أفكَار

الجابري جزائريا وأركون مغربيا.. جدل التراث والسياسية (1من2)

قراءة نقدية في فكري الراحلين المغربي محمد عابد الجابري والجزائري محمد أركون (عربي21)
قراءة نقدية في فكري الراحلين المغربي محمد عابد الجابري والجزائري محمد أركون (عربي21)

مر عقد كامل على رحيل المفكر والفيلسوف المغربي الدكتور محمد عابد الجابري (27 كانون أول/ ديسمبر 1935 ـ 3 أيار/ مايو 2010)، ولا يزال سؤال النهوض الفكري العربي الذي اشتغل عليه الجابري في حوالي 30 مؤلفاً في قضايا الفكر المعاصر، يؤرق المفكرين والساسة العرب والمسلمين.

يعتبر مؤلف "نقد العقل العربي" الذي تمت ترجمته إلى عدة لغات أوروبية وشرقية، أهم إرث معرفي للجابري، الذي حاول فيه تقديم قراءة معاصرة للتاريخ الفكري والديني والسياسي في العالم العربي.. وعلى الرغم من أنه ليس الوحيد الذي اشتغل على التراث، إلا أن جرأته ووضوحه فضلا عن خلفيته العلمية المركبة جعلت من قراءته للتراث نموذجا متميزا..

"عربي21"، تفتح بمناسبة الذكرى العاشرة لرحيل الدكتور محمد عابد الجابري، حوارا فكريا حول الإرث الفكري والفلسفي له، وأيضا حول الملفات التي اشتغل عليها وعلى رأسها مفهوم الكتلة التاريخية.

اليوم يستعرض الكاتب والإعلامي الجزائري حسان زهار، في هذا التقرير الخاص بـ "عربي21"، وننشره على جزأين، مع عدد من مفكري الجزائر، الإرث الفكري للراحل محمد عابد الجابري من زاوية المقاربة مع أطروحات الراحل المفكر الجزائري محمد أركون..

"بين نقد العقل العربي" و"نقد العقل الإسلامي"

تزداد أهمية إعادة طرح المقاربة الأركونية للتراث، في مقابل المقاربة الجابرية، أو المقاربة بين "نقد العقل العربي" التي جعلها محمد عابد الجاري، هدفا له من أجل (إنقاذ هذا العقل العربي) من سطوة التخلف، وبين "نقد العقل الإسلامي"، التي ربما أراد من خلالها محمد أركون، أن (يغرق هذا العقل الاسلامي) في ظلام الإلغاء، بغرض التجديد وفق أدوات الآخر، تزداد هذه الأهمية كلما مضى زمن على رحيلهما، وقد شاءت الأقدار، أن يكون رحيل المفكرين العربيين في فترة زمنية متقاربة، علاوة على كونهما من جيل واحد تقريبا، بعد أن تمكنا كل على طريقته ومنهجيته الفلسفية أن يكونا ظاهرة فكرية مغاربية ضخمة، وأن يتربعا على عرش ريادة الفكر العربي المعاصر، كل بأدواته الخاصة ومنطلقاته وخلاصاته وأهدافه، وقد برز بشكل واضح مجال الخلاف بين المفكرين في موقف الرجلين من التراث الإسلامي وآليات التعامل معه أو الاستفادة منه.

 



لقد أصر محمد أركون على اتخاذ مناهج البحث الغربية، وسيلته للوصول إلى ما يراها حقيقة، وقد اتخذ لذلك مراحل مختلفة مثل النقد الألسني والتاريخي والأنثربولوجي والفلسفي.. من دون أن يمايز بين النصوص / فالقرآن كما أي منتج ثقافي في عصره، يخضع لنفس منهجية البحث التفكيكي لبنية النص، بغرض استنباط سر تكون سلطة التراث.. وهو ما يحيل إلى مخاطر جمة، لعل أبرزها الضرب في أسس العقيدة والخلط بين ماهو إيماني وما هو علمي.

ويعتقد أركون أن العقل الاسلامي الحالي هو نتاج فهم الأوائل/ السلف للنص القرآني، وأنه لا توجد طريقة أخرى لتغيير وجهة هذا العقل الا بتغيير معنى النص وفهمه حداثيا.

في حين يغرف الجابري من المنهج "الإبستمولوجي"، رافضا التعرض للنص المقدس بالطريقة الأركونية الصادمة، فالعقل عنده لم يكن جوهرا في حد ذاته، ولذلك فهو ارتأى أن يعمل على إعادة تشكيل العقل العربي عبر انتقاء العناصر الجيدة من التراث، في حين يرى أركون أن التراث بمجمله، متهافتا ومشوها وقاصرا على مواكبة الحداثة.

وبينما ينحو الجابري نحو تأصيل الأصول واستنباط الجوانب المضيئة في تاريخنا الإسلامي، من خلال إعادة فهمه، يظل قلب المشروع الأركوني هو الحضارة الغربية المسيحية باعتبارها "حتمية تاريخية"، ومحاولة اخضاع الثقاقة والحضارة الاسلامية لهذه "الحتمية"، وتطبيق جميع شروطها عليها.

لقد ظل الموقف من التراث نقطة الخلاف الجوهرية بين المفكرين العرب عموما، وبين أركون والجابري تحديدا، من حيث كونه إما ميراثا بائدا يعترض عمليات التجديد والنهوض، بما يمثله من سلطة تدمير للعقل العربي، أو كونه موروثا حضاريا يشكل الارتكاز عليه ضمانة حقيقية لصون الهوية الإسلامية وحماياتها من الاغتراب والتفسخ.

 



وبدا جليا، أن المشروع الأركوني بطابعه التاريخي الأنثربولوجي، يرتكز على أرضية علمانية، ورفض حدي للأديان، بمنطلقات لغوية فرنسية (معظم كتبه باللغة الفرنسية أو الأنجليزية)، بل بمفردات دينية مسيحية أحيانا (اعتباره أهل السنة والجماعة بالأرثوذوكسية الإسلامية).. الأمر الذي أدى به إلى الاعتراف صراحة إلى وجود مصاعب ثقافية ومعرفية تعقد من عملية تواصله مع  الجمهور الإسلامي،  بينما يرتكز المشروع الجابري على أرضية إسلامية، من منطلق التسليم الكامل بوجود هوية عربية ذاتية، قادرة على النهوض دون الحاجة إلى مرجعية الآخر .

النقد التاريخي للنص

من القضايا الأكثر إثارة للجدل عند المفكرين، موضوع النقد التاريخي للنص القرآني، وقد جلب أركون لنفسه خصومات هائلة في الجزائر كما باقي العالم العربي، منذ أن جهر بأن القرآن محرف بسبب أن النقل غير مؤتمن، محاولا التمييز بين ما هو نص إلهي وهو النص الشفاهي أثناء نزوله على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وما هو نص مدون (المصحف)، والذي هو برأيه نتاج للبيئة الثقافية.. وهو لذلك يقول صراحة "كنت قد حاولت أن أزحزح مسألة الوحي من أرضية الإيمان العقائدي (الأرثوذكسي) والخطاب الطائفي التبجيلي الذي يستبعد الآخرين من نعمة النجاة في الدار الآخرة لكي يحتكرها لجماعته فقط".
  
في حين لا يتلفت الجابري لمثل هذه الأمور، لاعتقاده أن النص الإسلامي (القرآن)، يختلف كلية عن النص المسيحي أو اليهودي (الإنجيل والتوراة)، التي تفاوتت فيها الفترات الزمنية التي كتبت فيها، واختلفت فيها المصادر والأيادي التي كتبت تلك النصوص.

إن محاولة إثبات تاريخية النص التراثي عند أركون، وتحديدا النص القرآني، وجعله خاضعا للشروط التاريخية، بغرض نقده أو نفيه بالأساس، هي نفسها عملية النقد العميق والعرفي التي قادها حول مفهوم التأصيل بحد ذاته، مسجلا على الحركات الأصولية عجزها على تجديد الفكر والتأويل المبتكر كما حصل مع الشافعي والشاطبي، بينما الهدف الأكبر ـ ربما بتأثير الفكر الاستشراقي ـ هو إثبات فشل ومشروعية القوانين الالهية، بغرض تحرير العقل الإسلامي منها ومن سلطة التراث برمته، واستبدالها بمشروعية بشرية أرضية علمانية صرفة.
  
بينما يعتمد الجابري النقد بطابعه الكانطي، عندما يتوجه لنقد التراث، عبر تحرير قارئ النص المعاصر من قيود التأويلات التقليدية القديمة، بحيث لا تكون هنالك هذه الهوة الواسعة بين قراءة النص وقراءة الواقع، والتي يجسدها عادة حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، في غياب أي شكل من أشكال الاستيعاب الحداثي الذي يمكنه أن يجعل النص عامل تحريك في واقعنا وليس عامل تثبيط وخمول.

أركون يفكر داخل النسق الاستشراقي الفرنسي

يعتبر الباحث الجزائري في فلسفة الديان، الدكتور موسى معيرش، أن الحديث الآن عن قامتين بحجم أركون والجابري يؤكد أنه لم تعد المشاريع الفكرية العربية مقتصرة على بلاد المشرق العربي، بل إنها توسعت لتشمل بلداننا المغاربية، وهي مشاريع في عموميتها تحاول فهم الماضي وإعادة إنتاجه، نقدا وتحليلا، سواء بهدف القضاء على هذا الماضي بما يمثله، واستبداله بمشاريع قيمية وفلسفية جديدة، تنطلق من قيم الغرب الفلسفية المختلفة، أو إعادة رسكلة هذا الماضي وبعثه، والاستفادة منه.
 
ولعله من المفيد ـ يضيف الدكتور موسى معيرش ـ أن نشير هنا لمشروعي: محمد عركون (أركون) ذي الأصول الجزائرية، والمغربي محمد عابد الجابري، فقد عمل الرجلان على تقديم مشاريع فكرية متكاملة فكريا، غير أن الاختلاف بينها واضح، وإذا رغبنا في إبراز الاختلافات المميزة لكل مشروع، فيجب أن نفهم من البداية، أن هذه المشاريع وإن كان الهدف العام منها واحد، وهو إعادة بعث العقل المسلم ليحل محله في عصر لا يعترف إلا بالمسيطر على أدواته المختلفة، الفارض لوجوده، فإن هناك عوامل موضوعية جعلت لكل مشروع خصوصيته، نذكر منها:

أولا ـ البيئة التي نشأ فيها الرجلان مختلفة، فأركون وإن كان قد ولد وعاش وترعرع في الجزائر، إلا أن ثقافته فرنسية، متشعبة بفلسفة الآباء البيض التبشيرية، وقد تنبه المؤرخ أبو القاسم سعد الله في مذكراته لهذا الأمر عندما عاد من الولايات المتحدة الأمريكية ووجد الصراع على أشده بين النخب الجزائرية، ولاحظ أن أركون تخندق ضمن التيار القريب إليه فكريا، قبل أن يلتحق بفرنسا، حيث برزت عقليته التحليلية النقدية، في حين أن محمد عابد الجابري ثقافته عربية، فهو ابن منطقة صحراوية (لفقيق) لم يستقر فيها الأباء البيض، وتلقى دروسه الأولية بكتاتيبها، وسمحت له هذه اللغة من الولوج إلى مصادر التراث العربي الإسلامي بمختلف مشاربه.

ثانيا ـ عدم قدرة أركون على فهم اللغة العربية جيدا، جعلته أسيرا للنظرة الاستشراقية الغربية بعامة والفرنسية بخاصة، ولهذا نجد الرجل يردد مقولات هذه المدرسة ولم يقدر على التحرر منها، وهو بالتالي يفكر داخل النسق الاستشراقي وليس خارجه، ولا يمكنه من ثم اتخاذ مواقف خارج هذا النسق، وهذا ما جسدته كتاباته المختلفة، وإن كان موضوعها متعلق بالعقل المسلم والعربي، فلغتها فرنسية ومنهجه كذلك، ولو أننا نزعنا اسمه عن هذه الكتابات ووضعنا بدلا عنه إسما لمستشرق فرنسي لما أحس أحد بذلك، ولما فكر أحد أنها لمفكر اسمه محمد.

الجابري أكثر قدرة على فهم التراث

وحول سؤال عن مدى تأثير فكر الرجلين الكبيرين أركون والجابري في الحركة الفكرية العربية المعاصرة، يؤكد الدكتور موسى معيرش في حديثه لـ"عربي21"، أن ما تركه الرجلان في الفكر العربي والإسلامي، كان تأثيرا كبيرا وكبيرا جدا، فقد صار لهما أتباعا، وكتبت حولهما عشرات الأعمال والأطروحات، ومئات المقالات، دفاعا ونقدا، وساهم كل منهما في دفع الحركة الفكرية مغربا ومشرقا، غير أن الفارق أن كتابات أركون استفادت من عامل اللغة، فقد كتبت بالفرنسية، وترجمت للعربية، ولهذا فجمهوره في الغرب متواجد بكثرة، فضلا عن المثقفين العرب، خلافا للجابري الذي كتب باللغة العربية، وبقيت أعماله محصورة في العارفين بهذه اللغة فحسب، رغم عمق فكره، وسعة اطلاعه، ولو كتب لها أن ترجمت هذه الأعمال كاملة لربما ذهب أبعد من ذلك.

 



ويعتبر الدكتور موسى معيرش أن مشروع أركون يختلف عن مشروع الجابري، فالأول يحلل التراث الإسلامي لينتقده، ويبين عجزه، ولهذا نجده يركز على التراث الإسلامي، والعقل المسلم، ومن هنا يظهر أن هذا المشروع هو امتداد لمشاريع المستشرقين الغربيين بعامة والفرنسيين منهم بخاصة، مهما حاول التخفي والاختباء وراء المنهج العلمي الموضوعي، في حين أن الجابري باحث عن ما يراه حق، ويسعى بقوة نحو بناء مشروع فلسفي عربي، من شأنه أن يخلق التميز وليس الانتماء والتبعية، فهو لا يرى قصورا في هذا العقل، ولكنه يرى أنه يحتاج إعادة بناء، حتى يتمكن من مراعاة العصر المعيش، وهذا  مما يبرر مشروعه النقدي الكبير للعقل العربي، ولهذا نجده يبحث في الأداة وليس في الأفكار محاولا تجاوز الأيدولوجيا، دون أن يهمل إشكالية التفكير بواسطة ثقافة ما، فهو يستبعد مضمون الفكر أي ما يسميه الآراء والنظريات، ويحاول التركيز على المجال الإبستمولوجي وحده.

ولهذا أستطيع القول إن أركون رغم لغته الفرنسية، وانتشاره في الغرب وفي البلاد العربية بحكم الترجمات، فهو أقل انفتاحا وقدرة وحضورا في فهم التراث العربي الإسلامي، وعلى العكس من ذلك الجابري.

التعليقات (1)
mgmr bs'tlh
الأربعاء، 13-05-2020 06:02 م
إن الحديث عن اشكالية التراث وكيف يجب التعامل معه ،ليس من قبيل الامور التي يسهل التعامل معها والكتابة فيها بسهوله ،لان كمية التراث ونوعيته هما اساس كل نبية نقدية في هذا المجال ،وبإعتبار التراث الاسلامي غني جدا ويمتد على رقعة زمنية طويلة ،فهو إذن ليس بالكم الذي يمكن التحكم فيه ،ضف لد=هذا التوسع الزمني التوسع الجغرافي البشري ، فهذا التراث قد جاء فعلا بلسان عربي مبين ،ولكن مصادره البشرية ،جاءت من اقطار شتى ،ولذلك ،فإن من يدعي انه قد احاط علما بكل كدا الكم والكيف في تراث المسلمين ، هو إدعاء لا اساس له من الناحية العلمية اولا ولا من الناحية الدينية ثانيا ولا من الناحية الفكرية ثالثا. ولذلك فان ما قام به المرحوم محمد عابد الجابري ،هو من قبيل محاولة إعادة الاعتبار لهذا التراث ،امام الهجمات الوقحة التي قام بها المستشرقون ،والذين لم يكن عملهم بدافع علمي ،بل كان بدافع محاولة هدم الاسلام من الداخل ،كما دلت على ذلك ،بعض النصوص التي كشفت مؤامراتهم وكيدهم.ويبقى هذا المشروع للجابري خطوة اساسية وجبارة في محاولة الإحاطة باساليب الدفع التي يجب ان يعمل وفقها ،من اجل ان يرتفع المفكرين إلى مستوى يليق بالبحث في الفكر الاسلامي عامة . اما هذا الشبه مفكر ،اركون فهو عندي مركون في زاوية المهملات ،لانه لم يكن سوى ببغاء ،يردد ما قاله سفلة المستشرقين في الغرب ،وكان عبارة عن موظف لدى الجماعات الحاقدة على الاسلام لا غير. وما لا يعرفه الناس عنه ، انه كان في الظل وخارج ما ينشر له ،عاملا بشكل رهيب من اجل افساد العقيدة عند ضعفاء الإيمان ،وعند غير المسلمين ،كان يسعى ان يقيم بينهم وبين الاسلام، حاجزا من الاغاليط ولاكاذيب،ولذلك فهو ليس صاحب مشروع ،ولا يمكن ان نقول عنه انه مفكر .
الأكثر قراءة اليوم