كتب

"من أيام المحتشد".. ذاكرة طلبة تونسيين مجندين في الصحراء

حين يتحول التجنيد من خدمة وطنية إلى عقوبة لطلبة يطالبون بالحرية والكرامة.. رواية من تونس (عربي21)

الرواية: من أيام المحتشد
المؤلف: محمّد الساسي المنصوري 
الناشر: دار المنتدى للثقافة والإعلام
الطبعة الأولى: 2019 
عدد الصفحات: 242 

على الرغم من أن دارسي الأدب بمختلف أشكاله تجاوزوا مسألة العلاقة بين الواقع والمتخيل في الأجناس الأدبية المختلفة، لجهة التركيز على إبداع وابتكار الأدوات الجمالية وتوليد المعنى الخلاق، إلا أن فكرة المضمون مازالت واحدة من أهم القضايا المطلوب توفرها في الجنس الأدبي ليجد القبول لدى المتلقي.

ومع أن العرب اشتهروا وتفننوا في تدوين أهم محطاتهم لتاريخهم، وربما أيضا محاسنهم ومساوئهم في الشعر، حتى قال النقاد بأن الشعر أمسى ديوانا للعرب، إلا أن ذلك لم يمنع الأدباء وعشاق اللغة بكل أشكالها من ارتياد عالم السرد الروائي، ليس فقط لأنه جنس أدبي فسيح يتسع لترجمة هموم الناس في أدق تفاصيله، وبقيود فنية أقل صرامة من قواعد الشعر وأوزانه، وإنما لأنه جنس أدبي خلاق يجمع بين الفني والموضوعي والتاريخي.

وعرفت تونس الجنس الروائي مبكرا، وكان محمود المسعدي صاحب رواية "السد" و"حدث أبو هريرة قال"، واحدا من أهم الأسماء الروائية التونسية والعربية، لجهة إبداع المعنى والمضمون، لكن ظلت الروايات القريبة من الجانب التاريخي قليلة ونادرة.

الصحفي والإعلامي التونسي الحسين بن عمر، اختار اليوم أن يسلط الضوء على جنس الرواية السياسية في تونس، للروائي محمد الساسي المنصوري، وهو واحد من ضحايا سنوات الاستبداد في عهد الرئيسين التونسيين الراحلين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي. 

 

أدب السجون

لئن نجح "رجب" بطل رواية "شرق المتوسط"، بكر الرواية السجنية العربيّة للكاتب الأردني عبد الرحمن منيف، في التعريف بمعاناة المعارض السياسي داخل سجون الأنظمة القمعية العربية، منذ أواسط سبعينات القرن الماضي، فإن الأدب السجني في تونس، والرواية على وجه الخصوص، قد أبطأت المسير إلى فضح عوالم سجن دولة "المجاهد الأكبر"، التي عرفت بوحشية "صباط الظلام" و"برج الرومي"منذ بداية الستينيات، وزيف طروحات حقوق الإنسان، التي طالما تغنى بها نظام "صانع التغيير المبارك"، الذي رحل زعيمه هذه الأيام إلى الديار التي لم يعد من الذاهبين إليها أحد.

فقط أواخر ثمانينيات القرن الماضي، ازدان الأدب السجني في تونس بروائع "الحبس كذاب... والحيّ يروّح" لفتحي بن الحاج يحيى و"كريستال" لجلبار نقاش، اللتين كان لهما السبق في تعرية سجون النظام البورقيبي، ثم انتظر القارئ ثورة 17 كانون أول (ديسمبر) ـ 14 كانون ثاني (يناير) ليكتشف "برج الرومي" (نشرت قبل الثورة تحت عنوان "البرزخ") لسمير ساسي و"أحباب الله" لكمال الشارني، و"في القلب جمرة" لحميد عبايدية.

عرّى فخر الدين، بطل رواية برج الرومي للشاعر والروائي سمير ساسي، زيف النظام النوفمبري (نسبة لنظام ابن علي) المتشدّق بالديمقراطية وحقوق الإنسان، ونقل عذابات المساجين والممارسات اللاإنسانية التي كانت تمارس عليهم برعاية مباشرة من السجانين، فهي شبيهة بانتهاكات حقوق الإنسان التي مارسها جيش الاحتلال الأمريكي على المعتقلين العراقيين بسجن أبوغريب القريب من العاصمة بغداد سنة 2004. 

أسهمت الروايات السجنية المذكورة في فضح دمقرطة القمع الذي حبت بها الدولة سجناءها من طلبة وسياسيين ونقابيين طيلة عقود أربعة من قمع الرأي المخالف، ومصادرة الحريات الفرديّة والسياسية، إلا أنّ حملات تجنيد المعارضين بصحارى رمادة ورجيم معتوق بالجنوب التونسي، وبجزيرة زمبرة بالشمال، لم تنل حظّ التجربة السجنية من السرد الروائي.

أوّل عمل أدبي يروي تجربة التجنيد

في سياق أدب الاعتراف والسجون، تتنزل رواية محمد الساسي المنصوري، أستاذ مبرّز في اللغة والآداب العربية ومجنّد سابق بمحتشد "رجيم معتوق" الصحراوي، وهي تحيل على فترة تاريخية مهمّة من نضال الشريحة الطلابية ضدّ الدكتاتورية، في فترة كان فيها الصراع على أشدّه بين أجنحة القصر طمعا في خلافة الزعيم المريض، كما تحيل حادثة تجنيد الراوي صحبة 93 من رفاقه على بداية بروز الجنرال ابن علي الشاغل حينها لمنصب مدير الأمن الوطني، قبل أن يعيّن لاحقا وزيرا للداخليّة ثم وزيرا أوّلا في شهر تشرين أول (أكتوبر) 87،  وليقود انقلابا على الرئيس بورقيبة في تشرين ثاني (نوفمبر) 87.

تكمن أهميّة رواية "من أيام المحتشد" في سبق التوثيق القصصي لحدث لم ينل حظّه بعد من الدراسة التاريخية والأكاديمية، وبالكاد تحتفظ الذاكرة الطلابية بأغنية الشاعر بلقاسم اليعقوبي، التي غنتها مجموعة "عيون الكلام"، "ذوق المنفى المنفى ذوق يا مسافر، شور الجندية ومقيل في رجيم معتوق، باسم المدرج والكلية ذوق الليل في ليل المنفى، ذوق السهرة بغير دروس، يا مشجر كثبان الصحراء سجل للتاريخ وقول". 

ابتدعت ديكتاتورية بورقيبة مبكّرا هذه السياسة العقابية محوّلة بذلك الخدمة الوطنيّة المقدّسة إلى "سيف بتّار وأداة لمعاقبة المعارضين" منذ 1966، ومن حملات التجنيد المشهورة للطلبة تلك التي وقعت بين سنتي 1986 و1987، ومن ضحايا التجنيد يذكر كلّ من مصطفى الحجلاوي، واحد من قيادات الاتحاد العام التونسي للطلبة تم تقييده بالسلاسل من قبل البوليس وأُلقي من شرفة الطابق الثالث للمبيت الجامعي رأس الطابية بالعاصمة ليلة 26 أيار (مايو) 1987، وشكري بلعيد، مناضل بالاتحاد العام لطلبة تونس وزعيم الجبهة الشعبية الذي اغتيل في عملية إرهابية يوم 6 شباط (فبراير) 2013، الذي تم تجنيده سنة 1987.

 


 
من المبيت الجامعي إلى محتشدات الصحراء

توثق رواية "من أيّام المحتشد" لحادثة التجنيد القسري للطلبة بعد مداهمة مبيتاتهم الجامعية بكامل البلاد، ليلة 21 نيسان (أبريل) 1986 التي أعقبت تظاهر الطلبة على خلفية أحداث ثلاثة: زيارة بوش الأب، مبعوث الرئيس ريغن، لأخذ الإذن باستعمال الأجواء التونسية لضرب ليبيا، مواصلة الرفض لمشروع ابن ضياء التعليمي وأساسا تنديدا باغتيال الناشط السياسي الإسلامي عثمان بن محمود بطلق ناري في أحد أحياء العاصمة مساء 18 نيسان (أبريل) 1986، وبإشراف مباشر من مدير الأمن يومها ابن علي.

 



تم إيقاف الراوي ليلة 21 نيسان (أبريل) 1986 بعد اقتحام الأمن لمبيته الجامعي بمنوبة بواسطة الكلاب المدربة حوالي الساعة الثانية فجرا، وقد تم ليلتها احتجاز قرابة 1800 طالب، من مختلف المبيتات، بثكنات العوينة والقرجاني وبوشوشة، وتم القرار على تجنيد 94 طالبا إلى محتشد رجيم معتوق، يقع جنوب غرب محافظة "قبلي" جنوب تونس وعلى بعد 18 كلم من الحدود الجزائرية، الذي كان يستغل كوحدة تأديبية عسكرية، وقضى الراوي بعدها 14 شهرا محتجزا بين رمال الصحراء.

الرواية والمعراج إلى ذاكرة المحتشد

تنساب أطوار الرواية التي تؤرخ لواحدة من أهم الحقب التاريخية ثراء في الحياة السياسية التونسية المعاصرة، لأنها كانت المرحلة التي فيها ترعرعت ونشأت بواكير ثورة الربيع العربي التي اكتملت ونضجت ظروفها أواخر كانون أول (ديسمبر) 2010، أقول تنساب أطوار الرواية باستدعاء الراوي الذي فاق العقد الخامس من العمر، وهو مجنّد سابق في محتشد رجيم معتوق، للشيخ الآتي من مستقبل الدهر وقد استبق الحياة الآنية، وهو وجه الراوي الثاني، ليسرد له وقائع "أيّام المحتشد "في ومضة ورائيّة اختزلت في ليلة واحدة أحداث 410 أيوام من الاعتقال في قلب الصحراء التونسية وقعت قبل 33 سنة، بين شهري نيسان (أبريل) 1986 وحزيران (يونيو) 1987.

يكتفي الشيخ بالإنصات للراوي الذي قاده الفضول "لممارسة طقس النار في الصحراء وكسرة "الملّة" والشاي الثقيل المدبّس، يريد استعادة مشاهد غطّاها غبار النسيان ولا يتوانى في استحضار الثواني يستقطرها من خزان الزمن الرّكود"، معرّيا قداسة السلطة ومنعتقا من سلطة الجسد إلى سلطة الروح، وبانبلاج الفجر، ينزل الراوي من علياء الروح والتذكر ويهرع لتفقّد جليسه، فإذا به قد تبخّر تاركا جبته معلّقة على نخلة صغيرة.

تضيق الصحراء على الراوي بما رحبت، فيجد ضالّته في التكرّم بمشاركة دور البطولة مع أكثر من بطل حرصا منه على الانعتاق من سلطة "الزعيم الملهم" وسلطة "صانع التغيير" المجاهد الأكبر. وإيذانا بثورة قادمة لا زعامات لها ولا أحزاب تقودها. والراوي يشارك شخصيات النص أحيانا أخرى، ويسجل أفعالها ويصور بدقة ظواهر الأشياء وبواطنها، ويلتفت إلى القارئ بالسؤال أو التنبيه أو الاستفزاز حتى ينزع عنه وظيفة التقبل المألوفة في النصوص التقليدية.

سرديّة خارج تصنيف الأدب الكلاسيكي

تحاول السردية تخطي مسألة الأجناس الأدبية التقليدية، وتروم المشاركة في بناء أسس ما بعد الرواية التقليدية كجنس أدبي له مقوماته، فتبشر بما يمكن اعتباره السردية ذات الأبعاد الثلاثة: الكاتب والنص والقارئ. إنها اتجاه في الكتابة السردية تتقاطع فيها فنون التعبير من رواية وأقصوصة ومقامة وترسل ونادرة ومحاورة ومشهدية مسرحية وتأملات... وقد بُنيت فنّيا على مبدأ الاحتواء أو التضمين: قصة مفصّلة داخل قصة موجزة.
  
لا يمكن محاصرة النص في فن مخصوص، فهو أصوات متعددة وأجناس أدبية تتقاطع ولا تتنافر من قديم الأدب وحديثه، وقد يكون مما يعيد إنجاز السردية الثلاثية الأبعاد بحيث يخيب أفق انتظار القارئ وتتساجل النصوص، وتغيب هيمنة البطل الأوحد، ويشترك القارئ الضمني في صناعة الحكاية وليس مجرد متلقٍّ سلبي، وهو في النص مساهم في إنتاج المعنى باعتبار العلاقة التفاعلية مع النص، علما أن فهم الرواية يقتضي اطلاعا على نصوص أخرى استدعاها الكاتب، وهي مضمنة في ألفاظ أو جمل أو مقاطع.
 
الراوي عليم جدا بكل التفاصيل وينفذ إلى أعماق شخصياته يستنطقها ويعيش آلامها ومعاناتها وأحلامها، بدلا عنها أحيانا ويعلم أفق انتظار القارئ فيفاجئه بخيبة توقعه، ومن ثم يورطه في النص ويرافقه.
 
المنجز الحدثي 

يطلب الشيخ من الراوي أن يحكي قصة المحتشد وشروع الراوي في القص. ومن هنا تنفتح القصة المحتوى على حيّز زمني آخر مداه فترة الاعتقال أكثر من سنة وهو بدقة 410 يوما، مع العلم أن الراوي لم يحافظ على بنية خطية للأحداث في الزمن، بل سعى إلى كسر التراتبية الزمنية وإحداث نسقية جديدة فيها مراوحة بين الاسترجاع والاستباق والخطية، ثم بين الزمن الواقعي التوثيقي والزمن الهلامي المتخيل، وهذا التداخل ببن العالم الواقعي بالمتخيل يفتح مجالا لتهوئة السرد بالتأمل والخوارق الغرائبية. 
أما فضاؤها المكاني العامّ فمنفتح على تحركات الأبطال داخل القصة من الكرشون موطن الراوي المباشر والبطل الرئيسي، إلى الكلية إلى الصحراء وما بينها من فضاءات خاصة وضيقة كالسجن والخيمة والثكنة وساحة المعسكر والقهوة والكميون.

التبشير بفضاء سياسي رحب

يتضمن النص الروائي تسجيلا لأحداث واقعية وتوثيقها، سرعان ما تتحوّل التسجيلات إلى مجال نقد قمع السلطة للحريات والاستبداد وجمهورية الرعب ومدى الحياة، وإلى التشهير بالتفاوت الجهوي ومعاناة المناطق الحرشاء وأبنائها، مقابل بذخ الخواصر الناعمة في البلاد. وسعت إلى فضح الصراعات الأيديولوجية ببن المتعلّمين، وعلى رأسهم الطلبة والطبقات السياسية البائسة، وقد ظلّت سجينة الكتب الصفراء والسجود أفكار محنطة هجرها حتى مؤسسوها . 

 

في النص تمجيد للحرية كقيمة نبيلة في ذاتها لا تقبل المساومة، وهي جديرة بالتضحية من أجلها دون حسابات ولا مزايدات، باعتبارها من الثوابت الراسخة وليست ورقة توت زائفة تلوح بها الجماعات المختلفة فكريا وتصطرع من أجل ادعاء احتكارها.


وبشّر النص بفضاء بديل عن خارطة البلاد وهو حيز المحتشد بداية من الكميون إلى الخيمة، حيث يعيش المحتشدون الانسجام التام وحلم المدينة الفاضلة، وتُمحى النعرات الفكرية الإقصائية الهدامة، وتسقط الخلافات الأيديولوجية. 

في النص كذلك حيّز للتأمل الفلسفي والصوفي ونظرة الراوي للوجود ومحاورة الأشياء طبيعية كانت أو ثقافية، ومجال للقصص الغرائبية والخيالية، وُظّفت لإسعاف الشخصيات وهي تصارع المحن المتراكبة. وهناك مساحة للتندر بمواقف طريفة وسلوكات فرضتها حالة الانتظار وتفاهة الرتابة. 

ولم يخل الأثر من استدعاء أحداث تاريخية مفصلية أجرم فيها النظام في حق كل مخالف لرأي منظومته القمعية، استغلها الراوي لإسقاطات سياسية شهّرت بالسلطة وأعوانها وجواسيسها وأذرعها الإعلامية ومؤسسات الدولة التي وُظّفت للقمع. وكان للراوي موقف ناقد لجمهور الشعب المستكين وتهاوي قيم القبيلة الأصيلة، في ظل مغالطات الحاكم وادعائه تحرير الناس والنفوس وضمان حياتهم ورفاهيتهم، رغم استبداده بهم إلى درجة التفكير عوضا عنه. 

في النص تمجيد للحرية كقيمة نبيلة في ذاتها لا تقبل المساومة، وهي جديرة بالتضحية من أجلها دون حسابات ولا مزايدات، باعتبارها من الثوابت الراسخة وليست ورقة توت زائفة تلوح بها الجماعات المختلفة فكريا، وتصطرع من أجل ادعاء احتكارها. 

الراوي كان محايدا ويقف في نقطة الوسط بين المتصارعين فكريا، وهذا قد يستفز المتأدلجين العميان، وهو لم ير في الخلاف سوى هدية للسلطة لضرب الجميع بالجميع والتفرج على المحرقة. ولكن هذا الراوي ما كان محايدا في المستوى الفني في نسيج النص، فهو كثيرا ما ينسحب من ركح الأحداث، ويتكرّم بتسليم زمامها لشخصيات من الأبطال. وهكذا يظل هذا النص مخترقا لحدود الرواية والسيرة وأدب الاعتراف والرسالة الأدبية الخارقة والسجل التوثيقي... فقد انشد إليها كلها وانفلت عنها في الوقت ذاته.

لئن فتحت الثورة التونسية الباب لأدب الرواية السجنيّة، فإنّ الاهتمام بأدب التجنيد ظلّ شحيحا، ولم يلق الاهتمام المطلوب بالنظر إلى أنه يُوثق لفترة عتمة من تاريخ تونس الحديث، حوّلت الخدمة العسكرية إلى عقاب جماعي لنخبة جامعيّة، آمنت بالحرية سبيلا لثورة أتت ولو بعد حين.

 

*صحفي وإعلامي تونسي