مقالات مختارة

موسم الهجرة إلى البرد

1300x600
كتب سمير عطا الله: قرر زياد الرحباني أن يترك لبنان ويهاجر إلى موسكو. ويشار إلى نجل عاصي وفيروز عادة بلقب «الفنان»، وفي ذلك اختصار لمواهبه الجمّة، مؤلفًا وشاعرًا وملحنًا وممثلًا مسرحيًا ومخرجًا، ومتمردًا دائمًا. وفي إعلانه عن هجرته كشف زياد عن خلاف مع «حزب الله» حول الرؤية للمقاومة الوطنية. وبذلك، يكون قد أعلن خلافه مع اليمين ومع رؤية الرحابنة الأوائل للبنان، ومع اليسار، ومع الوسط، وأيضا مع الجماهير التي تصفق له كما تصفق الطيور بأجنحتها فرحًا.

لم أحاول مرة أن «أفهم» زياد أو أن «أتفهّمه». رأيت فيه منذ لحظة ظهوره، منفردًا عن عائلته، موهبة جميلة، وتغريدًا شاردًا. وقررت أن أنسى ما لم ينسه اللبنانيون. لقد أراد كل منهم أن يكون زيادٌ عاصي آخر، أو منصور آخر، بينما هو أراد أن يغرّد خارج القفص المذهّب. إلا أنه بالغ في تمرّده حتى بدا ذلك نكرانًا. والحياة اللامستقرة التي عاشها في العائلة الأبوية نقلها في لا مبالاتها إلى حياته الزوجية.

ومع ذلك، أُحبُ أن «أفهم» زياد الذي لست موجودًا عنده، لأنني من موجودات عاصي ومنصور وسيدتي الماسيّة فيروز.

وبصرف النظر كم كنت بعيدًا أو قريبًا من العائلة وحياتها ومآسيها ومشكلاتها وأمجادها، فقد نظرت إلى الجميع على أنهم عباقرة وبشر. ولم أطلب من فيروز مرة أكثر من الكنز الذي هي، ولا من عاصي ولا من صديقي منصور. لكن اللبنانيين، تدخّلوا في حياتهم وفي شؤونهم حتى الغلاظة. أنا، كفاني أنهم منّوا علينا بنصف قرن من الجمال والفرح وتَعليَة لبنان.

بالغ الرحابنة الأهل في الإيجابيات، ومضى زياد بعيدًا في النقض. إنسان متشائم لا يكف عن السخرية والإضحاك. متألم ولا يكف عن الضحك. حياة خاصة متوتّرة غير مستقرّة، في حياة عامة مضطربة قلقة لا استقرار فيها. لا أعرف أيهما مرآة الأخرى. لكنني أعرف أنه من الصعب أن يكون رجل في شفافية زياد، إلاَّ مليئًا بالقلق.

أعلن هجرته إلى روسيا وهو يشارف الستين. هذه ليست سن هجرة ولا تأكيدا آخر على اللامبالاة. والخيبة التي تحدَّث عنها في العلاقة مع «حزب الله» ليست الوحيدة ولا الأهم. من يقف على أعتاب الستين يتطلع وراءه - لا أمامه، ويتأمل طويلًا في الحصاد، لا في الزرع.

وبينما يتطلع الآخرون إلى ما حققه الفنان، يتطلع هو إلى ما لم يحقق. منصور الرحباني الذي اعتقدنا أنه سحرنا بشعره وموسيقاه، كان يقول إنه نادم على الموسيقى الكلاسيكية التي لم يضعها. سفر مبارك إلى موسكو، وعودة سريعة، في أي حال.


(الشرق الأوسط)