قضايا وآراء

عن أي مستقبل يتحدثون؟!

1300x600
في لقاء تلفزيوني لأستاذ في العلوم السياسية، وقد شمر عن سواعده وارتدى قميص (كاجوال) وأبرز العضلات، وأخذ يتحدث مع المذيعة الحسناء على إحدى القنوات المصرية الخاصة، في حوار طويل ومعزوفة فردية في وصلة الإشادة بالقيادة التي تأخذ البلاد للأمام، وكيف أنها استطاعت أن تقنع جموع الشعب المصري وخاصة البسطاء على استثمار أموالهم في مشروع القناة الجديدة، وهذا دليل أننا لنا الآن قيادة بغض النظر عن المشروع ذاته أو جدواه الاقتصادية في كلام إنشائي رائع بلا عمق أو تحليل؛ ولكن الرسالة التي صمم عليها الضيف والمفترض فيه أنه أكاديمي وتعلم في الخارج هي أننا عابرون لمستقبل ولا أروع، ومن يخالف أو يشكك في هذا التصور، هو حاقد شرير وغير وطني ولن نستوعبه وليس له مكان!!!

وفى نهاية الحديث العاطفي الجميل الذى يأتي في إطار التسويق للإنجازات الحالية لحكومة محلب واستشراق مستقبل البلاد في ظل القيادة الملهمة التاريخية الموجودة، أننا أمام إنجازات تماثل السد العالي وقناة السويس الأولى. 

وهنا سألت نفسي في لحظة تعجب.. عن أي مستقبل يتحدث هؤلاء؟!

وكنت أطمح أن أستفيد شخصيا بتحليل علمي لجدوى المشروع الذى يتم الترويج له وكيف يتم تسويقه كالسد العالي وكلمة السر في عقلي هي سد النهضة والخوف الذى يسيطر على كل عاقل من تصور مستقبل بلادنا في ظل النقص الشديد في المياه ومخاطر التصحر الكارثي، الذى يهدد مستقبل وحاضر أجيال بكاملها... ولذلك عن أي مستقبل يتحدث هؤلاء؟!!

ألم يقرأ هذا الأستاذ الجامعي عن تقارير المنظمات المدنية داخليا أو خارجيا والتي وصفت التعامل مع المجتمع المدني وخاصة الشباب بأنه تعامل (كارثي)؛ ففي التعقيب على تقريرها الأخير لعام 2015 وصفت سارة ليا وطسن المسؤول التنفيذي لمنطقة الشرق الأوسط في منظمة هيومن رايتس ووتش ممارسات النظام المصري ضد المصريين وقالت: "ممارسات النظام المصري ضد المصريين تدفع الشباب إلى الالتحاق بتنظيم الدولة الإسلامية، وسياساته الخاصة بغلق المجال أمام المنتمين إلى تيار الإسلام السياسي توجه رسالة كارثية شبيهة بما تروجه منظمات متشددة بينها (داعش) وتنظيم القاعدة، مفادها أن العنف هو الحل".

وفى متن التقرير أشارت منظمة هيومن رايتس ووتش إلى أنه لتثبيت حكم النظام الحالي يكسر أجيال من الشباب.

ولنترك منظمة هيومن رايتس ووتش (الإخوانية) كما يطلق عليها العديد من رجال الشرطة ممن يصدحون في القنوات المصرية ليل نهار، إلى الفريق العامل بالاعتقال التعسفي لدى الأمم المتحدة والذى أصدر مؤخرا قرار رقم 17/2015، والخاص بالاعتقالات التي تقوم بها السلطات الأمنية المصرية بحق الأطفال، وخلص القرار بعد اطلاع فريق الاعتقال التعسفي بالأمم المتحدة على قضية اعتقال القاصر الطفل أحمد طه، البالغ من العمر 16 سنة وقضايا أخرى مماثلة، وبعد أن نظر في ردود الحكومة المصرية على هذه القضايا، إلى أن "الاعتقال التعسفي لأشخاص قاصرين ممارسة نظامية واسعة الانتشار" وطالب السلطات المصرية "بالإفراج عن القاصر وتعويضه بما يتناسب وحجم الضرر الذي لحقه".

وبحسب فريق الاعتقال التعسفي، فإنه يقدر عدد الأطفال الذين تم اعتقالهم منذ أحداث 30 يونيو 2013 وحتى نهاية مايو 2015 بأكثر من 3200 طفل تحت سن 18 عاما، ما زال أكثر من 800 منهم معتقلين جلهم تعرضوا للتعذيب والضرب المبرح بداخل مراكز الاحتجاز المختلفة.

والأخطر من منهجية النظام في سجن القُصّر وانتهاكهم جسديا ونفسيا هو ذلك المنهج القاسي في كسر كل المعاني والقيم في عقول وقلوب أطفال مصر هؤلاء الغرس الأخضر وإن نبتت لحاهم.

ويحكي كثير من هؤلاء كيف يتعرض للضغط الأمني، ولينجو من هذا الجحيم لا بد أن يتحول إلى مخبر سري ومرشد حتى يخرج من محبسه أو ليرى أهله مره ثانية.

يقول الكاتب روجي جارودي في كتابه كيف نصنع المستقبل: إن المستقبل يصنع وصناعته حرفة تتطلب العديد من التجارب والخبرة ولا يجب ترك الأمر للصدفة. ونحن من زمن تركنا الحرف وتبعنا العشوائية ولم نستحضر من عقود مشروعا وطنيا مستقلا لنتبعه.

وصناعة المستقبل وكل المستقبل هو هؤلاء الأطفال والشباب ممن يتم انتهاك أبسط حقوقهم بل وحقهم الأساسي في الحياة والكرامة.

حين تجد شباب الجامعات يتم خطفهم من حرم جامعاتهم ويتم تصفيتهم كواقعة خطف طالب الهندسة إسلام عطيتو وغيره من الطلاب. 

فعن أي مستقبل نتحدث؟!!!.

نعم نحن في أمسّ الحاجة للبحث عن المستقبل والتطلع للغد؛ ولكن البحث عن مستقبل والتخطيط للغد لا يمكن أن يكون بمعزل عن اليوم الذى نعيشه، بل والأمس الذى عشناه، ومن لا يتعلم من الأمس القريب ليس من المنطقي أنه سيحصد حصادا آخر في موسم الحصاد.

علم بناء المستقبل يتطلب أن ننفض عنا غبار الأمس واليوم ورائحة الدم والموت والمهانة وانتهاك الحقوق والحريات.

الحديث عن الغد يوجه للغد لزهرات وشباب مصر لما يقارب 20 مليون وهم تعداد الشباب المصري بحسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.

الحديث عن المستقبل لا يجوز وغير متصور مع عقليات لا تملك القدرة على الابتكار أو الحوار أو الإرادة للزراعة في حقل المجتمع المدني، ولا تجيد الحديث السياسي وأدواته، هذا الحقل المهدد بطاعون التصحر المادي والمعنوي حيث لا ماء ولا نماء.

نعم نريد مستقبل وتعلمنا من الأمس والماضي البعيد والقريب أننا لن نعبر للغد إلا عبر بوابة الحرية لبناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة لا تحكمها نخبوية أو طائفية ولا عسكرية.

وغدا يوم آخر ومستقبل أكثر تحررا وإبداعا.