كتب

البحث عن سبل عيش تضامني كبديل للنمط الإمبريالي.. قراءة في كتاب

يحث براند وفسن المواطنين على التخلي عن نمط العيش الإمبريالي، من أجل تحقيق تغيير بنيوي اجتماعي وبيئي..
يحث براند وفسن المواطنين على التخلي عن نمط العيش الإمبريالي، من أجل تحقيق تغيير بنيوي اجتماعي وبيئي..
الكتاب: "نمط العيش الإمبريالي، استغلال الإنسان والطبيعة في الرأسمالية العالمية"
المؤلف: أولريش براند، ماركوس فسن
المترجم : بشار الزبيدي
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية


يصف الباحثان الألمانيان أولريش براند وماركوس فسن نمط العيش الحالي السائد بالإمبريالي. ويعتقد كل من براند، أستاذ السياسة الدولية، وفسن، أستاذ العلوم الاجتماعية، أن ذلك بسبب أن نمط العيش هذا يتطلب وصولا غير متناسب وغير محدود إلى الموارد، ومصارف انبعاثات الكربون وإلى اليد العاملة، حيث يكمن تناقضه الأساسي في أنه يتوسع نحو بلدان الجنوب على الرغم من أنه لا يمكن تعميمه لأسباب اجتماعية وبيئية.

الانغلاق والإقصاء

في مقدمته للترجمة العربية للكتاب، يشير صباح الناصري، أستاذ العلوم السياسية في جامعة يورك- تورنتو، إلى أن براند وفسن نقلا هيمنة الليبرالية الجديدة- التي انتشرت في ثمانينيات القرن الماضي وساهمت في إعادة هيكلة العلاقات الخاصة والبيئية والهوياتية، وما تزال المنطقة العربية تعيش تأثيراتها وتبعاتها التي شملت العنف، والصراعات، والعمالة المستوردة، والهجرة إلى الشمال.. إلخ ـ نقلا هذه الهيمنة إلى بعد آخر، مكانيا وأيديولوجيا، حيث شخصا نمطا استهلاكيا عالميا يدعم إعادة الدورة الإنتاجية لرأس المال على المستويين المحلي والعالمي، لا يزال فيه الشمال يستخدم الموارد البيئية والاجتماعية للجنوب، بل ويزداد هذا الاستغلال سرعة. ويشرح المؤلفان، بحسب الناصري، لماذا يعتبران نمط العيش الإمبريالي مركزيا في وقت الأزمات المتصاعدة (البيئية والاقتصادية والديمقراطية..)، فهو أحد أسباب تغير المناخ، والفقر العالمي، والصراعات الجيوسياسية، وتدمير الاقتصادات المحلية.

أما الناس المستفيدون من نمط العيش هذا فهم يساهمون في استقرار هذه المنظومة وديمومتها. ويفسر براند وفسن هذه الأزمات بوصفها مظهرا من مظاهر تناقضات نمط العيش الإمبريالي. إذ تتطلب طريقة الحياة هذه فضاء"خارجيا" من أجل استغلال القوى العاملة والموارد الطبيعية وتحويل التكاليف التي تنشأ إلى هذا "الخارج".

لكن مع توسع نمط العيش الإمبريالي (في الصين والهند والبرازيل..) يختفي هذا الخارج. وهما لا يشجعان أبدا النمو الاقتصادي الحالي والتنمية في كثير من بلدان الجنوب، وحجتهما في ذلك أن النمو الرأسمالي في هذه البلدان يحسن الظروف المعيشية لكثير من الناس، لكنه بشكل خاص يحسن ظروف النخب والبقات الوسطى العليا. وتدافع هذه النخب في أوقات الأزمات عن مواقعها بأي ثمن وبوسائل سلطوية، مدعومة من قطاعات الطبقات الوسطى. ويقولان إن التركيز على التحسينات الكمية ومعدلات النمو أشبه ب"أيديولوجية الأعداد الكبيرة" التي تنكر أن "المعجزات الاقتصادية" في ظل الرأسمالية تحدث عادة على حساب الناس والطبيعة.

إن نمط العيش السائد في الشمال يتضمن دائما طريقة إنتاج إمبريالية، بحسب ما يقول براند وفسن. وهما يحاولان في هذا الكتاب مناقشة الممارسات اليومية وموازين القوى الاجتماعية والدولية الأساسية التي تخلق السيطرة على الإنسان والطبيعة وتديمها، وكيف يتم تأسيس حياة طبيعية عن طريق إخفاء الدمار الذي تقوم عليه. ويشرحان كيف ولماذا يتراكم هذا النمط من سلوك العيش في وقت تتفاقم فيه المشكلات والأزمات وتتشابك في مجموعة واسعة من المجالات، كما لو أن كل ذلك أمر طبيعي.

ويلفت براند وفسن إلى الجانب القمعي والعنيف من نمط العيش الإمبريالي الذي يظهر على شكل صراعات على المواد الخام، أو في تبني سياسة الانغلاق،مثلا، ضد اللاجئين. إذ يستند هذا النمط على التفرد، ولا يمكنه الاستمرار إلا إذا كان له موطىء قدم في الخارج، ينقل تكاليفه وعواقبه من خلاله. لكن هذا الوضع الخارجي آخذ في التضاؤل، مع وصول المزيد من الاقتصادات إليه، وفي المقابل انخفاض عدد الأشخاص الراغبين أو القادرين على تحمل تكاليف عمليات تخريج العواقب. وفي وضع كهذا تحاول المراكز الرأسمالية تثبيت نمط عيشها فحسب من خلال الانغلاق والإقصاء.

استغلال إمبريالي متزايد

يقسّم براند وفسن نمط العيش الإمبريالي، تاريخيا، إلى أربع مراحل؛ الرأسمالية المبكرة والاستعمار الأول حتى نهاية القرن الثامن عشر، يتبعها مرحلة الرأسمالية الليبرالية والاستعمار المتزايد حتى الإمبريالية التاريخية في القرن التاسع عشروأوائل القرن العشرين، ثم مرحلة "الفوردية" ـ (هو مبدأ تنظيم للإنتاج ظهر في عام 1908 على يد هنري فورد، مؤسس شركة فورد، يقوم على فكرة أنه يمكن تحقيق الرفاهية من خلال خفض تكلفة الانتاج والتوسع في التسويق وجني المزيد من الأرباح للعمال) ـ  بعد الحربين العالميتين في خمسينيات وحتى سبيعينيات القرن الماضي، ثم العولمة الرأسمالية النيوليبرالية التي تستمر حتى يومنا هذا، وهما يتحدثان عن استمرار السياسة الإمبريالية، وعن استغلال استعماري غير مستدام للموارد وقدرات العمل في أماكن أخرى غير الشمال يمارس كل يوم، أي أن نمط عيش معظم السكان في شمال الكرة الأرضية استعماري لأنه لا يمكن أن يوجد إلا من خلال الوصول المنتظم إلى أرخص الأعمال وأرخص الموارد في مكان آخر.

إن نمط العيش السائد في الشمال يتضمن دائما طريقة إنتاج إمبريالية، بحسب ما يقول براند وفسن. وهما يحاولان في هذا الكتاب مناقشة الممارسات اليومية وموازين القوى الاجتماعية والدولية الأساسية التي تخلق السيطرة على الإنسان والطبيعة وتديمها، وكيف يتم تأسيس حياة طبيعية عن طريق إخفاء الدمار الذي تقوم عليه. ويشرحان كيف ولماذا يتراكم هذا النمط من سلوك العيش في وقت تتفاقم فيه المشكلات والأزمات وتتشابك في مجموعة واسعة من المجالات، كما لو أن كل ذلك أمر طبيعي.
ويوضح الناصري أنه بحسب المؤلفان فإن نمط العيش الإمبريالي يتعلق أيضا بالإنتاج وتنظيم العمل والشركات والعلاقات الجندرية والشوفينية. فبعد العنصرية البنيوية والاستعمار الجديد مرتبط أيضا بهذا النمط الإمبريالي، لأن التقليل من أهمية العمل في الجنوب العالمي يبرر الاستغلال والقمع والشعور بالتفوق في مجتمعات شمال الكرة الأرضية. ويلفت براند وفسن إلى أن ما يثير الاهتمام بال"الفوردية" هو كيف أن معايير الاستهلاك الكثيفة الاستخدام للموارد والانبعاثات، التي كانت حتى ذلك الحين محجوزة للطبقات العليا، انتشرت في الطبقات الوسطى والدنيا في الشمال، وبالتالي مهدت الطريق للأزمة الاجتماعية-البيئية الحالية.

يفترض الباحثان أنه إذا كان هذا التشخيص الذي يقدمانه صحيحا فإنه يجب صوغ متطلبات البدائل على نحو جذري أكثر مما هو عليه الحال في الجدل البيئي السائد، الذي لم يعد كافيا من أجل "ثورة خضراء" أو "عقد اجتماعي جديد". ويقولان أنه من المهم قبل أي شيء الاعتراف بالأزمة البيئية على حقيقتها، وهي إشارة واضحة إلى أن معايير الانتاج والاستهلاك في الشمال، كما تطورت مع الرأسمالية، وتم تعميمها في نهاية المطاف مع متغيراتها البيئية العصرية، لا يمكن الحفاظ عليها إلا على حساب المزيد من العنف والدمار البيئي والمعاناة الإنسانية، وفي جزء صغير فحسب من العالم. وبسبب السياسة الاستبدادية التي لا تزال تركز على سلعنة الطبيعة والانقسام الاجتماعي، نشهد حاليا تراكما غير مسبوق للتناقضات.

يحث براند وفسن المواطنين على التخلي عن نمط العيش الإمبريالي، من أجل تحقيق تغيير بنيوي اجتماعي وبيئي، لأن العلاقات المتبادلة لنمط العيش اليومي الذي يقدره كثيرون من الناس في البلدان الغربية، قائمة على ظروف غير عادلة في سياق رأسمالي عالمي، ويصران على ضرورة إجراء تحول اجتماعي وبيئي شامل نحو نمط عيش تضامني بين الشمال والجنوب لوضع حد للدمار الاجتماعي والبيئي. وهو ما يتطلب تعليما ونظرة ثاقبة إلى الامتيازات الخاصة بالفرد التي تقوم على الاستغلال على الصعيدين الوطني والدولي. ومع ذلك، وبحسب الناصري، فإن براند وفسن لا يهتمان بالإدانة الأخلاقية لنمط عيش فردي، لكنهما يهتمان في المقام الأول بالكشف عن الهياكل الاجتماعية التي قد تشير إلى عدم المساواة الاجتماعية، والتي تعيد إنتاج الفوارق.

يقول براند وفسن أن كتابهما،عند صدوره، أثار الكثير من الجدل والنقاشات والانتقادات لعدد من الأفكار التي تضمنها. وهما لذلك خصصا جزءا كبيرا من الخاتمة لعرض هذه الانتقادات والرد عليها. وعلى سبيل المثال فقد تم انتقاد المؤلفان بخصوص طرحهما لما يسمى ب"أطر نمط العيش التضامني" على اعتبار أن حجتهما واسعة جدا وتفتقر إلى التركيز، ولا تمهد الطريق لتأسيس مناهضة اجتماعية وسياسية ينظر إليها كونها ضرورية للتغيير الاجتماعي الأساسي.

يرد براند وفسن على ذلك بأن عدم تقديمهما مسارا واضحا لتعزيز التحولات الاجتماعية والبيئية بسبب أن هذا المسار غير موجود أصلا، على الاقل في الوقت الحالي.

ويضيفان أن خطر تقديم بديل واضح يفترض أنه يميل إلى إخفاء الأسباب المنوعة للأزمات المتعددة، والآليات الهيكلية واليومية للسلطة والهيمنة، وفي الوقت نفسه التنوع الواسع للبدائل القائمة والمتطورة، حيث تتضمن التحولات سياسات كبرى وأفعال الجهات الفاعلة الجماعية، وكذلك فهم السياسة وأسئلة تنظيم الإنتاج الاجتماعي، والتقسيم الاجتماعي للعمل ، والأسس المادية والفكرية.
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم