مقالات مختارة

لمصر لا للسيسي

1300x600
من عناوين جريدة الأهرام الثلاثاء (16/5) ما يلى: الرئيس يطمئن من وزيرى الكهرباء والتموين على الاستعدادات لرمضان ــ التعليم والصحة والفساد أولويات السيسى ــ السيسى يؤكد أهمية ضمان وصول السلع بأسعار مناسبة لجميع المواطنين ــ والسيسى يوافق على تسوية مشكلات الفلاحين المنتفعين من الإصلاح الزراعى ــ 89.8 بالمئة راضون عن أداء السيسى (فى أحدث استطلاع للرأي العام) ــ السيسى يقرر مد العمل بمعبر رفح اليوم وغدا ــ نقطة تقدم: حصاد عام فى حكم الرئيس السيسى.

فى اليوم ذاته، نشرت جريدة «المصرى اليوم» رسالة فى الزاوية اليومية التى تحمل عنوان «وجدتها»، قال فيها صاحبها ما نصه: 

من يشبه السيسي بعبدالناصر فإنه في الحقيقة يظلم الرئيس السيسي كثيرا. فالسيسي بشكل عام رجل يتسم بالعقلانية الشديدة والصوت المنخفض الذى ينم عن شخص يفكر بأكثر مما يتكلم، وهو يتناول قضية التحرر الوطني واستقلال القرار بكل هدوء وحنكة سياسية وواقعية، مع تجريد للذات من ادعاءات البطولة الزائفة. 

أما عبدالناصر، ومن أجل تضخيم ذاته والتباهي بزعامته، فقد تناول القضية بكل عنجهية وصوت عال وشتائم، وبمراهقة سياسية واضحة واستخفاف غريب بمصلحة وطنه وشعبه.. إلخ.

عناوين الأهرام هي التي تقلقنا، في حين أن الرسالة التي نشرتها المصري اليوم تعبر عن وجهة نظر شخصية وجدتها الجريدة جديرة بالنشر، ولا أعرف ما إذا كانت سترحب بنشر وجهة النظر الأخرى التي قد يرى فيها البعض أن المقارنة تظلم عبدالناصر وليس السيسي!

ذكرني ما وقعت عليه صباح أمس بما قرأناه في تاريخ الفراعنة، حين كان الفرعون الذى يتبوأ منصبه يمحو تاريخ سلفه المدون على المسلات، لكى يلغى ما سبقه ويبدأ التاريخ به وحده. وكنت قد سمعت رأيا في الموضوع من الدكتور عبدالعزيز كامل أستاذ الجغرافيا السياسية الذى شغل منصب وزير الأوقاف يوما ما، خلاصته أن الأهرامات الثلاثة التي نطالعها الآن تعد رمزا لفردية الحاكم في مصر، التي تنفر من فكرة التواصل مع من سبقه أو نهج الفريق الذى يحتمل وجود آخرين إلى جواره، ذلك أن كل فرعون رفض أن يدفن إلى جوار سابقه، وأراد أن يبني لنفسه هرمه الخاص الذى يميزه عن غيره. إذ حين يقدم بحسبانه «الملك الإله صانع المطر وحارس النماء»، فإن مقامه الرفيع يقتضي ألا يكون له شريك، ويتعين دفنه في هرم خاص به. 

وللدكتور جمال حمدان في مؤلفه الكبير «شخصية مصر» تأصيل وتحليل لشخصية الفرعون ومركزيته الشديدة في التاريخ المصري، وفيه ربط بين طغيان الفرعون ومركزية الإدارة، وبين طبيعة المجتمعات الفيضية، التي تعتمد في مياهها على الفيضان الذى يغذي شبكات الري التي يتحكم فيها الفرعون، ولأن ذلك يمكنه من أن يحبس المياه أو يطلقها، فقد اعتبر آنذاك واهبا للحياة والموت.

مما يروى في هذا الصدد، نقلا عن رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، أنه التقى الرئيس الأسبق حسني مبارك أثناء زيارة قام بها للقاهرة. وفى ختام الزيارة أراد أن يعبر عن تقديره وإعجابه بوزير الخارجية المصري آنذاك السيد عمرو موسى، فقال له إن أداء الرجل يشرف مصر والعرب. حينذاك استوقفه مبارك على باب غرفة الاستقبال، وقال له: إذا تصورت أن عمرو موسى يتحرك بغير توجيه مني فأنت مخطئ، في إشارة إلى أن الرجل لم يسترح لأن الحريري امتدح عمرو موسى، حيث كان يفضل أن ينفرد هو بالمديح دون أحد من مساعديه.

من خبرة العمل في الصحافة طوال نصف قرن، أزعم أن وسائل الإعلام بالمديح والتلميع والأضواء والإلحاح اليومي يمكن أن تفسد أي مسؤول، حتى إذا كان من أولياء الله الصالحين. وأعرف أن من الرؤساء من كان يستشيط غضبا إذا لم تبرز أخباره وصوره في الصحف كل صباح بعدما اعتاد على ذلك. وأعرف أن الأهرام في سنوات مجده عاقب أحد رؤساء الوزراء ذات مرة بمجرد حجب اسمه عدة أيام، حتى استشاط الرجل غضبا، وكاد يموت حسرة وكمدا.

حتى إذا كان تكثيف الأضواء على الرئيس في حزمة الأخبار المنشورة مجرد مصادفة، فإن الرسالة التي يتلقاها القارئ من خلالها، أن لا شيء يتحرك في البلد إلا بموافقة السيسي أو توجيه منه. ذلك أنه بقدراته الخارقة أحاط في يوم واحد بملفات الكهرباء والتموين والتعليم والصحة ومشكلات فلاحي الإصلاح الزراعي، وقرر مد العمل بمعبر رفح ليومين آخرين. 

وهذه الرسالة ليست استثنائية؛ لأنها تعبر عن توجه ملحوظ في الخطاب السياسي والإعلامي سابق على مناسبة مرور عام على انتخاب السيسي رئيسا. ذلك أن ثمة سيلا من التحليلات والبرامج التليفزيونية التي ما برحت تلح على أن مصر ولدت من جديد، وأن مصيرها بات معلقا به، وأن البلد بغيره ينتظره مصير أسود. إذ سيخرج من التاريخ، وربما من الجغرافيا أيضا.

لا أحمل الرئيس السيسي المسؤولية عن ذلك. لكنني لا أبرئ البطانة وإدارات التوجيه المعنوي. ولا اعرف رأيه في ذلك الأسلوب، لكنني أعرف أنه يستطيع أن يوقفه إذا أراد، مثلما أوقف بعض مظاهر النفاق الأخرى. أعرف أيضا أنه بشر، يسرى عليه ما يسرى على بقية خلق الله من سمات القوة والضعف. إننا نحلم بمصر دولة المؤسسات، وليس بمصر السيسي.. وإذا فعلها، فإنه سيدخل التاريخ من أوسع أبوابه، وبغير حاجة إلى تهليل الإعلام أو تدليسه.




(نقلا عن صحيفة الشروق)