كتاب عربي 21

منظومات "التطبيع" بين تأبيد الاحتلال ودعم وتأييد المقاومة.. قاموس المقاومة (23)

التطبيع يستهدف الشعوب- عربي21
في خاتمة المقال السابق أكدنا أن التطبيع بهذا الاعتبار "ذاكرة" و"حالة يكمن في خلفها خطط واستراتيجيات" و"عملية، بل وعمليات" و"علاقات تتطور وربما تصير تحالفات" و"سياسات" و"مسارات ومؤسسات وأدوات ومجالات" و"عقبات وتحديات" و"تدافع وتدافعات" و"مقاومة ومواجهات" و"آثار ومآلات"، كل ذلك وضمن هذه الامتدادات التي تتعلق بالفعل التطبيعي؛ فإن الأمر يستحق الدرس والفحص. في ضوء كل هذا فإن التطبيع بأشكاله المختلفة خيانة ومقاومته ومدافعته أمانة؛ كان مقصدنا من تلك الكلمات أن ننبه الى ضرورة النظر الى التطبيع كمنظومة أو منظومات هذا النظر الاستراتيجي والحضاري، حتى تكون المقاومة المكافئة له التي تعادل استراتيجياته وخططه بالمقاومة الحضارية الشاملة.

إنها حالة تكمن خلفها خطط واستراتيجيات؛ تهدف الى صناعة حالة من الاستسلام غير المشروط للأمر الواقع والاعتراف بالكيان الصهيوني الغاصب للأرض كدولة ذات سيادة، وتحويل علاقات الصراع بينه وبين البلدان العربية والإسلامية إلى علاقات طبيعية، وأكثر من ذلك التخلص من القضية الفلسطينية تحت عنوان التسوية بالتصفية في سياق استراتيجيات تقوم عل كل تلك الاستهدافات تحت عنوان "صفقة القرن"؛ وهي أخيرا حرث الأرض العربية لتحقيق الهيمنة للكيان الصهيوني وضمان أمانه؛ قاصدة خلق قابليات نفسية للتعايش مع العدو المغتصب والمحتل وإسقاط ما أسموه الحاجز النفسي، والقفز على حقيقة الصراع مع الكيان الصهيوني بكونه صراعا حضاريا مصيريا وجوديا.

وفي ذاكرتنا الحضارية تَمثل في عمليات متسللة ومتدرجة في بداية أمرها كان يحاك لها وجودا وتعاونا سريا، ثم تطور الأمر إلى عمليات واضحة فجة في كافة المجالات؛ وعلى رأسها الديني من خلال ما أُسمي الديانة الإبراهيمية كسبيل لدخول الكيان الصهيوني الساحة العربية والإسلامية تحت هذا العنوان الذي يتخفى في جمع الديانات المنزلة على صعيد واحد، ولم يكن يقصد بهذا إلا تسكين الحالة الصهيونية وجعلها مقبولة في العالم العربي والإسلامي؛ ذلك يعني أن الصيغة "الإبراهيمية"، كمحاولة لاختراق الوعي الديني تطبيعيا، هي مشروع تهويد للمسيحية والإسلام، وبالتالي تهويد وعي أتباعهما. وإذا كان مشروع إنشاء "مسيحية متصهينة" قد قطع شوطا بعيدا في الغرب، وما برحت المسيحية المشرقية تأنف منه، فإن "الإبراهيمية" هي مشروع إنشاء "إسلام متصهين"، والإسلام والمسيحية من بدعة "الإبراهيمية" براء؛ كما يقول ويؤكد في عبارة عميقة وبليغة "الأستاذ إبراهيم علوش": الأمر أبعد من كونه بدعة، إنها خدعة كبرى تتدثر بالدين وما هي كذلك.
عقد اتفاقيات السلام لا يحقق للاحتلال الأمن الذي يطمح إليه، ولا يكفي لضمان استقراره على هذه الأرض، ذلك أن الخطر الذي يتهدد الكيان الصهيوني يأتي من قبل الشعوب، والسبيل إلى هؤلاء لا يكون إلا بالتطبيع، والذي يمكن من خلاله تهيئة الشعوب وترويضها على قبول هذا الكيان

وترافق مع ذلك تطبيع ثقافي من قبل مثقفين يا للأسف الشديد تسارعوا الى كسر القواعد الاستراتيجية في التعامل والتعاون والترويج لكافة هذه العلاقات المشبوهة التي غلفوها بفوائد الاستقرار المزعوم والرفاه المحتمل؛ واتخذ أشكالا وأوعية مختلفة منها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والسياحي والإعلامي... الخ. ثمة ثلاثة أنماط من التطبيع نشأت وتكرست، حتى الآن، في العلاقات بين إسرائيل والدول العربية على مر السنوات، هي:

الأول: تطبيع غير رسمي يتميز بوجود علاقات ثنائية بين الدولتين، بصورة أساسية إسرائيل والدولة العربية المعنية (من دون إقامة علاقات دبلوماسية).

الثاني: تطبيع رسمي وظيفي ربما كان جزئيا، مفروضا أو اختياريا، يتميز بالتعاون في مجالات الأمن والاستخبارات بشكل رئيس، وربما الاقتصاد في بعض الأحيان. ويستند هذا النمط، أساسا، على وجود مصالح مشتركة وأعداء مشتركين ويجري من وراء الكواليس، رغم احتوائه على بعض المظاهر العلنية الناجمة عن وجود علاقات دبلوماسية بين الدولتين.

الثالث: تطبيع شرعي وكامل يتميز بوجود تعاون متعدد الأوجه والمستويات، على الصعيدين الحكومي والشعبي على حد سواء. في هذا النمط، يلعب النظام الحاكم في الدولة العربية المعنية دورا حاسما، إذ يقود من الأعلى سيرورة تعاون متشعب ومثمر مع إسرائيل يجري الجزء الأكبر منها في العلن وبصورة مكشوفة، بينما يجري جزؤه الآخر في الخفاء.

أما كون التطبيع ذاكرة وعلاقات وسياسات كانت في حدها الأدنى تطورت مع حالة الهرولة التطبيعية؛ إلى أشكال أخطر قد ترقي مع النظم الرسمية إلى تحالفات، فهو أمر يستحق المتابعة ومزيد من الدراسة والبحث الذي يتابع تطورات طرأت على هذا المسار التطبيعي في العلاقات والسياسات التابعة لها. فمنذ شاعت كلمة التطبيع والتي شُرّعت مع اتفاقيات كامب ديفيد المشؤومة التي وقعت في 17 أيلول/ سبتمبر 1978  حيث وردت عبارة علاقات عادية وطبيعية؛ تسعى سياسات لجعل التطبيع عاما شاملا لجوانب الحياة، ويتيحون للعدو الصهيوني اختراق المنطقة حد الامتلاء، ويسعون لجعل العلاقة مع العدو الصهيوني طبيعية كأنها سجية، والمقصود إنهاء حال المقاطعة.. التي انتهت بقرار رسمي في شباط/ فبراير 1980.

أما الهدف الاستراتيجي الرئيس فمفاده وفقا للرؤية الصهيونية والغربية كسب المعارك التي تحقق للاحتلال الإسرائيلي جميع الأهداف المنشودة، فهناك أهداف لا يمكن تحقيقها بالقوة، لذلك لجأ إلى التطبيع لتحقيق ما عجزت الحروب عن تحقيقه. فالقوة لم تستطع دمج الاحتلال في المنطقة، ولم توفر له احتياجاته الضرورية من جيرانه، لضمان استمراره وقدرته على البقاء. وقد أقر رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك بيريز أن القوة العسكرية وحدها لا يمكن أن تحقق الأهداف المطلوبة، وأن الوسيلة الناجعة تكمن في تطبيع العلاقات مع الجيران.

الهدف الاستراتيجي الرئيس فمفاده وفقا للرؤية الصهيونية والغربية كسب المعارك التي تحقق للاحتلال الإسرائيلي جميع الأهداف المنشودة، فهناك أهداف لا يمكن تحقيقها بالقوة، لذلك لجأ إلى التطبيع لتحقيق ما عجزت الحروب عن تحقيقه. فالقوة لم تستطع دمج الاحتلال في المنطقة، ولم توفر له احتياجاته الضرورية من جيرانه، لضمان استمراره وقدرته على البقاء
فعقد اتفاقيات السلام لا يحقق للاحتلال الأمن الذي يطمح إليه، ولا يكفي لضمان استقراره على هذه الأرض، ذلك أن الخطر الذي يتهدد الكيان الصهيوني يأتي من قبل الشعوب، والسبيل إلى هؤلاء لا يكون إلا بالتطبيع، والذي يمكن من خلاله تهيئة الشعوب وترويضها على قبول هذا الكيان.

إنّ استراتيجية كل تلك الأدوات التطبيعية ومجالاتها المختلفة كما حددها تماما الأستاذ إبراهيم علوش في مقاله الضافي "معنى التطبيع ومناهضته في زماننا": "هي تجاوز الدفاعات المجتمعية باختراقات فردية، في البداية، يمكن أن تصبح رؤوس جسورٍ عائمة لإعادة برمجة الوعي المجتمعي تطبيعيا، إن لم تحاصر وتعزل؛ ويلي ذلك وضع برامج عامةٍ تستهدف القطاعات المجتمعية كافة من الطلاب، النساء، التجار، الإعلاميين، المثقفين، الفنانين، إلخ... وندخل في التطبيع في كل قول أو فعل يتعامل مع الاحتلال، وما يمثله، كأمرٍ طبيعي."

أما كون التطبيع "عقبات وتحديات" و"تدافعا وتدافعات" و"مقاومة ومواجهات" و"آثارا ومآلات"، فإن كل ذلك يشير الى ما يجب عمله ضمن سياسات واستراتيجيات وخطط وبرامج ضمن التدافع الإيجابي، ومواجهة كل العقبات، والاستنفار لمجابهة التحديات التي يفرضها علينا عالم المطبعين دولا أو مؤسسات وتكوينات نشأت منذ زمن لتقوم بكل ما من شأنه الترويج لهذه الحالة الخطيرة والحقيرة؛ التي صارت تتسلل في أثواب مختلفة تفضح أكثر من أن تتستر.

إن تلك المآلات التطبيعية وتوابعها وجمل الآثار السرطانية التي تتركها على كيان الأمة وصحتها وعافيتها، وهذه الآثار والنتائج الوخيمة على مقاومة الأمة وإنتاج الأثر المطلوب محليا وإقليميا وعالميا في مواصلة مسيرة التحرير والحرية.. كلها حالات وعمليات وسياسات وأنماط ومستويات تفت في عضد الأمة ومقاومتها على حد سواء؛ وهو ما يفرض على الأمة بمكوناتها استراتيجية المواجهة والمقاومة؛ استراتيجية شاملة وكاملة كما هو التطبيع فتصير تلك المواجهة حضارية بكل ما لهذا الوصف من معنى.

إن هذه النظرة المنظومية الشاملة لظاهرتي التطبيع والتصهين نظرا للعلاقة الوطيدة فيما بينهما؛ هي الأجدر أن نتبناها، وهي تدفع بحق إلى عمل ناهض مقاوم ومجاهد. وهي تعني ضمن ما تعني بناء استراتيجية شاملة لها كل جوانبها؛ دينية وما يتبعها من خطاب ديني عقدي يتعلق بأصل القضية؛ وثقافية تنهض بوعي الشعوب وواجبها التأسيسي في دعم المقاومة ومناهضة التطبيع، هذا الخطاب الثقافي تبلغ أهميته القصوى في مواجهة كل ما يرتبط بالغزو الصهيوني وعملياته التسميمية وحروبه النفسية وهو أمر لا يقل أهمية عن المعارك الأخرى.. هذه الاستراتيجية الثقافية يجب أن تستصحب استراتيجية خطاب إعلامي يصد هجمات العدوان والطغيان؛ ويؤسس في المقابل لتمكين السردية الحقيقية للقضية الفلسطينية؛ وتأسيس الوعي وترشيد السعي المرتبط بقضايا الأمة الكبرى؛ وكذلك اعتماد استراتيجية خطاب حضاري شامل؛ هذه الاستراتيجية المتكاملة وجبت وعيا وسعيا صياغة وممارسة بعد طوفان الأقصى.. وللحديث بقية.

twitter.com/Saif_abdelfatah