كتب

تاريخيّة الدعوة المحمدية في مكّة المكرمة.. رؤية هشام جعيط

بهجرة الرسول إلى المدينة انطلق تكوين الأمة وانتصر الإسلام وعم الحجاز ثم انتصر شرقا وغربا
بهجرة الرسول إلى المدينة انطلق تكوين الأمة وانتصر الإسلام وعم الحجاز ثم انتصر شرقا وغربا

الكتاب: "في السيرة النبوية 1: تاريخيّة الدعوة المحمدية في مكّة"
الكاتب: هشام جعيط
الناشر: دار الطليعة ط 1بيروت، لبنان، 2007 
عدد الصفحات: 352 صفحة


يناقش هشام جعيط في مستهل الجزء الثاني ثلاثيته السيرية المصادرَ المختلفة وإمكانية الإفادة منها في ظلّ عسر التّحقّق من الأعلام المذكورة في الأسانيد من جهة فترات عيشهم وصلة بعضهم ببعض أو بكيفية تمييز التاريخ الذي ينقل الوقائع عن المبالغات التي تميل إلى الخارق والأسطوري. ويبدي تحفظاته إزاء تعامل المؤرخين العرب والمسلمين مع مصادر "شتى من كل نوع وشكل" دون تحقّق ف"قليلا ما نجد هذا الهمّ النقدي عند مؤرخينا، حتى الكبار منهم، بحيث ينزعون إلى تصديق أي خبر فاه به مصدر قديم أو متأخر". 

وبالمقابل يمكن للقرآن سواء صدقنا به، كما الأمر بالنسبة إلى المسلمين أو لم نصدق به كما الأمر بالنسبة إلى غير المسلم أو غير المؤمن أن يسعفنا بالمعلومة. فهو منغمس في تاريخية الدعوة " ليس لأنه يعطي تفاصيل عن الأحداث بل لأنه بثبتها، فيجعلنا نتحقق من وجودها، فيغدو تصوّر مسار محمّد أمرا ممكنا بالنسبة إلى المؤرّخ وليس ضربا من الخيال".

1 ـ الأنتروبلوجيا التاريخية مدخلا لفهم الرسالة

وحتى يفهم نشأة الرسالة يصدر عن مقاربة أنتروبولوجية تاريخية.. فيتساءل: لماذا ظهرت النبوة مع محمد دون غيره وفي ذاك الزمن وذاك الوسط بالذات؟ ومن تكون قريش التي أنجبت محمدا وثلة من الصحابة لتأسيس منظومة قيم عالمية وإمبراطورية وحضارة بأكملها؟ فيدرس العوامل الثقافية والأسباب الموضوعية. ونحتاج لنفهم تصوره هذا الذي يربط النبوة بطبيعة شخصية محمد وتطلعاته وقدراته النفسية أكثر مما يجعلها قدرا مقضيا أن نعود القهقرى إلى أثره "في السيرة النبوية 1: في الوحي والقرآن والنبوة". فنذكّر بفهمه المخصوص للوحي باعتباره "جدلا بين أعماق الضّمير المحمدي، وهو الإله الدّاخلي، وبين الإله الخارجي فيما وراء العالم" وربطه لانبلاجه بمدى قدرة النبي على الانخراط في هذا العالم الروحاني.

 

لماذا ظهرت النبوة مع محمد دون غيره وفي ذاك الزمن وذاك الوسط بالذات؟ ومن تكون قريش التي أنجبت محمدا وثلة من الصحابة لتأسيس منظومة قيم عالمية وإمبراطورية وحضارة بأكملها؟

 



يجد الإجابة في الوسط أولا، في اتسام المدن الغربية بخصائص الحضر والتجارة والفلاحة واختلاف الحياة الاجتماعية فيها جوهريا عن حياة الترحال والاقتصاد الرعوي دون قطعها مع قيم البداوة وهذا ما يجعلها "مكتسبة لهوية خاصة ـ أهل المدن ـ ومشاركة في آن واحد في الهوية العامة التي سبكتها البداوة". فالبادية هي الترحال المستمر فيما تعني المدينة الاستقرار في الفضاء الذي يمنح كل تجمع حضري هويته.ولمكة أهميتها الخاصة. فقد كانت تجمع بين سمات البادية بما فيها من الترحال المستمر والحاضرة التي تعني الاستقرار في الفضاء. وكانت مركزيتها الدينية تمنحها دور الوصل بين عالمين وتنظيم العروبة. ويجدها ثانيا في قدرة النبي ذاته على صنع التاريخ.

2 ـ العلاقات الاجتماعية بين سلطة القرابات والعنف النسقي

ولما كانت الجزيرة العربية لا تعرف منطق الدولة بعدُ، تلك المؤسسة التي تمتلك شرعية اعتماد العنف، ومازال الانتظام والهوية فيها يقومان على أساس مبدأ الدم، ظل الثأر عنفا نسقيا يوظف باعتباره أداة للردع ولحماية الأفراد حتى أنّ خلع الشخص من القبيلة يعني هدر دمه بشكل ما. ولهذا كله تأثير على هيكلة التنظيمات الاجتماعية القبلية وضبط التراتبية بين عناصرها، وتأثير على نشأة الرسالة بالنتيجة. فقد كان النظام بين العشائر يقوم على "البيت والعدد" أي على القوة المادية وكثرة أهل القربى والسلالة داخل العشيرة. 

وضمن هذه البنية الاجتماعية يربط هشام جعيط النبي بقريش من جهة القبيلة وبني عبد مناف من جهة العشيرة وبني هاشم من جهة السلالة. فقبل قرن من ولادة النبي كان قصي الجد سيد قريش، وكان يجمع بين سدانة الكعبة وحراستها والسهر على دار الندوة حيث تجتمع قريش للتداول والرفادة أي إطعام الحجيج وسقايتهم فجمع بين الوظائف السياسية والدينية ثم أوكلت الرفادة والسقاية والقيادة لعبد مناف الجد المباشر للنبي وللأمويين.
 
وكانت مكّة تشع على محيطها وتكسبه وحدة، صهرت التجارة البطون وغيرت القيم. فما عاد الشرف يقاس بالقدم في الجاه بقدر ما أضحى يحدّد بالثراء والقدرة على الفعل في المحيط. ولكنها لن تصل إلى درجة عليا في التحضر كما الشأن بالنسبة إلى مدنية أثينا اليونانية على سبيل المثال. فقد ظلت القبيلة المحدّد للدور في المجتمع وظل انتماء مانحا الحماية وموجبا للثأر. وضمن أفقها هذا ولد محمد ونشأ.
 
وبناء على فكره العقلاني النقدي في التعاطي مع المصادر يقدر جعيط أنّ القول بولادته سنة 570 قول خاطئ "لا يصمد أمام الفحص ". "وبالتالي رأيي أنّ محمدا بعث في الثلاثين أو حتى قبل ذلك ولم يولد إلا حوالي 580م ولم يعش إلا خمسين سنة ونيف". وضمن العشيرة وجد الحماية رغم تهويل كتب السيرة في تصوير الخطر الذي كان يحيق به من جهة وتهويل الأساطير من دور أعمامه تملقا لهم، شأن ما قيل حول حماية بني هاشم للنبي بعد اعتلائهم سدة الحكم والحال أنهم "سلالة مهمشة ضعيفة في تلك الفترة، ضعيفة في العدد وفي الثروة لكن لها شرف تليد جرّاء عبد مناف وقصي". 

 

كانت الجزيرة العربية أيام الدعوة، مهمشة تماما فاقدة لأي كيان سياسي أو محتلة مثل اليمن تعيش الفاقة والمجاعات. "ففي الحجاز، تصور لنا مصادرنا العرب في العمرة أو الحج يلتقطون شعر الحجيج بعد الحلق ليأكلوا قمله، وتدلل أشعار على هذه الظاهرة".

 



وضمن العشيرة وجد نموذج القيادة ممثلا في صورة الجد قصي. وظل الباحث يؤكد الفكرة نفسها في أثره "الفتنة جدل الدين والسياسة" مبرزا دور القرابات في إرساء الرسالة بتركيز وتكثيف كبيرين. فقد "قاما الواحد تلو الآخر بعد مرور قرن ونيف بأدوار تأسيسية ذات قيمة عليا، مع أنّ عمل محمد ذو بعد عالمي وبدور في زمنية لا تنتهي، ذات امتداد طويل".

ينتهي انطلاقا من هذه المقاربات الأنتروبولوجية إلى أن نشأة الديانة يعود إلى الواقع الاجتماعي والمؤسساتي أي إلى أبعاد موضوعية محدّدة. فقد كانت الجزيرة العربية أيام الدعوة، مهمشة تماما فاقدة لأي كيان سياسي أو محتلة مثل اليمن تعيش الفاقة والمجاعات. "ففي الحجاز، تصور لنا مصادرنا العرب في العمرة أو الحج يلتقطون شعر الحجيج بعد الحلق ليأكلوا قمله، وتدلل أشعار على هذه الظاهرة". 

فأجبر هذا النمط من العيش، في فضاء صحراوي معاد، العرب على ربط مفهوم المال بالقِرى والعطاء اللذين دونهما الموت عطشا وجوعا وجعلهم يعتبرونه واجبا اجتماعيا ثم دينيا يضمن علاقات تبادلية تكافيلية. فقد كان هدف سادة قريش الأقصى من تجميع الثروة إطعام أبناء عشيرتهم. وهذا ما دأب عليه النبي بدوره لاحقا. فقد كان يوزع ما يكتسبه من الغزوات على أصحابه. ولكن نشأة الرسالة  وانتصارها يظلان مدينين خاصّة إل دور الرجل المبدع الخلاق محمّد الذي هو بصورة ما مرآة زمانه وتجاوز له في الآن نفسه. فالوضع الاجتماعي لا يفسر وحده النداء الداخلي لأي رسول وأقصى ما يفرزه مصلحون ومشرعون ومؤسسو دول.
 
3 ـ تجريح وتعديل

مواصلة لنهجه الذي رأينا في الكتاب الأول، يجرّح جعيط في بعض المصادر ويعمل على تعديلها تخليصا للسيرة النبوية من الاختلاق والتناقضات وخلط الحقيقي بالأسطوري. من ذلك تشكيكه في تسمية والده بعبد الله، فأن يعبّد الرّجل ويحمل خير الأسماء، "فذلك سيمثل مصادفة كبيرة". وعليه يرجّح أن إطلاق هذا الإسم من عمل الرسول لاحقا. كما يجد تسمية الرسول نفسها باعثة على الشك. فالإشارة إلى النبي باسم محمّد في القرآن لم تظهر إلا في الفترة المدينية وتداولها النص القرآني لأربع مرات. 

ويعود بالكلمة عند البحث في أصلها إلى السريانية وتفيد معنى الماجد. فيرجح أن النبيّ خلع هذا اللقب على نفسه بعد أن ارتفع مقامه في المدينة، وأنه كان يسمى قبل النبوة قثما. فحسب البلاذري في أنساب الأشراف كان والده يكنى بأبي قثم. واسم عمه كان كذلك. وعليه يفترض أنه حمل اسم عمه المفقود على عادة قريش. ثم بعد أن خلع الوحي عليه اسم محمد سمّى العباس ابنه بدوره بقثم. ويجد أن موت والده وأمه حامل به اختلاق أضيف لأسطرته. فالقرآن يقول ووجدك يتيما لكن لم يقل أنّ والده مات وهو في بطن أمه. ويرجح أن يكون قد تزوج من خديجة وهو في سن الثالثة والعشرين أما هي فكانت في سن الثامنة والعشرين.

4 ـ ظهور النبوة وعلاقة النبي بالتراث المسيحي

لطالما سافر النبي إلى الشام مع القوافل التجارية. وقد يكون استقر هناك لفترة ذلك أن موافقات القرآن مع الكتاب بعهديه كبيرة جدا ومعرفته بالحضارات القديمة عميقة. فهو " مفعم بمعرفة دقيقة للتراث المسيحي والتراث اليهودي والمسيحي أكثر من اليهودي". وهذا غير متيسر في الجزيرة العربية. وأطروحة المستشرقين القائلة بمعرفة محمد بذلك عن طريق السماع من قبل الكهان تبدو ضعيفة. وتظل حياة النبي في مرحلة ما قبل البعث غامضة تاريخيا خاصة أنه يميل إلى اعتبار صلته بنوفل بن ورقة مختلقة من قبل مدوني السيرة "للتنبؤ بمساره وعذابه ثم نجاحه." 

ومن ثمة يعمل على ملء الفراغات عبر تحقيب السور وتدبرها في خطيتها الزمنية وربطها بسياقات تنزيلها والاستئناس بكتب السير والمغازي والأنساب والتواريخ بعد فحصها والاطمئنان إلى انسجامها الداخلي وإلى تماسكها المنطقي وضمِّ الأحداث بعضها إلى بعض وفق رؤية شمولية لإجلاء هذا الغموض. فيخلص إلى نتائج التالية:
 
لم تكن الرسالة سرية كما يشيع في الإيمان الشعبي بل بدأت في شكل دعوة عائلية وأضحت دار الأرقم ملجأ للمؤمنين ومقرا الرسول قبل أن تعلن للملإ. ويرجح أنّ هذه المدة دامت لثلاث سنوات. فكانت أولا منصبة على إعانة الفقراء ضمن تلك العلاقات التبادلية التكافيلية التي يقتضيها المجتمع الجاهلي. ثم انتقلت إلى طور الإنذار باليوم الآخر. فتدرج القرآن من الحوار مع الإله والأخلاقيات العامة إلى كارثة انتهاء العالم إلى الإنذار بالعذاب ووصف الحياة الأخرى ثم وفي مرحلة لاحقة عمل على تأكيد التوحيد وإدانة الشرك وذكر النبوات القديمة. "ماذا يعني هذا؟ يعني أنه لم توجد معارضة مقننّة منتظمة وقوية" وأن قوم النبي لم يبعدوا عنه لما أعلن دعوته رسميا. ومع ذلك فقد تراجع بعض ممن اتبعه بفعل الضغط في مرحلة لاحقة. وهنا يسكت التاريخ عن عددهم وهوياتهم.

ويردّ الصدام بين الديانة الجديدة والديانة الجاهلية إلى مرحلة متأخرة. فأثرياء قريش لم يقبلوا أي إمكانية للتفاهم فأنكر القرآن وجود آلهتهم بالمقابل وانطلقت مرحلة إعلان التوحيد بصراحة وصرامة . فكانت القطيعة فالفتنة ثم الهجرة إلى الحبشة. وتم كل هذا في مرحلة قصيرة.

 

"رأيي"، يقول الباحث، "إنه لا يمكن قبول زمنية الدعوة كما ذكرت. الدعوة دامت ثماني سنوات.. هذا ما يمليه منطق الأحداث وهذا ما تذكره أقدم المصادر التي لدينا: أعني رواية قتادة". ثم ستكون الهجرة إلى المدينة بعد ترتيبات مع زعماء عشائرها بحثا عن أفق جديد للدعوة. وسيكون المسار المديني مختلفا عن المسار المكي. ففيه سينطلق تكوين الأمة وسينتصر الإسلام ويعم الحجاز ثم سينتصر شرقا وغربا. وهذا ما سيجعله موضوع الكتاب الثالث من هذه السيرة: "في السيرة النبوية 3: مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام".


التعليقات (1)
ابو عويس
السبت، 04-06-2022 09:14 م
هشام جعيط مهرطق مهرتل متأثر بالمدرسة الغربية وبالنقد الغربي لتاريخية الإسلام وبأن الروايات الشفهية كلها مردوده ولا يصح منها شيء وأن الأثر المادي والحسي هو وحده المقبول! مع العلم هذا يفضي إلى تكذيب معظم التاريخ البشري القائم على المشافهة. فكما أبطلوا حضارة شعوب أمريكا الأصليين بزعم أنهم لم يدونوا تاريخهم، هاهم يريدون يفعلوا نفس الشيء مع حضارة المسلمين! قاتلهم الله