كتاب عربي 21

عبد الفتاح وأبو الفتوح

1300x600
(1)
كثيراً ما أتذكر الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، فتنتابني مشاعر جياشة، أحرص كل الحرص أن تظل بعيدة عن الشفقة، فالشفقة شعور يناسب الضحايا، والدكتور أبو الفتوح ليس ضحية، لكنه في رأيي بطل تراجيدي اختار مصيره النبيل بوعي وشجاعة. لكن المشكلة أن مواقف البطولة الفردية تتحول إلى حماقات في أزمنة العجز والنسيان واختفاء الرواة العدول.

(2)
لم أعرف الدكتور أبو الفتوح عن قرب، ولم ألتق به وجها لوجه في أي يوم، حتى المرة التي تصادف واجتمعنا فيها بسبب السجن، لم أشاهده، شاهدت زحاما بعيدا حوله، وسمعت القصص من الزملاء الذين ذهبوا لمصافحته والاطمئنان عليه. لم أعلق على كلام الزملاء، لأنني تألمت من الوصف الذي سمعته عن حالته الصحية: صار نحيلا يمشي بصعوبة ويتحدث بصوت واهن، القوام الفارع عرف طريقه إلى التقوس، وانتقام المعاملة في السجن حقق أثره على الصحة وليس على العزم والإرادة..
لا ألوم من يبتعد ليحمي حياته، لكن لا بد من أمثلة للمواجهة المباشرة مهما كان الثمن، لا بد من قصة يدونها أحدهم بالبقاء في أرض المعركة غير المتكافئة، وفي رأيي أن هذه القصص توثق إدانة الجلاد وتحفظ المواقف لمدد أطول في التاريخ

(3)
أتذكر كلمات أبو الفتوح في الحوار التلفزيوني الشهير عن تفضيله زنزانة في مصر على قصر في لندن، فيزداد إعجابي بالقول وتضامني مع القائل.

خيار أنتيجوني نبيل دفع ثمنه من صحته، ومن عمره، ومن أمله في ختام كريم لمسيرة طويلة من العمل السياسي..

لا ألوم من يبتعد ليحمي حياته، لكن لا بد من أمثلة للمواجهة المباشرة مهما كان الثمن، لا بد من قصة يدونها أحدهم بالبقاء في أرض المعركة غير المتكافئة، وفي رأيي أن هذه القصص توثق إدانة الجلاد وتحفظ المواقف لمدد أطول في التاريخ.

لقد عاب عليه بعض البراجماتيين عودته إلى وطن منقوص العدالة، ووصفوا كلامه ورجوعه بالتهور مرة وبالحماقة السياسية مرة، وخفف آخرون من الأوصاف القاسية وقالوا إن ما فعله يكشف عن اندفاع قديم في شخصيته وفي طريقته لاتخاذ القرارات، دون أن يحسن العواقب، واستعاد حكماء السوشيال ميديا طريقة كلامه مع الرئيس السادات أثناء اجتماعه باتحادات طلاب جامعات مصر، عقب انتفاضة الخبز في مطلع عام 1977، وقفزوا إلى قرار ترشحه وما تبعه من شرخ وإقصاء من جماعة الإخوان التي كان واحدا من أبرز قياداتها، لكنني لا أتذكر الدكتور أبو الفتوح لتقييم قراراته، ولا للنقاش في خلفيات قديمة ومعارك تجاوزها الزمن إلى معركة أفدح وأبشع، هي معركة حرية الناس وكرامتهم وحقهم في قضاء عادل.
لا أتذكر الدكتور أبو الفتوح لتقييم قراراته، ولا للنقاش في خلفيات قديمة ومعارك تجاوزها الزمن إلى معركة أفدح وأبشع، هي معركة حرية الناس وكرامتهم وحقهم في قضاء عادل

(4)
ماذا فعل الدكتور أبو الفتوح (وغيره كثيرون) لكي يتم الحكم عليه بهذه المدة الطويلة من السجن؟

أنا أقرأ وأسمع كل يوم عن قتلة وتجار مخدرات لم يحكم عليهم القضاء بهذه الأحكام. وكنت قد علقت على ذلك عقب الحكم على الناشط الحقوقي علاء عبد الفتاح، وهذا يعني أنني لا أكتب انطلاقا من أيديولوجيا معينة أو إعجابا بتيار دون تيار، لكنني أتساءل عن العدالة لعبد الفتاح وأبو الفتوح على السواء، فبغير العدالة يصبح الوطن مصيدة أو "كمينا" يتحكم فيه قاطع طريق. فهل هذا الخطر يخص أبو الفتوح بمفرده أو عبد الفتاح بشخصه أو أحمد دومة أو هشام جنينة.. إلخ؟

يؤلمني التفكير في عبثية المصير الذي تنزلق فيه حياة إنسان من الحرية إلى السجن، ومن البراءة إلى الإدانة، ويؤلمني الشعور بأن الخلاف السياسي أو حق إبداء الرأي صار جريمة أشد من القتل.

(5)
في كتابه عن الدولة باعتبارها "وحشا" لا يجب الصدام معه، قال توماس هوبز: إن كل إنسان ينشد مصلحته وأمنه، ومن حقه أن ينهش الآخر للدفاع عنهما، لكن عندما يتحول ذلك الإنسان إلى مواطن في دولة، فإنه ينشد مصلحته وأمنه بشرط عدم النهش وتهديد أمن المواطنين الآخرين، وهذا هو "العدل".

ومن سياق حديثه عن العقد الاجتماعي بين المواطن والدولة، نفهم أن العدل هو ضمانة الأمن، كما نفهم أن مصلحة الإنسان هي الأساس الذي فهم منه حقيقة العدل وحقيقة الأمن، لكن السلطة عندما تنحرف وتخرج من تحت شعار "العدل اساس الملك" فإنها تسمي الظلم عدلا وتسمي القهر أمنا، وتتحول القواعد المدونة أو القوانين إلى أدوات لصيد الفرائس. لذلك يهمس القريبون من مركز القرار بالسبب الحقيقي لحبس أبو الفتوح، وكذلك عبد الفتاح: هاك في البرج العالي من لا يستلطف هذا ولا يرتاح لذاك!

هذا المزاج الإمبراطوري يكفي لإرسال حسن الهلالي إلى "معتقل المغول" لكي يتزوج المخادع من خطيبة السجين.

(6)
في نوبة تفكير رومانسي سألت محدثي المثقف: ألا يشعر أولئك الأوغاد ولو مرة بتأنيب الضمير تجاه آلاف البشر الذين دمروا حياتهم وحياة عائلاتهم بين المنافي والسجون؟
هذا المقال محاولة لتذكير المهتمين بالقصص التي يجب أن نتابعها وندونها والأسماء التي يغطيها تراب النسيان وراء الجدران، اكتبوا عن السجناء.. كل السجناء.. لتعيش قصص التضحيات حياة أطول من حياة الطغاة

قال: هكذا الدب الأغبر، يتصرف بعنف وعدوانية تجاه كل من يختلف عنه، ولا يهاجم البشر فقط، بل فصائل الدببة الأخرى، إنه يخاف من الاختلاف، وهذا الخوف يحرك غرائزه العداونية. والمفارقة العلمية اللطيفة تقول إنه يهتم بصغاره بشدة، لكنه لا يشعر بأي تعاطف وليس لديه ما تسميه الضمير أو التفكير في مصائر غيره، فهو يتغذى على سمك السلمون.. يجمعه ويفتك به بدون رحمة ولا شفقة، وكذلك بدون أن يشعر تجاه فرائسه بالعداء، كل الحكاية أن هذا هو طعامه وهذه هي طبيعته.

يضيف صاحبي وهو يبدي على وجهه شعورا بالأسى والامتعاض: هذا هو الدب الأغبر الحقيقي، أما الدب الأغبر من بني البشر، فإن نفسه مشحونة بالكراهية والعداء، وينتقم من فرائسه، لأسباب تتجاوز المصلحة والأمن والغذاء، وأعتقد أنها أسباب كامنة بشكل دوني عميق في نفس متبلدة وشريرة، تنزع بسهولة وبلا ضمير إلى الفجور في الخصومة.

(7)
لا أكتب عن الدكتور أبو الفتوح كشخص، ولا أضع اسم علاء عبد الفتاح لصناعة نوع من التوازن بين التيارات، لكنني أكتب عن أمثلة تكشف اختلال حال العدل، واختلال حال الضمير وتقصيرنا في تسجيل مهازل ومآثر هذا الزمان. وهذا المقال محاولة لتذكير المهتمين بالقصص التي يجب أن نتابعها وندونها والأسماء التي يغطيها تراب النسيان وراء الجدران، اكتبوا عن السجناء.. كل السجناء.. لتعيش قصص التضحيات حياة أطول من حياة الطغاة.

tamahi@hotmail.com