كتاب عربي 21

عودة إلى الشيخ أحمد القطان

1300x600
توفي الشيخ أحمد القطان في 23 أيار/ مايو الماضي. وبالرغم مما أمكن لي قوله في مواقع التواصل الاجتماعي عن الشيخ وأثره بالنسبة لجيلي الناشئ في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، فإنّ الأحداث المتزاحمة لم تفسح لي مجالا كافيا لخصّه بمقالة منفصلة تشهد على أثره ذاك.

لعل أفضل تعبير قد يُوفَّق إليه من يقصد إلى الحديث عن الشيخ -رحمه الله- من الزاوية الفلسطينية، هو القول إنّه كان طقسا من طقوس الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وإن كانت ثمّة مبالغة على هذا الصعيد؛ كون حضور الشيخ تركّز في وسط إسلاميي فلسطين، دون جزم بأن المعرفة به قد انحصرت فيهم، فإنّه على الأقل كان طقسا حاضرا في فعلهم الانتفاضي، وهم طرف كبير مؤثّر في تلك الانتفاضة، حيث تبلور حضورهم الوطني وفاعليتهم النضالية الكبرى في سياقها.

وإذا كان الأثر الواضح للشيخ على ذاك النحو، في الانتفاضة الأولى، فإنّ إشارة التاريخ إلى تسميته منبر خطبته الجمعة في الكويت منذ زمن بعيد، أدركتُه في ثمانينيات القرن الماضي، بـ"منبر الدفاع عن المسجد الأقصى المبارك"، قد تكون جديرة بالذكر، لا سيما أن انتفاضة أخرى انفجرت تاليا تحمل اسم "المسجد الأقصى"، ثم اليوم تتوالى الأحداث المتصلة اتصالا عضويّا بمركزية المسجد الأقصى من الصراع. ولم تكن التسمية تلك لتنحصر في موقع المسجد الأقصى الديني فحسب، بل وكانت تدرك مركزيته في عموم الصراع، بدليل تفاعل الشيخ مع 
لن يخلو الشيخ أحمد القطان من اشتغالات وأطروحات أخرى، يقترب منها المرء ويبتعد، كأيّ شخصية عامّة تنشط في المجال الديني، بيد أنّ معرفتنا به في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، كانت من حيثيّة اهتمامه بالقضية الفلسطينية، واستثماره منبره ومكانته في الكويت، وربما في الخليج عموما، وفي أوساط الإسلاميين العرب، وانتشاره في ذلك الزمن عبر "الكاسيت"
مجمل أبعاد القضية الفلسطينية.

لن يخلو الشيخ أحمد القطان من اشتغالات وأطروحات أخرى، يقترب منها المرء ويبتعد، كأيّ شخصية عامّة تنشط في المجال الديني، بيد أنّ معرفتنا به في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، كانت من حيثيّة اهتمامه بالقضية الفلسطينية، واستثماره منبره ومكانته في الكويت، وربما في الخليج عموما، وفي أوساط الإسلاميين العرب، وانتشاره في ذلك الزمن عبر "الكاسيت"، للتعريف بالقضية الفلسطينية، وحشد الجماهير العربية لها.

ذاك التفاعل والانشغال كان عالي الانفعال فلامس وعينا بتلك اللحظة التاريخية الفارقة، بالنسبة للقضية الفلسطينية، وبالنسبة لجيلنا، إلى درجة الرفع التعبوي لشبان في ظرف اشتباك يوميّ مع قوات الاحتلال. وذلك لأنّ المسجد بدوره كان منطلقا نضاليّا على مستوى الحضور اليومي، بالنسبة لإسلاميّي فلسطين، وبالدرجة الأولى حركة حماس التي كانت قد أكملت في تلك الانتفاضة تبلورها في صيغتها المقاومة، قادمة من ساحات الدعوة والتربية، فاختلط حضورها النضالي في الانتفاضة بجذورها الدعوية، وتشكلت بنيتها التنظيمية من هذين الانشغالين، وهو أمر خدمها حتى تاليا، بعد انتهاء الانتفاضة ودخول السلطة الفلسطينية، إذ احتفظت بمجالات اشتغال غير متأثّرة بالتحوّلات السياسية، وبكادر لم يكن ارتباطه بها طارئا منحصر الدافعية بالانتفاضة وعميق تأثيرها الاجتماعي والسياسي.

كان المسجد ملتقى لهؤلاء الشباب، تستوثق به رابطتهم على نحو يوميّ، ومن البداهة انتظامهم في حلقاته الدرسية، وإدارتهم نشاطا خاصّا به (الاعتكافات، وجلسات المأثورات، والصيام والإفطار الجماعي، والمكتبة، ومجلات الحائط، والاحتفالات الدينية..)، وبالإضافة إلى ذلك المخيمات الصيفية، وتكريم الطلبة المتفوقين، بل والفرق الرياضية التي كانت تنتسب للمسجد وتعقد في ما بينها منافسات مسجدية رياضية. ذلك كله وأكثر منه، لم ينفصل عن الفاعلية النضالية لهؤلاء الشبان، الذين كانوا يستمعون لخطب الشيخ أحمد القطان في المسجد. وقد كان التفاعل الإسلامي العربي مع الانتفاضة الأولى، من الوسائل التعبوية التي كان يمكن إدخالها إلى داخل الأرض المحتلة، وعرضها على الشباب، وكان منها مهرجان أنشودة الانتفاضة في الكويت، في حين كان ما زال بعد يستعصي، بحكم حضور الاحتلال المباشر، إقامة فعاليات كتلك في الداخل.

كانت كلمات الشيخ أحمد القطان، محفوظة للشباب، حتّى أننا كنا نعتقد أن القصيدة التي فيها "في القدس قد نطق الحجر.. لا مؤتمر لا مؤتمر.. أنا لا أريد سوى عمر"، من نظم الشيخ رحمه الله، لالتصاقها به. وفقط بعد وفاته؛ صحّحني أحدهم أنها للشاعر الفلسطيني خالد أبو العمرين رحمه الله، والذي عمل في الكويت إلى حين الغزو العراقي لها، وقد أصدر ديوانا في مطلع الانتفاضة الأولى كان عنوانه "في القدس قد نطق الحجر".
يمتاز عن كثيرين ممن يشتغلون في مجالات عامّة من غير الفلسطينيين، ولا يتعرّفون إلى فلسطين منها ومن أهلها، ولا يتداولون قضاياها وفق أولويات واقعها وحساسيات تعقيداتها، وإنما يفهمونها من هواجس خاصة وحساسيات منفصلة وأوهام مسبقة، فلا يخلّفون إلا التشويش والفهم الخاطئ

الحاصل أنّ هذه القصيدة التي كنّا نحسب أنها للشيخ القطان رحمه الله، كانت تُكتب على الجدران، وقد كانت الكتابة على الجدران، إلى جانب توزيع البيانات، الأداة الإعلامية الأهمّ في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، ومن سماتها وعلاماتها وأدوات النضال فيها. وقد يبدو مستغربا لغير العارفين بتلك المرحلة، القول إنّ من الشبان من أصيب برصاص الاحتلال وهو يكتب على الجدران. وهكذا كانت كلمات تلك القصيدة التي عرفناها من الشيخ القطّان، لا من صاحبها، تكتب أيضا على اليافطات، وتخط في البيانات والنشرات، ويُهتف بها في الفعاليات الجماهيرية، هي وغيرها مما سمعناه من الشيخ القطان.

لعلّ الشيخ القطان أسبق الدعاة الخليجيين إلى معرفتنا، ومن نافلة القول إنّه عُرِف في أوساط الإسلاميين الفلسطينيين داخل الأرض المحتلة قبل ذلك، بيد أنّني أدوّن عن المرحلة التي تفتّح وعيي الشخصي فيها، أي في الانتفاضة الأولى، والمهمّ من هذا الجانب، أنّ المعرفة به كانت فلسطين واسطتها، وأنّ خطابه عن فلسطين بدوره كان الفلسطينيون واسطته، وذلك في حدود ما علق بالذاكرة حتّى الآن، وهو بذلك يمتاز عن كثيرين ممن يشتغلون في مجالات عامّة من غير الفلسطينيين، ولا يتعرّفون إلى فلسطين منها ومن أهلها، ولا يتداولون قضاياها وفق أولويات واقعها وحساسيات تعقيداتها، وإنما يفهمونها من هواجس خاصة وحساسيات منفصلة وأوهام مسبقة، فلا يخلّفون إلا التشويش والفهم الخاطئ.

twitter.com/sariorabi