كتاب عربي 21

سياسة التوسع الإقليمي تفتقد الحكمة وهي ضارة بإيران والمنطقة

1300x600
في لقاء مع مسؤول مشرقي كبير قبل أسابيع قليلة، تذكر السيد علي خامنئي، المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، أنه عندما كان في العراق في خمسينات القرن الماضي، سأل أحدهم مرة في مدينة النجف عن الطريق إلى عنوان ما، مستخدماً العربية، فرد عليه الرجل بالفارسية. استدل الزعيم الإيراني بالحادثة ليقول إنه أدرك يومها أن العراق في الحقيقة جزء من الفضاء الثقافي الإيراني، وليس الفضاء الاستراتيجي وحسب. 

لم يقل آية الله خامنئي لضيفه، بالطبع، إن الجالية الإيرانية كانت تغلب في وجودها على النجف، بل وأكثر من ذلك على كربلاء، وأن الحديث بالفارسية من لم يكن أمراً مستغرباً في المدينتين، اللتين تحولتا منذ الانهيار الصفوي في القرن الثامن عشر وبروز مؤسسة مرجعية التقليد إلى ملجأ للعلماء الإيرانيين وحلقات العلوم الدينية الشيعية. 

ولكن دلالة مثل هكذا حديث تتعلق أقل بتاريخ العراق وصحة قراءة هذا التاريخ منها إلى توجهات الجمهورية السياسية في الإقليم منذ بداية العشرية الأولى لهذا القرن، وبحث إيران الحثيث عن وسائل تسويغ وشرعنة هذه السياسة.

أفادت إيران مرتين من السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، المرة الأولى من سياسات الحرب التي تعهدتها إدارة بوش، والأخطاء الفاحشة التي ارتكبتها واشنطن في أفغانستان والعراق وتجاه فلسطين ولبنان. وأفادت في المرة الثانية من سياسة الانسحاب الجزئي التي تعهدتها إدارة أوباما من الشرق الأوسط، وما واكبها من مناخ عدم استقرار، أطلقته عاصفة الثورة العربية. 

في المرة الأولى، وجدت طهران تلاقياً في المصالح بين توجه إدارة بوش لإطاحة نظامي طالبان وصدام حسين، وشجعت حلفاءها بالتالي في البلدين على الالتحاق بالهجمة الأمريكية. وعندما عجز الأمريكيون عن إدارة شؤون أفغانستان والعراق، وعن مواجهة تصاعد المقاومة الأفغانية والعراقية، اندفعت طهران لتعزيز النفوذ في البلدين، وإن بدرجات متفاوتة. من جهة أخرى، ولأن إدارة بوش أطلقت العنان للقوة الإسرائيلية الهوجاء في لبنان وفلسطين، أفادت السياسة الإيرانية من المقاومة للاحتلال الإسرائيلي، التي قادها حزب الله وحماس والجهاد، إلى أن أصبح الحزب القوة الرئيسية في الساحتين السياسية والعسكرية اللبنانية. 

في المرة الثانية، بدت سياسة أوباما وحركة الثورة العربية وكأنها تصنع فراغ قوة في المشرق، سيما أن الدول العربية التي لم تشهد حركة معارضة ثورية، مثل السعودية، استغرقت كلية طوال حكم الملك عبد الله في التصدي لعملية التحول الديمقراطي في الجوار العربي، والقوى الإسلامية على وجه الخصوص. أفسحت حالة فراغ القوة تلك لتوسع إيراني متزايد باتجاه سوريا واليمن، ولتعزيز النفوذ الإيراني في لبنان والعراق. 

بيد أن سياسة توسع النفوذ الإيرانية افتقدت إلى الكثير من الحكمة. في المرحلة الأولى، التي سبقت انطلاق حركة الثورة العربية، تبنت طهران سياسة إيجابية، استقبلت بالترحاب من أغلبية شعوب الجوار، في لبنان وفلسطين، وسياسة سلبية، استقبلت بقدر كبير من الشك، في العراق وأفغانستان. حملت المقاربة الإيرانية للبنان وفلسطين أبعاداً إسلامية وتضامنية جامعة، بينما حملت المقاربة الأخرى لأفغانستان والعراق أبعاداً طائفية وانتهازية في الآن نفسه. 

ولكن، وبالرغم من الافتراق بين المقاربتين، يصعب القول بأن السياسة الإيرانية كانت معزولة كلية طوال العقد الأول من القرن الحالي. انطلاق حركة الثورة العربية في 2011، وامتدادها السريع إلى سوريا والعراق واليمن، أصاب الإيرانيين بقدر من الإرباك وترك مشروع توسع النفوذ في العراء. ما كان طائفياً محدوداً، أو غامضاً بعض الشيء، في لبنان والعراق سوريا واليمن، تحول إلى طائفي غير قابل للجدل، وإلى اصطفاف مكشوف وصريح إلى جانب الاستبداد والقمع والحكم الأقلوي.

لاستقرار النفوذ والتأثير، سواء كان الأمر يتعلق بقوة إقليمية أو دولية، لابد من توفر تأييد من الأغلبية في البلد المستهدف، شعور حقيقي لدى الأغلبية بأن العلاقة مع هذه القوة تعود عليها بمكتسبات اقتصادية وسياسية وثقافية، ولا تصطدم مع ثوابت وأصول قومية أو وطنية أو ثقافية لديها، إضافة إلى تحالفات إقليمية ودولية تسند هذا النفوذ أو تقبله وتجد فيه دعماً لاستقرار النظام الإقليمي أو الدولي. 

ولكن الإيرانيين اندفعوا في سياسة توسع النفوذ دون توفر أي من هذه الشروط. نظرت الأغلبية في الإقليم إلى إيران باعتبارها قوة خارجية معتدية، وأن نفوذها في سوريا ولبنان والعراق واليمن يخدم مصالح أقلية صغيرة، بينما يستبيح مقدرات وحرمات الأغلبية. وباستثناء روسيا، التي لا تتمتع بدور رئيسي على مستوى العالم أو المشرق، لم تجد السياسية الإيرانية من حليف إقليمي أو دولي واحد يدعم أهدافها أو ينظر إليها بأي قدر من الإيجابية، اللهم إلا إن اعتبر المالكي والأسد حلفاء جديرين بالثقة والاعتبار. 

تبنت طهران لتبرير تدخلها، وتدخل حزب الله في سوريا، خطاب حماية المقاومة وحماية سوريا باعتبارها خط الدفاع الأول عن المقاومة، في مواجهة مؤامرة كونية من التكفيريين والسعودية وقطر وتركيا وأمريكا. وعاد الخطاب الإيراني خلال الشهور القليلة الماضية، سيما بعد انطلاق عاصفة الحزم، إلى تصعيد لغة الهجوم على السعودية وحلفائها، واتهامهم بتنفيذ مخطط أجنبي. ولكن لم يتبرع أحد في طهران حتى الآن لتبرير التدخل الإيراني في العراق أو اليمن، وما إن كان التحالف غير المكتوب مع الولايات المتحدة في العراق، أو التحالف مع الحوثيين وعبد الله صالح، أحد عتاة الاستبداد والشراكة مع القوى الغربية، يتوافق مع المشروع المقاوم.

ثمة خلافات جيوسياسة تزداد حدة بمرور الأيام بين طهران، من جهة، وأنقرة والرياض من جهة أخرى. وبتصاعد حدة هذا الخلاف، يمكن لأي من أطرافه استخدام اللغة التي تحمي ظهره وتسوغ سياساته، حتى إن كانت هذه اللغة مليئة بالمتناقضات والادعاءات غير الصحيحة. 

ولكن مشكلة إيران الحقيقية ليست مع السعودية وتركيا وقطر. مشكلة إيران اليوم مع شعوب المنطقة، وهذه المشكلة لا تزداد إلا تفاقماً. إن لم تستطع طهران رؤية هذا الوضع، فلا بد أن هناك مشكلة كبرى في تقديرها للموقف. هذا الانفضاض الشعبي واسع النطاق عن السياسة الإيرانية، أو العداء الصريح لهذه السياسة، قبل أي شيء آخر، هو الذي يجعل مشروع التوسع الإيراني في المنطقة نوعاً من العبث قصير الأجل. 

لا يحمل الشارع سلاحاً، بالطبع، ولابد أن هناك في طهران من يقول إن الجماهير العربية لن تغير شيئاً في ميزان القوى. على هؤلاء أن يروا كيف انقلب المزاج الشعبي العربي تجاه السعودية خلال أسابيع قليلة فقط. أثارت السياسة السعودية تجاه الثورات العربية ردود فعل بالغة في الشارع العربي. ولكن، وما إن قررت السعودية التصدي لمحاولة طهران وحلفائها السيطرة على اليمن، حتى اصطف الشارع العربي خلف الخطوة السعودية. 

تورطت إيران منذ بداية العقد الأول من هذا القرن في العراق ولبنان وسوريا واليمن، ونجحت ببراعة تحسد عليها في الانتقال بأزمات هذه البلدان إلى الحروب الأهلية والصراع الطائفي، ولم تزل غارقة إلى أذنيها في أزمات هذه البلدان في مواجهة بحر هائل من العداء الشعبي. وتعلم الدول والقوى التي تبادر الآن لمواجهة مشروع التوسع الإيراني أنها تتمتع بغطاء وتأييد شعبين. 

في مواجهة هذا كله، سيكون من السذاجة الاعتقاد بأن هذا المشروع سينجح في تحقيق أهدافه. ولكن الأسوأ أن ارتداد مشاريع التوسع الإمبراطوري على الدول هو دائماً باهظ التكاليف.