
ترجمة: أشرف محمد كيلاني
الناشر: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- سلسلة عالم المعرفة، 2021


يبدأ الفيلسوف وعالم الرياضيات الأمريكي تي. إم. سكانلون كتابه بتقرير حقيقة ارتفاع مستويات عدم المساواة السائدة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي العالم أجمع، التي جعلتها موضع اعتراض أخلاقي شديد. لكنه يعتقد أن ماهية أسباب الاعتراض هذه غير واضحة بدقة، معتبرا أن مهمة كتابه استقصاء طبيعة هذه الأسباب، التي قد تشمل مجموعة أكبر من الاعتبارات ليست كلها مساواتية، فهناك ارتباط بين بعض الاعتراضات الأكثر قوة على عدم المساواة وعواقبها، ولا تستند جميعها إلى قيمة المساواة، بحسب ما يرى.

يحدد سكانلون ستة أنواع لأسباب الاعتراض على الأشكال المختلفة لعدم المساواة والسعي إلى القضاء عليها أو الحد منها؛ فعدم المساواة يمكن أن يكون مثيرا للاعتراض لأنه يحدث فوارق مهينة في المكانة الاجتماعية، أو لأنه يمنح الأغنياء أشكالا غير مقبولة للسلطة على أولئك الأقل حظا، أو لأنه يضعف تكافؤ الفرص الاقتصادية، أو لأنه يقوض نزاهة المؤسسات السياسية، أو لأنه ينتج عن انتهاك مطلب المساواة في الاهتمام بمصالح أولئك الذين تلتزم الحكومة بتقديم منفعة ما لهم، كما أن الاعتراض على عدم المساواة في الدخل والثروة يكون بسبب أنه ينشأ عن مؤسسات اقتصادية غير منصفة. وهي أسباب وعوامل قد تتفاعل وتتشابك معا بحيث يقود غياب المساواة في جانب إلى سلسلة من الظروف التي تعزز غيابها في جوانب أخرى. ورغم وجود أسباب أخرى للاعتراض على عدم المساواة إلا أن سكانلون يركز على الاعتراضات سابقة الذكر فقط لأنه يعتبرها مهمة جدا، و"تثير تساؤلات معيارية بشأن القيم الكامنة وراءها".

أسباب غير وجيهة

في الحديث عن اللامساواة في المكانة الاجتماعية يقول سكانلون: إنه في المجتمعات ذات الفروق الطائفية والطبقية، وفي المجتمعات التي تتصف بالتمييز العنصري، يحرم البعض من حق الوصول إلى الأشكال ذات القيمة للتوظيف لأسباب تتعلق بمولدهم ببساطة. وغالبا ما يحرمون أيضا من الحقوق السياسية الأساسية مثل حق التصويت والمشاركة في العمل السياسي، كما قد لا تتوفر لهم الخدمات العامة المهمة المستحقة للجميع، وينظر إليهم باعتبارهم غير مؤهلين لما يسمى ب"المنافع الترابطية" مقارنة بالأشخاص خارج مجموعتهم، حتى أن المجموعات الأخرى تنظر إليهم على أنهم أقل أهلية لأن يكونوا زملاء في العمل أو أصدقاء أو شركاء زواج محتملين أو حتى جيرانا. 

 

في المجتمعات ذات الفروق الطائفية والطبقية، وفي المجتمعات التي تتصف بالتمييز العنصري، يحرم البعض من حق الوصول إلى الأشكال ذات القيمة للتوظيف لأسباب تتعلق بمولدهم ببساطة.

 



يعتمد عدم مشروعية التمييز هنا على حقيقة أن الصفات المميزة التي يستند إليها مثل العرق والنوع الاجتماعي، لا تبرر ما ينطوي عليه من مواقف وفروق في المعاملة، لذلك غالبا ما يحتكم ممارسو هذا التمييز إلى التعميمات التجريبية التي قد تبدو أنها تقدم تبريرا أفضل، مثل أن يكون أفراد المجموعة الخاضعة للتمييز غير جديرين بالثقة، أو متكاسلين، أو أنهم لا يملكون القدرات المطلوبة للأدوار التي يقصون عنها، دون أن يكون ذلك مبنيا على اختبار حقيقي.

 

يضيف سكانلون أن هذا النوع من التمييز يزداد سوءا إذا أصبح أفراد المجموعة الخاضعة للتمييز ينظرون إلى هذه المعاملة باعتبارها مبررة، عندما يفقدون تقديرهم لذواتهم ويشعرون بالدونية. هذا النوع من الممارسة الاجتماعية عرضة لثلاثة أنواع من الاعتراض؛ الأول أن الكثير من الأفراد يحرمون منافع وفرصا مهمة دون سبب وجيه، والثاني أن أولئك الذين يمارسون التمييز وأولئك الخاضعين له يحرمون المنفعة المهمة في أن يكونوا قادرين على الارتباط ببعضهم البعض على قدم المساواة، والثالث أن الكثير من أفراد هذا المجتمع يجدون ما يقودهم إلى تقدير أو عدم تقدير قيمة حياتهم لأسباب غير وجيهة، ويؤسسون إحساسهم بقيمتهم بشكل خاطىء.

الفرصة الموضوعية

في سياق آخر فإن عدم المساواة قد يتعارض مع تكافؤ الفرص الاقتصادية بإحدى طريقتين. فقد يتعارض مع إنصاف الإجراءات التي يجري اختيار الأفراد من خلالها للوظائف ذات المزايا وللفرص التعليمية المؤدية إلى تلك الوظائف. ويحدث هذا، بحسب سكانلون، عندما يؤثر الآباء الأكثر ثراء في مسؤولي القبول في الجامعات، أو مسؤولي التوظيف، لإعطاء الأفضلية لأبنائهم على المتقدمين للوظيفة الأفضل تأهيلا. ويمكن أن يتعارض التفاوت الاقتصادي أيضا مع الفرصة الموضوعية، إذا لم يكن لدى أبناء الأسر الفقيرة سبيل للوصول إلى المدارس التي من شأنها أن تمكنهم من منافسة أبناء الأسر الغنية على الوظائف الجيدة، أو القبول في الجامعات. ويتعارض عدم المساواة مع الإنصاف السياسي بطرق مشابهة. 

فيمكن أن يتعارض مع الأداء الوظيفي الصحيح للمؤسسات السياسية، كما يحدث عندما يؤثر المواطنون الأكثر ثراء في المشرعين أو المسؤولين الآخرين لاتخاذ قرارات تدعم مصالحهم. ويمكن أن يتعارض التفاوت الاقتصادي أيضا مع شروط الخلفية المطلوبة للإنصاف السياسي إذا كان المواطنون الأكثر فقرا على سبيل المثال، غير قادرين على تحمل نفقات الوصول إلى وسائل فعالة للتعبير، ومن ثم يكونون أقل قدرة على أن يكونوا مرشحين ناجحين لوظيفة عامة. وترتبط إخفاقات الإنصاف السياسي من هذين النوعين بالتأثير. في الحالة الأولى تأثير الأغنياء في المسؤولين المنتَخبين، وفي الحالة الثانية، الفرص غير المتكافئة للتأثير فيمن يُنتخب، وعلى نحو أعم التأثير في القرارات السياسية.

تتداخل هذه الاعتراضات المتنوعة على عدم المساواة، ويكون لدى الجميع، باستثناء ذوي الثراء الفاحش، سبب للاعتراض على خصائص البنية الأساسية التي تحدث التفاوت غير المبرر في الدخول. وبالمثل يكون لدى جميع أولئك الذين يعانون ما هو أقل من عدم المساواة في الوصول إلى التأثير السياسي السبب للاعتراض على التفاوت الاقتصادي الذي يكون له هذا التأثير. ويكون لدى أولئك الذين لا يتوافر لهم مستوى كاف للمنافع العامة المهمة مثل التعليم، سبب وجيه للاعتراض على هذا. وهو اعتراض على عدم الكفاية في المقام الأول وليس على عدم المساواة، لكنه يصبح اعتراضا مساواتيا ما دام عدم الكفاية نتيجة للافتقار إلأى إمكانية الوصول إلى التأثير السياسي أو يعكس انتهاكا للمساواة في الاهتمام من جانب الحكومة. والفقراء وحدهم ليسوا وحدهم من يكون لديهم اعتراضات من هذه الأنواع، بل أولئك في شرائح الدخل الوسطى أيضا، لكن الفقراء لديهم اعتراضات أقوى.

يلفت سكانلون إلى أنه من المهم عدم المبالغة في تقدير إلى أي مدى تَحَقق تكافؤ الفرص. فيقول: لا تزال مؤسساتنا الاقتصادية، بما في ذلك نظامنا التعليمي (في الولايات المتحدة) تُجسد ليس فقط أشكال التمييز على أسس عرقية وغيرها من الأسس بل أشكالا أخرى أيضا لعدم الإنصاف الإجرائي. وبالإضافة إلى ذلك، فنحن لسنا قريبين من توفير الظروف اللازمة للفرصة الموضوعية للجميع. ومن المهم أيضا إدراك أن تكافؤ الفرص حتى لو تحقق بشكل كامل، لن يجعل التفاوتات الناتجة عادلة. ويفترض تكافؤ الفرص مسبقا وجود تبرير ما آخر لعدم المساواة في الوظائف. ولا يمكن أن يوفر تبريرا كهذا. ومع ذلك يجب علينا ألا نغفل حقيقة أن الإنصاف الإجرائي والفرصة الموضوعية مهمان ويستحقان السعي إلى تحقيقهما حتى لو لم يكن ذلك بشكل كامل. ولذلك فمن المهم فهم هذه القيم بطريقة صحيحة، لا سيما فهم الأفكار المتعلقة بالقدرة والجدارة والجهد والاختيار التي غالبا ما يتم التعبير عنها بمقتضاها.

 

لا تزال مؤسساتنا الاقتصادية، بما في ذلك نظامنا التعليمي (في الولايات المتحدة) تُجسد ليس فقط أشكال التمييز على أسس عرقية وغيرها من الأسس بل أشكالا أخرى أيضا لعدم الإنصاف الإجرائي.

 



ويتابع في هذا السياق موضحا أن الفهم الصحيح للمغزى الأخلاقي للقدرة والجهد والاختيار يمكننا من تجنب الأفكار المغلوطة عن الاستحقاق.حيث تكمن ملاءمة الاختيار والجهد لتبرير التفاوتات في حقيقة أن اعتراضات الأفراد على عدم حصولهم على مزايا معينة يمكن تقويضها عن طريق الحقيقة القائلة بأنه كان يمكنهم الحصول على تلك المزايا لو أنهم اختاروا بذل الجهد المطلوب. لكن حقيقة أن الشخص أتيحت له الفرصة لاختيار نتيجة مختلفة لا يمكن أن يكون لها هذا التأثير الذي يكسبها الشرعية إلا إذا كان ذلك الشخص قد حصل على فرصة الاختيار تلك في ظروف جيدة بشكل كاف.  

يقول سكانلون: إن أحد الاعتراضات التي تتردد كثيرا على السعي إلى تحقيق المساواة، الاعتراض القائل إن تعزيز المساواة ينطوي على التدخل في الحرية الفردية. لكن قيمة الحرية يمكن الاحتكام إليها أيضا كحجة مؤيدة لمساواة أكبر. فكما هو الحال بالنسبة لأسباب الاعتراض على التفاوت الاقتصادي كونه يؤدي إلى امتلاك البعض درجة غير مقبولة من السيطرة على حياة الآخرين، فإنه يمكن الاحتكام إلى التحرر أو الحرية بشكل ما على كلا جانبي المجادلات بشأن المساواة.