كتاب عربي 21

فجوة الحكم والسياسة والمشاركة .. النقد الذاتي (49)

1300x600

عطفا على ما أشرنا إليه من فجوة التوثيق، فإنه من المهم أن نتعرض إلى التعلم من الممارسات السياسية حتى نسترشد بالدروس المختلفة التي تتعلق بها، سواء عبّرت عن أخطاء أو مثّلت نجاحات أو شكلت جمعا بين الأمرين. إن دراسة هذه النماذج أمر حيوي في القدرة على ممارسة النقد الذاتي ومتابعة حالة المراجعة للفكر والحركة، بحيث تتمكن أي حركة وأي كيان من طرح السردية الكاملة والحقيقية؛ في إطار يطرح الرؤية المتماسكة التي تتمتع بالحقيقة والمصداقية والشفافية، وتتبع كل ما يعني تبيّن مصادر تلك الحقيقة، واستعراض الحقائق والمعلومات، والتعرف على الأخطاء لتوقيها، والانكسارات والتحديات للتعامل معها بما تستحق.. واستعراض التفاصيل والمفاصل المهمة في ما يتعلق بمحطات كبرى في عالم الأحداث، ومن ذلك ما يتعلق بقصة السياسة والحكم والممارسة والمشاركة التي ارتبطت بحركة الإخوان تاريخا وذاكرة، حتى ذلك الزمن المعاصر الذي شكلت تلك الخبرة الأخيرة في سنة حكمهم نموذجا يجب ألا يُهمل أو أن يُغفل لتعلّم الدروس في التعامل مع حال الأزمة ومع طبيعة الفرصة، ذلك أن القدرة على التعامل الرشيد واتخاذ الموقف السديد إنما يشكلان في حقيقة الأمر رصيدا مهما في التعامل المستقبلي لأي حركة اجتماعية وسياسية بحجم الإخوان، والقدرة على التعامل مع كافة المستجدات بما يجب بحيث تُتخذ القرارات على قاعدة من التفسير والتحليل، خاصة أن عالم الأحداث الذي يأتي من هنا وهناك وتتوارد أيامه؛ أمر لا يحتمل التأجيل، ولا يؤخر البيان والقرار فيه عن وقت الحاجة إليه.

وإذا افترضنا أننا بصدد تبين المفاصل الكبرى في سردية المشاركة وقصة الحكم والسياسة، فإن ذلك لا يحتاج إلى مقالات او مقال ولكنه ربما يحتاج إلى كتابات وكتب، ذلك أنه على قصر المدة التي شارك فيها الإخوان قبيل الثورة وأثناءها وفيما بعدها؛ قد اتسمت تلك الممارسات بالكثافة الشديدة وتداخل المواقف وتعقيدها، وحساسية الخطاب والفعل فيما يتعلق بمسائل وقضايا كانت تتطلب بحق بناء استراتيجية متكاملة من الخطاب السياسي والفعل السياسي.. أول تلك القضايا التي تقترن بتلك الممارسات إنما تتعلق في الحقيقة بالقدرة على تأسيس معايير للتمايز الوظيفي ما بين الدعوي والنقابي والمهني والسياسي والحزبي.

 

إنها الحقيقة الكبرى التي تقوم على اعتماد مبادئ الأهلية والكفاءة والجدارة والاستحقاق، والتي تقوم على قاعدة الخبرة لا الثقة والولاء


ولا يحسبن أحد أننا نحجر أو نحاول بشكل أو بآخر أن نحصر ممارسات تلك الحركة في مسلك بعينه، ولكننا نؤكد أن لكل مسلك رجاله وأهله، ولكل طريق آلياته وأدواته.. إنها الحقيقة الكبرى التي تقوم على اعتماد مبادئ الأهلية والكفاءة والجدارة والاستحقاق، والتي تقوم على قاعدة الخبرة لا الثقة والولاء. هذه الأمور الأساسية إنما تشكل قاعدة محورية ومبدئية في القدرة على القيام بما يسمى التسيير السياسي والإداري، والإسهام في مقام السياسة ضمن تنوع ساحاتها ومساحاتها، ذلك أن التسيير السياسي وتدبر الحركة والمواقف إنما يعتمد المبدأ الأساسي في فهم ذلك التمايز الوظيفي بين ما هو دعوي وما هو سياسي وما هو حزبي، وإن كان لا بد من التداخل، فيجب أن يكون ذلك التداخل أمرا مدروسا ومحسوبا بحيث يخدم الممارسة السياسية ولا يعوقها أو ينفيها. إن استخدام بعض الأدوات أو الخطابات التي تتعلق بالدعوي في المجال السياسي والحزبي؛ إنما يشكل في حقيقة الأمر خلطا يضر بالدعوة كما يضر بمساحات السياسي والحزبي، فضلا عن عمليات تقييم الأداء السياسي، ذلك أن قواعد اللعبة السياسية من الأمور التي تفترض الحديث بأبجدياتها والممارسة وفق قواعدها.

ومن ثم، فإن هذا التمايز والتميز إنما يشكل في الحقيقة أمرا مهما في القضية التي تتعلق بالإعداد للكوادر والتمايز فيما بينها، أدوارا ووظائف. إن الكادر الدعوي غير الكادر السياسي، كما أن الكادر النقابي والمهني حتى لو بلغ أقصى فعالياته بالعمل النقابي؛ ليس من الضروري أن يشكل هذا النجاح مؤشرا على صلاحيته للعمل السياسي والحزبي، كما أنه من الضروري أن نميز في الكادر السياسي بين كادر يجيد أدوار المعارضة السياسية، وبين كادر سياسي يستطيع أن يقوم بأعمال الإدارة وتسير الدولة والحكومة، فإن لكل ساحة متطلباتها، ولكل مساحة شروطها، ولكل دور أهله وأهليته وقواعد الجدارة والاستحقاق في ممارسته. إنها أمور يجب أن توزن بميزان حساس في عمليات الاختيار والقدرة على ممارسة التدبير السياسي. ومن هنا، فإن الأخطاء الفادحة ربما تكون قد وقعت من جراء خلط بين هذه الساحات والمساحات، بين هذه الأدوار والوظائف، فاختلط الأمر، وهجم على تلك الساحات من يُحسن ومن لا يُحسن.

 

الكادر الدعوي غير الكادر السياسي، كما أن الكادر النقابي والمهني حتى لو بلغ أقصى فعالياته بالعمل النقابي؛ ليس من الضروري أن يشكل هذا النجاح مؤشرا على صلاحيته للعمل السياسي والحزبي

أما القصة التي تتعلق بالمشاركة والمغالبة والإغراءات التي تتعلق بالقدرة على الحكم الرشيد والقيام بممارسات وسياسيات سديدة؛ إنما تشير إلى القدرة أيضا على التمييز الدقيق واتخاذ المواقف السديدة والقرارات الرشيدة، والمواقف الواضحة الأكيدة في أمور غاية في الأهمية، من مثل مسارات المشاركة، والتأكيد على كيف تدار التحالفات. والأهداف التي تتعلق بإدارة توازنات والتوافقات. وربما في هذا المقام نشير إلى تفحص المعاني والشعارات التي رفعت من مشاركة لا مغالبة، والإعلان عن دخول انتخابات رئاسية بعد قرار الاحجام عن الترشح لها، والتحالف مع "حزب النور" على حساب القوى السياسية الأخرى، فتحكم حزب النور في بعض المسارات السياسية، رغم أنه يشكل القوى الثانية في البرلمان. وكان الأمر هنا يتعلق بإدارة توازنات في عمليات التصويت بما يمكن أن يُنشئ تحالفات تصويتية غاية في الأهمية، ناهيك عن إدارة المسألة الدستورية والجمعية التأسيسية بأسلوب قد يفتقد إلى بعض الحنكة السياسية والمهارة في إدارة التحالفات، وكذلك عدم القدرة على الإدارة الناجزة والفاعلة للفريق الرئاسي بكل مكوناته وتكويناته، واستثمار تلك الفاعليات في إطار يوظف أهل الخبرة لا أهل الثقة، بما لا يقوم على ترضيات أو مجاملات.


نشير إلى تفحص المعاني والشعارات التي رفعت من مشاركة لا مغالبة، والإعلان عن دخول انتخابات رئاسية بعد قرار الاحجام عن الترشحلها، والتحالف مع "حزب النور" على حساب القوى السياسية الأخرى،

بالإضافة إلى ذلك، ما يمكن أن يتعلق بالمواقف السياسية في إطار القاعدة الذهبية "تأجيل ما يقبل التأجيل والمبادرة والقيام بما لا يحتمل التأخير".. هذه القاعدة لم تكن حاضرة بشكل فعال في ممارسات سياسية كثيرة، وهو ما أدى إلى استعجال معارك تتعلق بالدستور والانتخابات في مرحلة انتقالية؛ استطاع المجلس العسكري أن يمارس خلالها كل ما من شأنه تأجيج حالة الاستقطاب وصناعة الفرقة، وهو أمر لم ينتبه له الرفقاء، خاصة حركة الإخوان. وكما أكدنا مرارا وتكرارا، فإنه ربما أخطا الكل، ولم يصب الجميع، ولكن خطأ الكبير كبير، وخطأ الصغير صغير.

وفي هذا المقام، فإن ذلك لم تتواكب معه استراتيجية خطاب وفعل سياسي قادران على إدارة التوافق والتعدد والمشاركة وساحات ومساحات الاختلاف، إلا أنه من الضروري أن نؤكد أن ذلك لم يكن خطأ الاخوان فحسب، ولكن ارتكبت أطراف من النخبة السياسية، ومن الاتجاهات المختلفة، أخطاء فادحة وواضحة، فأججت الفرقة، ومكنت بيئة الاستقطاب، وتحرك المجلس العسكري ليدير معركته بمحاصرة الثورة وأهدافها. وغاية الأمر في هذا المقام أن نشير إلى التعامل الرديء التي لا تخطئه عين؛ بعد تقرير لجنة تقصي الحقائق في فترة الرئيس مرسي، الذي لم تتعامل معه الرئاسة أو حركة الإخوان بالفاعلية الواجبة، وكان هذا التقرير يمكن أن يشكل مدخلا لإصلاح كبير، بدلا من أن يتوه في متاهات الموظفين ويكون حبيس أدراج بعض هؤلاء الذين لم يتمتعوا بحس سياسي عالٍ أو بروح ثورية كافية.. قلت - وبحق - أن كل كلمة طرقناها في هذا المقال تستحق البحث والدرس والتفصيل، وهو أمر لا تحتمله تلك السلسة في النقد الذاتي، وإن كنا نعد بتجليتها في مقام آخر.. وإلى مقال مستأنف يتحدث عن فجوة في سنة الحكم كان من الممكن أن تحدث تغييرا أكثر عمقا وأكمل رسوخا.