كتاب عربي 21

أزمة "مدى مصر": "الدكر" في زمن الحماية الأجنبية!

1300x600
لا جديد في أزمة موقع "مدى مصر"، غير توفر الحماية الأجنبية للموقع والعاملين فيه، فلم تتمكن قوة البطش العسكري من أن تستمر في مهمة الاعتقال والتنكيل، فعندما صدرت الأوامر من "الباب العالي"، أو "المعتمد البريطاني"، لم يكن أمام الحاكم العسكري إلا أن يغير موقفه. فقد عدنا في عهده إلى زمن "الحماية الأجنبية" الواضحة، التي كانت معروفة في مصر في زمن الاحتلال، إذ كانت "عقدة النكاح" دائما في يد "الأجنبي" الذي تتغير جنسيته بحسب نفوذ المرحلة!

لا جديد في عملية الاعتقال التي جرت لرئيس تحرير موقع "مدى مصر" شادي زلط، أو مداهمة مقر الموقع والبقاء فيه لساعات، حيث اقتيد ثلاثة من المحررين فيه إلى قسم شرطة الدقي في قول، وإلى مكان مجهول في قول آخر. فهذه سياسة الانقلاب العسكري، ومنذ اللحظة التي كان فيها الفريق أول عبد الفتاح السيسي ينقلب على رئيسه الشرعي، ويتلو بيانه بوقف العمل بالدستور؛ كانت قوات الأمن تداهم مكاتب القنوات التلفزيونية والأستوديوهات، والتي تمثل معارضة محتملة لهذا الانقلاب، وتعتقل الإعلاميين والضيوف معاً في مشهد كاشف عن أن القادم هو حكم عسكري عضوض.

العين لا تعلو على الحاجب:

وعندما يواصل الحكم العسكري سياسته الآن بما جرى في موقع "مدى مصر" ورئيس تحريره، فلا جديد في الأمر، وإن مثل جديدا لتاريخ الحكم العسكري منذ الانقلاب الأول في سنة 1952. فإذا كانت عملية اعتقال الصحفيين ليست جديدة على هذا الحكم، فلم يثبت لدينا واقعة واحدة لمداهمة مقار الصحف ووسائل الإعلام، وكأنها أوكار للاتجار في المخدرات، ولو في عهد عبد الناصر، كما يحدث الآن في عهد عبد الفتاح السيسي، لكنه في هذه المرة لم يدرك أن العين لا تعلو على الحاجب، وأن من له ظهر لا يُضرب على بطنه، وأن "الحماية الأجنبية" في حالة موقع "مدى مصر" كفيلة بأن تضعه في هذا الموقف المهين. فمن الواضح أن تدخلا خارجيا كان سببا في الإفراج عن محررو "مدى مصر"، فتم التنفيذ في الحال!

لقد ألقي القبض على "زلط"، الذي هو في قول يشغل موقع رئيس تحريره، على خلفية كتابته تقريراً استند فيه إلى "مصدرين" من المخابرات العامة، يفيد بانتقال نجل السيسي، وكيل جهاز المخابرات، للعمل ملحقاً عسكريا بسفارة مصر في موسكو، فقيل يا داهية دقي. وبعد يوم كامل من اعتقاله، جرى اقتحام مقر الموقع والتحفظ على من فيه، ومنع دخول أي عنصر، بمن في ذلك محام جاء ليعرف ما يجري مع موكليه. وبعد عدة ساعات اصطحبت قوة الأمن ثلاثة من الصحفيين فيه، بدون مسوغ قانوني، وهو أمر كاشف عن أن عملية الاعتقال في البداية لم تكن تصرفاً فردياً، من جهاز أمني يجتهد فيخطئ، فاقتحام الموقع يؤكد أن استهدافه كان من أعلى مستوى في السلطة، وإلا كانت جهة القبض والاعتقال تلقت تنبيها بأنها ارتكبت حماقة بما فعلت، ومداهمة المقر بعد الاعتقال تؤكد أن الأمر كله يتم مع سبق الإصرار والترصد!

المالك الفعلي للموقع:

لا نعرف المالك الفعلي لموقع "مدى مصر"، لكني قرأت أن من يتم تقديمه على أنه رئيس تحريره السابق، الحقوقي "حسام بهجت"، ذهب إلى المجلس الأعلى للإعلام، للوقوف على الإجراءات القانونية للحصول على الترخيص. فقانون الصحافة والإعلام الأخير وضع ضوابط لإطلاق المواقع الالكترونية، واشترط على القائم منها توفيق أوضاعه وفق هذا القانون. وفي عملية الاعتقال والمداهمة، لم تذكر مسألة الترخيص القانوني، بما يؤكد أنه جرى التوفيق بالفعل.. عدم وجود الترخيص كان يمثل مبررا موضوعيا لعمليتي الاقتحام والاعتقال.

ومهما يكن ففي مصر نعلم أن الملكية على الورق لا تعني الملكية الحقيقية، ومنذ أن سمح القانون للأفراد بتملك الصحف، سنة 1980، وهناك إشكالية مرتبطة بأن القانون لا يسمح للأفراد الطبيعيين بالتملك، ولكن المقرر لهم ذلك هم الأشخاص الاعتباريين وعن طريق تأسيس شركات مساهمة، أو تعاونية. ونظرا لأن القانون "حمار" كما جاء في أحد الأعمال الدرامية القديمة، فإن المصريين اشتهروا بالبحث عن ثغراته والتحايل على نصوصه، ومن هنا يكون دائماً المساهمون في شركات إصدار الصحف الخاصة في المحررات الرسمية؛ ليسوا هم الملاك الحقيقيين المعرفون للناس ولأجهزة الدولة!

ومن هنا لا نعلم إن كان المالك الحقيقي لموقع "مدى مصر" هم مصريون فعلاً، أم أن المالك أجنبي تحايل على القانون، كما يتحايل المصريون أنفسهم، كما لا نعرف حدود الوجود الأجنبي هنا، وهل هو مجرد ممول، أم أنه مالك، فعندما نسمع عن صحفيين أجانب (فرنسيين وأمريكيين) يعملون فيه، فليس معنى هذا أنه مجرد موقع مثل عشرات المواقع الفقيرة، التي تتعامل وفق قاعدة "بصلة المحب خروف"، والتي تقوم على فائض الوقت للعاملين فيها وفائض المال وفي الحدود الدنيا لإطلاق موقع الكتروني!

وعموما، فقد عرفت مصر التمويل الأجنبي للإعلام، ومع بداية الألفية الحالية تم الإعلان أمريكيا عن القيام بتمويل إطلاق صحف جديدة في مصر، بنظام التمويل وليس الملكية. وبالفعل صدرت بعض الصحف التي تحوم حولها شبهات التمويل الأمريكي، وبعضها حصل على تمويل لشراء معدات وأجهزة الكمبيوتر، ومنها من تم تمويلها بالكامل لعدة سنوات، فلما نفد التمويل توقفت عن الصدور، مثل جريدة " نهضة مصر"، التي كان يصدرها عماد أديب. وقد كتب فهمي هويدي مقالاً ألمح فيه إلى أن الجريدة الجديدة ضمن الصحف المعنية بالتمويل الأمريكي، ووجد "أديب" في ذلك دعاية لجريدته، التي لم يتوفر لها النجاح، وكان توزيعها محدوداً للغاية!

الحضور الإماراتي:

وقد قامت الإمارات بتمويل صحف وقنوات تلفزيونية ومواقع الكترونية، في مصر بكثافة، لا سيما بعد الثورة، وإن بدأت التجريب مبكراً قبلها عن طريق تجربة قناة "الحياة"، التي ظهر لها مالك معلن هو السيد البدوي شحاتة، رئيس حزب الوفد فيما بعد، والذي عندما ذكر اسمه كمالك أثار دهشة المحررين الاقتصاديين، فليس هو رجل أعمال كبيرا في سوق المال والأعمال، والذي بدأ حياته بامتلاك صيدليتين في مسقط رأسه بمحافظة الغربية، فه وصيدلي في الأصل. وكان الهدف من "الحياة" أن تكون قناة إخبارية تنافس قناة الجزيرة، لكن صفوت الشريف، الذي كان قد انتقل من وزارة الإعلام لرئاسة مجلس الشورى، تدخل في الوقت سريعاً وأوقف الترخيص، معلناً أن منافسة الجزيرة قرار سيادي تقوم به الدولة وليس الأفراد، فتقرر أن تكون قناة منوعات، بعد قبول الشريف واسطة اثنين من الصحفيين.. أحدهما مقرب منه، بحكم عمله محررا برلمانيا بإحدى الصحف، والثاني رئيس تحرير واحدة من الصحف الخاصة، التي أثيرت حولها الأقاويل بأنها ممولة أمريكياً. ومن الملاحظ هنا أن الإمارات لم تتدخل للوساطة لصالح القناة؛ لأنها رغبت أن تكون بعيدة تماماً، وعندما حان وقت تصفية "الحياة"، تبين أنها ضمن أملاك شركة للأدوية، كان المعلن أن المالك لها هو السيد البدوي هذا، قبل الوقوف على أنه مجرد "وكيل أعمال" في مصر للملاك الإماراتيين!

لا يمكن قبول أن الموقع يمول نفسه وهو محجوب في مصر، وهو ما دفع البعض للتسليم بالشائع بأنه موقع الكتروني تابع للمخابرات، وذلك لحرصه أن يذكر في تقاريره أنها بناء على مصادره في هذا الجهاز، ومن هنا وقعت المشكلة الأخيرة.

ففي التقرير الخاص بنجل عبد الفتاح السيسي "ضابط المخابرات"، تم ذكر أن المعلومات واردة من مصدرين بالمخابرات العامة، ولا أعرف إن كان هذه لفرط ثقة في "الحماية الأجنبية"، أم لقلة الخبرة بالحياة وبالمهنة. فالسيسي لديه مشكلة مع جهاز المخابرات العامة، والحقيقة أنه ورث هذه المشكلة، فقد كان رئيس الجهاز اللواء عمر سليمان يعامل وزير الدفاع المشير حسين طنطاوي معاملة الند، حيث كان سليمان يستمد قوته من قرب من مبارك، مما مكنه من تشييد الجهاز على قاعدة الاستقلال، وهو جهاز له نفوذ لا يتمتع به وزير الدفاع الذي كان يحرص دائما عند ذكر اسم عمر سليمان أن يسبقه برتبة اللواء، ولو في جلساته، وذلك للتأكيد على "الرتبة العسكرية"، بما يؤكد أنه الأقل منه فهو يحمل رتبة المشير، بيد أن هذا كله لا قيمة له أمام عمر سليمان صاحب الشخصية القوية والنفوذ الطاغي، ومحل ثقة مبارك الكاملة.

قبل سنوات تعرفت على أحد الجنرالات المقربين من اللواء عمر سليمان، وسألته عن سر هذه العلاقة، وقد زادت الثقة بلا شك بعد حادث أديس أبابا، فقد أدار عمرو سليمان الأمر، وهو صاحب قرار عودة الموكب الرئاسي للخلف، بعد نجاته من كمين المسلحين الأول، ليعلموا بعد ذلك أنه حال دون الاغتيال المحقق لهم، فقد كان هناك كمين آخر في انتظارهم إن استمروا في طريقهم. وهو القرار الذي نسبه مبارك لنفسه، وذكره أكثر من مرة في مقابلات صحفية من باب المباهاة!

قال لي الجنرال إن سر هذا الثقة أن عمر سليمان رجل مريح، إنه يقول الحقيقة كاملة للرئيس دون أن يطلب منه اتخاذ موقف، أو تغيير سياسة، أو يلح عليه في الطلب.. إنه يقول إن سياسة الحكومة مثلا تُحدث إحباطا في الشارع، ولا يبدو عليه تضررا من استمرار هذه السياسة، ويخبره بالعدد الحقيقي للناخبين، دون طلب منه أن يغير من سياساته لمواجهة هذا العزوف!

بيد أن الأحوال لا تستقر على حال، فعندما قامت الثورة كان هناك تنازع اختصاص بين "العامة" والمخابرات "الحربية" برئاسة عبد الفتاح السيسي؛ على من يرث اختصاص الجهاز الأقوى وهو مباحث أمن الدولة، بعد انهيار الشرطة، وحسم طنطاوي الأمر بتمكين عبد الفتاح السيسي، وقد نزل الجيش إلى الشارع والميادين وصار هو من يحكم على الأرض.

وعندما تنحى مبارك، كانت الفرصة مواتية للمشير للانتصار لأول مرة على غريمه، رغم أن عمر سليمان ظل رسميا نائباً لرئيس الجمهورية، وترك سلطاته كرئيس للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، ليستمر منصب نائب الرئيس. ففي صباح اليوم التالي ذهب عمر سليمان لمكتبه في الرئاسة فوجد القصر مغلقاً ليتصل هاتفيا بالمشير الذي أخبره أنه من أعطى أوامره بإغلاقه، وفهم الرجل الرسالة فانسحب. فقد كان يفتقد للدعم الشعبي لانحيازه السافر لمبارك في أيام الثورة، والذي كان موجهاً كلياً للمجلس العسكري، لا سيما بعد توجيه التحية العسكرية لشهداء الثورة، وبعد الحديث المتواتر عن دور الجيش في حماية الثورة.

وعندما وقع الانقلاب العسكري كانت مهمة السيسي الأساسية هي تصفية الجهاز من العناصر التي لا تدين له بالولاء الكامل، وعزل كثيرا من ضباطه ودفع إليه عددا من ضباط المخابرات الحربية، ثم رقى ابنه ليكون صاحب نفوذ فيه فيصطفي ويختار، ثم دفع بسكرتيره الخاص اللواء عباس كامل لرئاسة الجهاز!

العناية الأجنبية:

وعندما يتبين من خلال تقرير "مدى مصر"، أن ضابطين وليس مجرد ضابط واحد يسربان معلومات خاصة بنجل عبد الفتاح السيسي، فإن من الطبيعي أن يتحسس رأسه، ويتدخل من فوره لمعرفة من هما، سواء كانت المعلومات صحيحة أم كاذبة وتدخل في باب الإثارة، ومن هنا كان القبض على من يتردد أنه كتب التقرير، والمنشور بدون اسم محرره!

ولا نعرف ما إذا كانت الضغوط على محرر "مدى مصر" نجحت في حمله على ذكر مصادره، لا سيما من ضباط المخابرات العامة، أم أن "العناية الأجنبية" أدركته في الوقت المناسب، وإن كنت أعتقد أن الأمر لن يكون بحاجة إلى ضغوط تبذل عليه، فالقوة الأمنية التي ألقت القبض على "زلط" من منزله، حرصت على الاستيلاء على متعلقاته الشخصية، من هواتف ولاب توب، ويمكنها بالتالي التوصل إلى قائمة المتواصلين معه، ولن تجد صعوبة في الوصول للضابطين، للتصرف معهما إن صح ما جاء في التقرير. ولو صح هذا لكنا أمام خطأ مهني جسيم، يعرّض "المصادر" للخطر، وهي التي أكد القانون على حمايتها، إذ يحظر على الصحفي ذكر اسم مصادره التي طلبت عدم ذكر اسمها، وإلا يكون قد وقع في الحرام المهني!

ولن تمتد "الحماية الأجنبية" بأي حال، إلى الضابطين (إن وجدا)، فهي من حظ ونصيب موقع "مدى مصر"، وعندما تم اعتقال حسام بهجت رئيس تحريره السابق، وقف الأمين العام للأمم المتحدة بنفسه ليقول إنه يشعر بالقلق للاعتقال، فهرولت السلطات المصرية وأفرجت عنه، وها هي تفعل الآن بتدخلات غير معلنة، وهو ما يفسر الإفراج السريع لمحرر "مدى مصر" على الطريق الدائري. فمن الواضح أن القوة كان تصطحبه لأحد السجون عندما صدر الأمر أن يتم إخلاء سبيله الآن، وفوراً، لأن "الأسياد" طلبوا وطلباتهم أوامر، فلم يعيدوه إلى حيث العمران، ولكن ولهول الموقف أنزلوه في التو واللحظة، وكأنهم جناة يتخلصون من جثة القتيل!

هالة هلع ذكرتنا بتجربة سابقة عندما تم منع أمريكيين من السفر بقرار قضائي في فترة حكم المجلس العسكري، وفي القضية المعروفة إعلاميا بالتمويل الأجنبي، وكان واضحاً أن وراء هذا القرار مدير المخابرات الحربية عبد الفتاح السيسي، وسط زفة نصبت سواء في البرلمان أو في الإعلام عن هذا الموقف التاريخي. وبعد أيام من إقامة الأفراح والليالي الملاح، صدر الأمر الأمريكي بإلغاء القرار حالاً، والسماح لهم بالسفر الآن، فحدث هذا في لمح البصر وبالمخالفة للقانون!

وبحث البرلمان (برلمان الثورة) عن من يتحمل الجريمة نيابة عن العسكر، فلم يجد، حيث تم استدعاء وزير العدل للمثول أمامه فقال لا علاقة له بالأمر. وتم توجيه سؤال لرئيس الحكومة رأساً فقال إنه أمر تم بعيداً عنه، وكان واضحا للأعمى أنهم العسكر الذين لم يصمدوا أمام الأمر الأمريكي، فتراجعوا، وها هو الحاكم العسكري يخضع للضغوط فيقول سمعاً وطاعة!

يا له من دكر!