قضايا وآراء

قيس سعيد.. رؤى وتكهنات

1300x600
يمضي قيس سعيد في خططه الهلامية التي تفتقر إلى أدنى مقومات الديمقراطية، وإلى أدنى مخرجات العقل والمنطق، في ظل جبهة مقاومة عريضة، ورفض شعبي كبير لإجراءاته التعسفية وحساباته الصغيرة التي يعتمد في إنفاذها على قوات الأمن والجيش الوطني بعيدا عن الحكمة والوعي السياسي ومنطق العصر؛ فهو قادم من زمن بعيد، هو زمن بورقيبة على وجه التحديد..ذلك الزمن الذي لم يكن فيه فضاء رقمي ووسائل اتصال حديثة، وهو من أولئك الذين عفا عليهم الزمن ممن لا يعرفون شيئا عن منصات الشبكة العنكبوتية، فهو جاهل في كيفية استخدام أي منها، ناهيك عن عدم قدرته على الولوج إلى الشبكة بدون مساعدة، ليقرأ بعض الأخبار والتقارير، ويبني عليها كثيرا من أحكامه وإجراءاته، لا سيما القمعية منها.

لم يركز قيس سعيد -منذ جاء إلى السلطة، وخصوصا بعد الانقلاب الأسود- على حاجات المواطنين الأساسية، وظل يمني الناس كذبا وزورا بالرفاه، بينما ركز كل جهوده على تمكين نفسه من كل السلطات، ولا شيء غير هذا. وقد أوهم الناس بأن مرور الدستور سيؤدي إلى تغيير إيجابي في مناحي الحياة كافة، وللأسف بعض الناس من البسطاء يصدقون وعوده، ولا يعبؤون بما كان منه خلال فترة حكمه من كذب وادعاء.
أوهم الناس بأن مرور الدستور سيؤدي إلى تغيير إيجابي في مناحي الحياة كافة، وللأسف بعض الناس من البسطاء يصدقون وعوده، ولا يعبؤون بما كان منه خلال فترة حكمه من كذب وادعاء

أما المعطلون عن العمل من حاملي الشهادات؛ فهم في قرارة أنفسهم يعرفون بكذب سعيد وخداعه، إلا أنهم يحاولون إقناع أنفسهم بأنْ ربما يصيبهم شيء من المنفعة بعد مرور الدستور، من منطلق أن الغريق يتعلق بقشة؛ فهم بين مقاطع على حياء، أو مشارك بنعم على حياء..

الجمعة كان ثمة تظاهرة في شارع بورقيبة لمجموعة من الأحزاب المعارضة والجمعيات، وقد تم قمعها واعتقال بعض المشاركين فيها، وهو المشهد السائد طوال الوقت، في حين صدع قيس سعيد آذاننا بادعاء احترام الحريات والسماح بالتظاهر السلمي، إلا أن الواقع يكذب ادعاءاته؛ فهو معتاد على تكذيب كل ما لا يصب في صالح أدائه الهزيل على كل المستويات. وهو ما يشبه تماما أداء السيسي، وقد أعجبتني لافتة رفعتها إحدى السيدات في التظاهرة كتب فيها: "الاسم: قيس سعيد/ المهنة: عبد الفتاح السيسي"!!

أتوقع -كما يتوقع غيري- أن التصويت سيكون محدودا، ربما يزيد المشاركون فيه قليلا عن الذين شاركوا في الاستفتاء سيئ الذكر، إن لم يتم تزوير كل شيء؛ نسبة المشاركين بالاستفتاء، ونسبة المقترعين بنعم، فلا شيء يمنع التزوير في ظل مراقبة هشة، وأداء احتيالي لا شك فيه، وفي ظل لجنة انتخابات اختارها هو بنفسه.فقد صنع لنفسه بنفسه كل شيء، ابتداء من تفسير المادة 80، والمغالطات في الإجراءات المتعلقة بها، ثم إعطاء نفسه الحق في إصدار مراسيم تأخذ شكل القوانين، ثم الاستشارة القانونية المهزلة، ثم آلية كتابة الدستور التي تعد كارثة دستورية في حد ذاتها، ثم التصويت عليه، وهو من حدد كل شيء.. التواريخ والآليات واختيار اللجان.. هو يقرر وهو يخطط وهو ينفذ، والآخرون ليسوا أكثر من دمى يحركها بطريقة غاية في الإهانة والإذلال.

إننا أمام رجل يجمع بين يديه كل السلط بطريقة فجة؛ فهو مريض سلطة، وما كان له ليقدم على كل ما أقدم عليه، غير ملتفت لنقد ولا لاعتراض؛ لولا الحماية الأمنية والعسكرية، ولولا موافقة دول عربية وأجنبية ودعمها له؛ فقد تعهد على ما يبدو لزعماء عرب وأجانب بالقضاء على آخر معقل من معاقل الديمقراطية، وهو ما تسعى له الغرف المظلمة شرقا وغربا، لأنهم يعرفون أن الديمقراطية تعني القوة والوعي والتطور والرقي والتقدم العلمي ورفض الهيمنة، وهم لا يريدون دولا عربية قوية يكون بإمكانها رفض توجيهات الغرب، والوقوف في وجه الكيان الصهيوني، ودعم الفلسطينيين.
إننا أمام رجل يجمع بين يديه كل السلط بطريقة فجة؛ فهو مريض سلطة، وما كان له ليقدم على كل ما أقدم عليه، غير ملتفت لنقد ولا لاعتراض؛ لولا الحماية الأمنية والعسكرية، ولولا موافقة دول عربية وأجنبية ودعمها له؛

منذ الانقلاب الذي مر عليه عام كامل، لم يقم قيس سعيد بأي عمل من شأنه أن يدعم الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي والصحي، وكل ما قام به حتى اليوم لا يعدو كونه إجراءات لتمرير مشروعه الانقلابي وجمع السلطات كلها في يده الملوثة، مانحا نفسه عصمة النبوة وحصانة ولاية الفقيه، بحيث تحول هاتان دونه ودون المساءلة أو العزل.

غدا سيكون موعد الشعب التونسي مع أحط حقبة من حقب التاريخ التونسي، حيث سيصوت جزء من الشعب على دستور أخرق يؤسس لدكتاتورية بشعة، على يد رجل قانون كان قال لطلابه يوما: "الاستفتاءات في البلدان العربية أداة من أدوات الدكتاتورية المتنكرة.. تتنكر تحت عباءة الاستفتاء. هو ليس استفتاءً حول المشروع، ولكنه استفتاء حول صاحب المشروع"؛ فأي تناقض بين القول والفعل؟ إنه يقوم بتخوين نفسه بشكل سافر، ولو كانت لديه ذرة من حشمة لكان انزوى بعيدا بعد أن ذكّره بعض طلابه بما قاله لهم يوم كان أستاذا جامعيا، وليته بقي أستاذا جامعيا، لكان ارتاح وأراح.

إن التصويت على الدستور غدا يمثل نقطة فارقة في المشهد التونسي، وما بعد التصويت الذي أجزم بفشله المعنوي الصارخ، والشهور الثلاثة التي ستليه، ستكون قادرة تماما على وضع محددات واضحة لما ستؤول إليه الأوضاع العامة.. فهل سيتوقف المنقلب عن الخطاب المتطرف، هو ومؤيدوه الذين ينتهجون ذات نهجه في خطاب التطرف؟ وهل سيتمكن المنقلب من إحداث تغيير في الوضع الاقتصادي بحيث يؤثر على حياة التونسيين إيجابيا؟ وهل سيتمكن من تشغيل العاطلين؟ وهل سيعمل على أن تسود البلاد حالة من الطمأنينة والهدوء؟ أم سيستمر في مغالطاته القانونية والحقوقية؟ ويمضي في توتير الأجواء العامة؟ هل سيحل الأحزاب؟ وهل سيقزم الإعلام؟ وهل سيخرج الشارع عن بكرة أبيه بعد أقل من عام لمواجهة مزيد من التعسف والفشل؟