كتب

شخصيات فلسطينية دافعت عن القدس ووقفت ضد التهويد.. قراءة في كتاب

تعد هذه الدراسة من الدراسات الخاصة بالسير الذاتية، التي اجتهد الكاتبان في جمعها وتبويبها والتعليق عليها، فأرخوا لشخصيات كان لها بصماتها في الدفاع عن القدس والوقوف بالمرصاد لعمليات التهويد..
الكتاب: "مقدسيون صنعوا تاريخاً"
الكاتبان: عزيز محمد العصا، وعماد عفيف الخطيب
الناشر:  اللجنة الوطنية للقدس عاصمة دائمة للثقافة العربية، عام 2018م
عدد الصفحات: 266


إن الحديث عن قادة الفكر والعمل من المقدسيين خلال القرن العشرين، يعني الحديث عن أولئك الذين رابطوا على الجبهة الأمامية في الصراع القائم على أرض فلسطين بين شعب أعزل لا يملك سوى إرادة الصمود، بالمقابل يقف أطول وأشرس احتلال شهده التاريخ المعاصر؛ إنه الاحتلال الثنائي البريطاني الصهيوني، الذي كان للبريطانيين فيه دور من أعد المكان لدولة قامت على الظلم والطغيان، في حين نفذت الصهيونية بدعم منقطع النظير من بعض دول العالم المتواطئة لتعلن دولتها عام 1948م على نكبة الشعب الفلسطيني، وشردته بسلب أرضه، بل عملت على محو وجوده الثقافي والحضاري!

تستعرض هذه الدراسة سيرة عشر شخصيات مقدسية ساهمت في الحفاظ على عروبة فلسطين؛ فجاءت تكريما لأعلام مقدسية، حملوا على عاتقهم أمانة الدفاع عن القدس، وواجهوا الاحتلال وغطرسته، فكان ليقظتهم وعطائهم وتفانيهم في خدمة المجتمع المقدسي أثرهم الملموس في مواجهة عمليات التهويد والأسرلة وحماية وبناء مؤسسات القدس، إن إيلاء سيرة ومسيرة هؤلاء مساحة وافرة من الاهتمام والمتابعة لأمر ضروري لتعريف الأجيال بما قدمه الأسلاف من مساهمات وانجازات باقية رغم أنف المحتل.

عشر من القادة المقدسيين تركوا فينا ما لا ينسى من أثر وآثار مادية وغير مادية، في المجالات التربوية والتعليمية والسياسية والفكرية، شكلت في مجموعها، تحديات للاحتلال، واعاقات جادة وفاعلة لمحاولاته تهويد المكان والزمان والتاريخ والجغرافيا، ما يشكل تاريخاً واضاءة تمهد الطريق للأجيال القادمة، للسير قدما على خطى الآباء والأجداد.

إليزابيث موسى ناصر

تغيرت حياة إليزابيث عندما حلت النكبة بالشعب الفلسطيني عام 1948م، بين عشية وضحاها، فهجرت من بيتها في يافا، ولجأت إلى بيت العائلة في بيرزيت، درست مادة التاريخ في كلية بيرزيت، ومن ثم أسست روضة الزهور في شباط عام 1952م، عندما صادفت فتاتين صغيرتين في السادسة والخامسة من العمر؛ بثياب رثة مبللة تتسولان على قارعة الطريق، فراودتها فكرة انشاء دار للفتيات المشردات، وذلك ايمانا منها بأن هذه الدار ستحمي الفتيات من اللجوء لكسب لقمة العيش، وبذلك انطلقت هي شخصياً إلى الشوارع لتبحث عن الفتيات المتسولات، فجلست في المقاهي مع العمال وسائقي سيارات الأجرة لتحصل على معلومات عن أماكن وجودهن.

بدأت ناصر مشروعها في منزلها المستأجر، مكتفية بركن منه، وأسمته جمعية روضة الزهور؛ لأنها أرادت للفتيات أن يشعرن بأنهن زهرات في حديقة الزهور، ولكي تزيل أية وصمة عار قد تربطهن بحياة التشرد، استوعبت في مشروعها نحو خمسة وعشرين فتاة التقطتهن من الأزقة والمغاور بهدف إيوائهن وتعليمهن بعض المهارات وركزت على محو الأمية، والتدريب الصحي، والتدبير المنزلي والخياطة؛ لتمكينهن من إيجاد فرصة عمل أو ليكن ربات بيوت صالحات، تطورت الروضة وأصبحت مدرسة ساهمت في سد حاجة المدينة للمدراس الوطنية(ص16).

هذه العائلة ذات نبراس مضيئ في تاريخ العلم والتعليم فشقيقتها الكبرى نبيهة أسست مدرسة بير زيت التي تطورت عبر السنوات، لكلية عام 1973م، من ثم أول جامعة فلسطينية على أرض الوطن تحمل اسم جامعة بيرزيت.

حسني سليمان الأشهب

تربوي مقدسي، جعل من القلم سيفا حاداً في مواجهة الاحتلال والمحتلين، مارس اللعبة السياسية والنضالية، أعاد للتعليم مكانته وهيبته، وهب بعد النكسة لتخليص التعليم في القدس من براثن التهويد الذي هبت نيرانه لتلتهم عروبة القدس وعروبة أبنائها؛ فحمى التعليم في القدس مما أحاكه ضده المحتل الغاشم(ص87).

"إن كانت القوة العسكرية تحسم أمر المعركة لصالح الأقوى والأقدر على التخطيط السليم، فإن هناك قوة تقابلها لا تقل عنها أهمية، وهي القدرة على تعليم المجتمع وتغذيته بثقافة وطنية، قادرة على تأجيج الانتماء في نفوس أبنائه، لتجعلهم قادرين على التحرر من رقبة الاحتلال ومواجهة الظلم والظالمين، أيا كانت سطوتهم وسلطتهم".

عشر من القادة المقدسيين تركوا فينا ما لا ينسى من أثر وآثار مادية وغير مادية، في المجالات التربوية والتعليمية والسياسية والفكرية، شكلت في مجموعها، تحديات للاحتلال، واعاقات جادة وفاعلة لمحاولاته تهويد المكان والزمان والتاريخ والجغرافيا، ما يشكل تاريخاً واضاءة تمهد الطريق للأجيال القادمة، للسير قدما على خطى الآباء والأجداد.
قاد الأشهب صراعاً مريراً مع الاحتلال وأعوانه حتى تمكن من تخليص التعليم في القدس من براثن التهويد، الذي شرع به الاحتلال من اللحظة الأولى؛ لاستكمال احتلال القدس بشطريها الغربي والشرقي، شهد ثورة البراق عام 1929م، وجرحى فيها، فانتقل من طالب متظاهر إلى حامل للسلاح دفاعاً عن نفسه وأهله ومقدساته ووطنه(ص94).

استطاع الأشهب تفريغ الطلبة من المدراس الرسمية المستولى عليها من الاحتلال، التي كانت تدرس المنهاج الإسرائيلي، للمحافظة على عروبة المناهج، بل وعروبة القدس، وعن دور الأشهب تشير الدراسة" إن هذه السياسة التهويدية قوبلت بمقاومة باسلة متعددة الأشكال، تزعمها مدير التربية والتعليم حسني الأشهب، مما أجبر سلطة الاحتلال على التراجع عن بعض الأوامر العسكرية، بخاصة الأمر العسكري رقم( 107)، الذي حظر بموجبه تدريس 55 كتاباً مدرسيا ًمن المنهاج الأردني، واستبدله بالقرار(183)، الذي سمح بالعودة إلى المناهج الأردنية المعتمدة في الضفة الغربية دون القدس، بعد اخضاعه للرقابة؟" (ص106)

الشيخ سعيد عبد الله صبري

شيخ أزهري تخصص في علم الميراث، قاوم البريطانيون وقارع الصهاينة، عاش شامخاً لم ينحن لأحد، وعندما طلب منه الانحناء فضل الموت، فلسطيني قادم من مدينة قلقيلية؛ اعتلي منبر صلاح الدين الأيوبي خطيباً، انتمى للقدس والمقدسيين، قلباً وقالباً، فأبدع في تطوير الأوقاف عندما عين قاضياً شرعيا في القدس، ووظفها لخدمة المجتمع المقدسي.

عن إنجازاته وأفكاره الخلاقة تحدث ابنه الشيخ عكرمة صبري" وظف أموال المسلمين، أفضل توظيف في مجال الاستثمار للصالح العام، أشرف على انشاء عدة مساجد وعقارات للأوقاف في المدن التي كان قاضياً، كما أنجز سلسلة من الأعمال العمرانية ...ساهم في تشكيل الهيئة الإسلامية الذي كان أحد أعضائها البارزين بتاريخ 24/7/1967م، للإشراف على الأوقاف والمحاكم الشرعية وشؤون المسلمين، يشهد المسجد الأقصى المبارك للشيخ صبري، مواقفه من الاحتلال ومن بيع الأراضي، ومن المحافظة على المقدسات وقول الحق واسداء النصح والإرشاد" (ص147).

كما تشهد المحاكم الشرعية على دوره في توثيق السجلات والوثائق وحفظ ما فيها من وقفيات؛ لحفظ حقوق المسلمين في حدود القدس، وركز على الميراث وحفظ حقوق العباد، وحصر الأراضي الوقفية والمحافظة عليها من الضياع وفق قوانين ولوائح من أجل تعميقها، وتابع بنفسه كل أرض وقفية.

حرصه الشديد على طلب العلم الشرعي أسهم في تأسيس معهدين لطلاب الشريعة عام 1957م، الأول: في نابلس باسم المدرسة الإسلامية التابعة لجمعية التضامن الخيرية، أما الثاني: في القدس باسم ثانوية الأقصى الشرعية التابعة للأوقاف، وفي عام 1970مـ ساهم في إقامة قسم الشريعة للبنات في دار الطفل العربي في القدس.(ص149).

 نهاد عليان أبو غربية

اسم حفر باللغة العربية الفصحى في صخور القدس، وبيوتها، درس في جامعة لندن بالمراسلة، وحصل على شهادة( B.A ) متخصصاً في التاريخ العام، عين في المدرسة الإبراهيمية  في محلة المصرارة بالقدس، التي اشترى فيها أبو غربية أسهم الشيخ عز الدين الشريف؛ ليصبح من أصحاب المدرسة، بل ومالكها عام 1935م، ومن ثم نقلها إلى عمارة تقع على شارع صلاح الدين في باب الساهرة بالقدس، تحولت المدرسة عام 1945م للكلية الإبراهيمية، ووصلت الكلية لدرجة عالية من الرفعة المتميزة في معلميها وطلابها، الذين وصل عددهم في عام النكبة نحو نيفاً وألف طالب خارجي، ونحو 85 طالباً داخلياً، مع حلول النكبة نكبت الكلية الإبراهيمية في القدس أيضا، وهي في ذروة تقدمها وتطورها، وعاش طلابها على أزيز الرصاص وأصوات الانفجارات والقذائف التي سقطت بالقرب من الكلية؛ ليغادر أغلب طلابها القدس.

عادت الكلية للعمل عام 1955م وفق المنهاج المصري، مع تدريس المنهاج الأردني للطلاب الذين يرغبون في دراسته، لتصبح معلم معالم القدس المشرقة.

هند الحسيني.. سيدة العمل والرفاه الاجتماعي

عاشت آلام النكبة وعذاباتها، تجرعت مرارة النكسة، وما أل إليه حال القدس، وما بين هاتين الكارثتين وما بعدها؛ شمرت عن ساعديها، وكرست حياتها للأطفال الأيتام الذين كانت ترى البسمة على ووجوههم السعادة.

بُعيد مذبحة دير ياسين في إبريل عام 1948م، جمعت خمسة وخمسين طفلاً وطفلة ووضعتهم في غرفتين بالبلدة القديمة، وبدا لديها فكرة تأسيس جمعية دار الطفل العربي في القدس، التي مازالت تشهد على انتماء  الحسيني، وإبداعاتها متعددة الأبعاد والأوجه، أسست دار الطفل العربي، ومن مؤسسي جمعية المقاصد الخيرية ـ القدس.

تحدث الكاتبان عما جرى لأيتام دير ياسين الأحياء" فقد أرغموهم والحراب تعمل في أقفيتهم على التجمع في مكان عينوه بعد أن اغتالوا فريقاً من هؤلاء النسوة، وبعضهن الحوامل ثم ركبوا الصغار منهم السيارات المكشوفة، وطافوا بهم في الأحياء اليهودية، بعد أن رجمتهم جموع اليهود بالحجارة، وأخيراً أوصل اليهود هؤلاء التعساء إلى الحدود الفاصلة بين الأحياء العربية واليهودية في حي المصرارة، فأنزلوهم من السيارات وأمروهم بالتوجه إلى الأحياء العربية، وهم يطلقون مئات العيارات النارية فوق رؤوسهم لإرهابهم".

بعد أسبوعين من المجزرة تحديداً بتاريخ 23/4/1948م، صادفت الحسيني خمسة وخمسين طفلاً، أكبرهم في الثانية عشر من عمرهم، وأصغرهم في سنته الأولى، وعيونهم تنطق بالذعر والهلع مما رأوه، ويحاول الكبار منهم تهدئة روع الصغار؛ فاتجهت نحوهم وسألتهم عن سبب تجمعهم في تلك المنطقة؛ فوقف أكبرهم وقص عليها ما حدث معهم من قتل، وذبح وترويع، وكانت تقول في نفسها: "لو مات هؤلاء الأطفال لمحي الشعب الفلسطيني، فقطعت عهداً على نفسها بأن ترعى الأيتام وتربيهم تربية صالحة"، أخذت الحسيني الأطفال اليتامى واحتضنتهم وقام برعايتهم، فوضعتهم في غرفتين في سوق الحصر، وبدأت بتفقد احتياجاتهم ونقلتهم دير راهبات صهيون، وخلال الحرب نقلتهم إلى بيتها، وبدعم من محافظ القدس أنور الخطيب ففتحت لهم مدرسة في بيتها، وكان ذلك بداية انطلاق مشروع دار الطفل العربي، الذي تحول إلى مؤسسة اجتماعية وطنية، تحتضن الأطفال، وترعاهم، وتربيهم حتى يبلغوا القدرة على السير في دروب الحياة والنضال لأجل قضيتهم.(ص247).

متحف التراث الفلسطيني

يعد المتحف ثروة قومية، ومصدر من مصادر المقاومة الثقافية ظهرت الحاجة الفلسطينية له لتعريف الأجيال الفلسطينية والعالم الخارجي بالتراث الفلسطيني، إذ بدأت الحسيني بتجميع المقتنيات التراثية من خلال تبرعات الفلسطينيين الشخصية، فجمعت ثياباً مطرزة قديمة من عدة مدن فلسطينية، ليتم افتتاح أول متحف عام 1978م، تحت مسمى اسم مركز التراث الشعبي العربي الفلسطيني أودعت فيه 2200 قطعة، ثم دأبت على زيادة مقتنياته، اليوم يضم المتحف ثلاث طوابق تستقبل الزائرين؛ بعرض أفلام وثائقية عن أحداث دير ياسين لعلاقتها التاريخية بتأسيس المؤسسة عام 1948م.

ضم المتحف مجسماً لقرية دير ياسين مع مجسم حائط لخارطة فلسطين التاريخية؛ تظهر فيه(450)قرية فلسطينية مدمرة ومهجرة بفعل حرب عام 1948م، كما يعرض فيه أيضا أدوات تراثية تعكس الأدوات التي تستخدم في البيوت الفلسطينية التقليدية في الريف الفلسطيني، والأزياء الشعبية، والفرمانات العثمانية الأصلية، والوثائق القديمة والمخطوطات التي تروي قصة نهايات فترة الحكم العثماني في القدس، بالإضافة لوجود مكتبة مهمة تضم مراجع متخصصة في العمل المتحفي والتراث الفلسطيني بشكل محدد.

دار إسعاف النشاشيبي.. تحفة ثقافية تشهد على عروبة القدس

قامت هند الحسيني عام 1982م، بشراء قصر أديب العربية محمد اسعاف النشاشيبي في حي الشيخ الجراح، وأضافته لأملاك وعقارات مؤسسة الطفل العربي في مدينة القدس، واستخدم القصر لخدمة الثقافة والعلم في فلسطين بشكل عام والقدس بشكل خاص، وأسهمت في احياء النشاطات الثقافية والفكرية في مدينة القدس؛ بعرض الندوات والمعارض وورش عمل ذات أبعاد وأهداف محددة، وتم تجهيز مكتبة الدار ببضعة آلاف من الكتب والمراجع القيمة والمخطوطات، شملت مكتبة الأديب اسعاف النشاشيبي، وفوزي يوسف، واسحاق الحسيني، وعارف العارف، وغيرهم من أدباء فلسطين الذين سخروا أقلامهم لخدمة قضيتهم.

لقد كرست الحسيني حياتها للشأن العام، فلم تتوقف أنشطتها وفعاليتها عند الجانب الاجتماعي الإنساني وحسب، بل إنها كانت فاعلة على المستوى الوطني والسياسي، ففي عام 1967م، عندما احتلت إسرائيل القدس، والضفة الغربية، وقطاع غزة؛ حولت مدرستها مستوصفاً لعلاج الجرحى، وعندما انطلقت الانتفاضة الأولى، شجعت الحسيني على المشاركة في أحداثها، لتدخل قوات الاحتلال المؤسسة وتعبث بمحتوياتها كباقي المؤسسات الفلسطينية، فقد أغلقت المؤسسة لأشهر عديدة(ص250).

أخيراً تعد هذه الدراسة من الدراسات الخاصة بالسير الذاتية، التي اجتهد الكاتبان في جمعها وتبويبها والتعليق عليها، فأرخوا لشخصيات كان لها بصماتها في الدفاع عن القدس والوقوف بالمرصاد لعمليات التهويد، وبشكل خاص التهويد الثقافي، وحالة التجهيل المتبعة من الحكومات الإسرائيلية لكي الوعي الفلسطيني، لإفراغ المقدسي من قضيته وصموده الأسطوري، وهذه الدراسة بحاجة إلى سلسلة أخرى من الدراسات؛ لاستكمال الدور الريادي لمن حملوا هم القدس والمحافظة على المقدسات الإسلامية والمسيحية، والإبقاء على عروبة القدس في ظل الهجمة الشرسة التي تتبعها حكومات اليمين الإٍسرائيلي.