أفكَار

سيف العدالة على رقاب النافذين العرب.. الجزائر نموذجا

هل تحقق محاكمة مسؤولي الحكم السابقين في الجزائر العدل؟ (الأناضول)

يتصدر موضوع العدل والعدالة صدارة اهتمامات النخب العربية، بالنظر إلى التحولات الكبيرة التي تعرفها مجتمعاتهم، والتي تشكل فيها قيم العدل والمساواة، رأس هرم النضال من أجل الحرية والديمقراطية.. غير أن هذا النقاش يأخذ طابعه الخاص اليوم في الجزائر تحديدا، والتي تعيش حراكا شعبيا غير مسبوق منذ تسعة أشهر كاملة، بين فئتين عظيمتين، أولاها تعتقد بتحرر العدالة من سطوة "الهاتف" و"الإيعاز"، وهي قد بدأت تتجلى اليوم في جرجرة رؤوس النظام السابق إلى أروقتها، وفئة ما تزال متشبثة بفكرة "الظلم أساس المرحلة".

الجدل الفكري هنا، يأخذ من فكرة "العدالة أساس الملك"، منطلقا لكل النقاشات التي تظهر في جانبها الإعلامي سياسية، بينما هي في الواقع تكشف عن تراكمات معرفية، خاصة بطبيعة الحكم، وحجم المظالم التي غرقت فيها أوطاننا العربية، منذ نشأة الدولة الوطنية، على ركيزة ثورية زائفة، سرعان ما تحولت من التخلص من ظلم البعيد (المستعمر)، إلى ظلم "ذوي القربى"، ممن ملكتهم الشعوب أمرها، وسلمتهم ثرواتها، وإذ بهم يتحولون إلى مصاصي دماء للشعوب، يمارسون القهر المجتمعي، بعد أن وضعوا أنفسهم "فوق العدالة"، بينما العدالة فقط فوق الشعب المقهور.

فهل يمكن الآن، وقد بدأت انتفاضات الشعوب المقهورة هذه، أن تحط العدالة أخيرا في بيت عربي، سكنه منذ عقود الظلم والقهر؟ هل يمكن لمفهوم العدل والمساواة أن يجد طريقه أخيرا إلى الحضن العربي المثخن بالفوارق الطبقية والاجتماعية؟ والأهم من ذلك هل يمكن للشعب المسكين أن يرى جلاديه يدفعون ثمن امتهانه واحتقاره وسلب حقوقه كإنسان كرمه الله؟.

أسئلة مهمة تطرح الآن في الجزائر، كنموذج عربي يستعد أن يشق طريقه المميزة، كتلك الطريق التونسية في استنبات الديمقراطية في هدوء، لكن ولأن الواقع هذا هو أجمل من الخيال بالأمس، وأحيانا هو فوق أجمل الأمنيات التي جالت بخواطر المقهورين، يشكك البعض في أن يكون الشروع اليوم في محاكمة رموز النظام البوتفليقي مجرد استعراض لاختطاف العقل والتلبيس عليه.. وإلا أفلا يكون ما يجري اليوم بالجزائر، استعراضات لتمرير انتخابات مشكوك فيها؟ ألا تكون مسرحية محبوكة الفصول كما يقول البعض، على غرار محاكمة مبارك ورموز نظامه في مصر، قبل أن تنقلب الآية، ويتم تبرئة مبارك وإدخال الرئيس المنتخب مرسي إلى السجن ليموت فيه؟

الرافضون للانتخابات الرئاسية المقررة في 12 من كانون أول (ديسمبر) بالجزائر، يؤكدون هذا المعنى، ويضيفون إليه، أن عصابة تحاكم عصابة، في عملية تبادل أدوار ليس إلا، بينما يرد المؤيدون للانتخابات في موعدها، المتوجسون من مطالب المراحل الانتقالية ومخاطرها على وحدة واستقرار البلاد، فيؤكدون أننا أمام محاكمة تاريخية، لها ما بعدها.

إثنان من رؤساء الحكومات السابقين، وعدد آخر من الوزراء وكبار رجال المال والأعمال، ترمقهم أعين الملايين المنكسرة، يقبعون في غرف الاتهام، بعد أن تم جلبهم من "سجن الحراش" الشهير، ليدافعوا عن أنفسهم في قضايا فساد خطيرة وصادمة، صفقات وتحويلات بآلاف المليارات من الدنانير (ملايير الدولارات)، كانت تعبث بها "شرذمة" مارقة، وكلما تطورت فصول المحاكمة، يقف المتابعون من الشعب على حقيقة أن الحكام الذين تسلموا أمانة الحكم والتسيير، لم يكونوا في واقع الأمر سوى "مافيا" تملك دولة، بعكس الحالة التي تشهدها دول أخرى مثل إيطاليا، حيث توجد دولة تملك مافيا.

 



بهذه الصورة، يلتحق رؤساء الحكومات السابقين أحمد أويحى وعبد المالك سلال، رفقة عدد كبير من الوزراء ورجال المال والأعمال، ضمن محاكمتهم الحالية في ملف واحد، هو ملف "تركيب السيارات"، إلى ركب محاكمة سابقة، لشقيق الرئيس بوتفليقة ومستشاره السعيد بوتفليقة، والجنرالين أحمد مدين المدعو توفيق (رئيس جهاز المخابرات الأسبق) وطرطاق رئيس جهاز المخابرات السابق، ولويزة حنون رئيسة حزب العمال، والتي انتهت محاكمتهم العكسرية و"السرية"، بأحكام تتراوح ما بين 15 سنة و20 سنة سجنا نافذة.

دروس مرعبة من هذه المحاكمات

في أولى تجليات العدالة التي يئس الشرفاء على لقائها، ظهر أن الجزائر كانت تحكمها عصابة وليس نظاما كما هو معروف في علم السياسة، عصابة متجذرة في كل مكان، تشارك في جرائمها الرئاسة والحكومة والبرلمان والأجهزة الأمنية المختلفة والمخابرات، بل والأحزاب والمنظمات الجماهيرية وحتى الجمعيات الصغيرة.

وفي هذه الدروس التي انفضحت على المباشر، ترى ابن رئيس الحكومة يستفيد من "لونساج" لقروض الشباب، وابن رئيس حكومة آخر يدخل شريكا في شركات ضخمة فقط لكونه ابن مسؤول رفيع، ليمارس الابتزاز باسم والده، وصفقات تمضى من دون دفاتر شروط، وأموال تحول بالملايير في حسابات وهمية وأخرى في الخارج دون رقيب ولا حسيب، وأراضي فلاحية تمنح بالمحاباة لتقام عليها مصانع وترمى بها نفايات، إعفاءات ضريبية بالملايير لأصدقاء وشركاء النافذين في الحكومة، قبول رشاوى بالملايير بدعوى أنها هبات من أصدقاء، قروض بنكية مهولة بآلاف المليارات، دون ضمانات عقارية أو غيرها، ولا تسترد منها الدولة دينارا واحدا، تبييض أموال هائل بأسماء زوجات وأبناء المسؤولين..الخ

حقائق مفزعة، يتابعها الجزائريون بجوارحهم، وهم يسمعون عن أرقام فلكية لأموال كانت تنهب بكل الطرق الشيطانية، لعصابة كانت تطالبهم بـ"التقشف" وهم يعيشون في ترف أسطوري، ووزير أول لم يستح وهو صاحب المقولة التعيسة "جوع كلبك يتبعك"، أن يطلب من المواطنين عدم شراء الياغورت" الزبادي باعتباره من الكماليات، بينما هو يأكل لحم الشعب صباح مساء.

الأرقام الأولى التي بدأت تتسرب من المحاكمة أصابت الشارع الجزائري بالصدمة والترويع، ويكفي أن نضرب أمثلة للقارئ العربي: 

75 مليار سنتيم المبالغ التي ضخت في حسابات الحملة الانتخابية لبوتفليقية، 300 مليار سنيتم ضبطت في حساب أحمد أويحيى، 11 الف مليار سنتيم المبلغ الذي تم تبديده في تركيب السيارات، 2400 مليار سنتيم قيمة الإعفاءات التي أمضى عليها سلال، 6 ملايير دولار قيمة فاتورة استيراد السيارات سنة 2014 فقط، 4800 مليار سنتيم إعفاءات ضريبية لمجمع طحكوت لتركيب السيارات، 11350 مليار إعفاءات ضريبية لمجمع معزوزي وغيرها كثير على نفس المنوال.

ويتوقع الجزائريون أن تكون الكارثة أكبر بكثير، مع فتح ملفات أخرى لا تقل خطورة، كملف صناعة الدواء، والطريق السيار، والبنك المركزي، والعقار الفلاحي وغيرها، بما يجعل من أمر هذه المحاكمات، حتى وإن شكك فيها البعض، لدواعي سياسية، غاية في الأهمية، لأنها تكشف المستور وتفتح أعين الشعب على أسرار ما كانت لتظهر للعلن أبدا، لولا حراك الشعب، ومرافقة المؤسسة العسكرية له.

دروس عربية

قبل هذه المحاكمة العلنية لرموز النظام البوتفليقي من عصابة التخريب الممنهج لمقومات الدولة الوطنية، عاشت الجزائر قبل سنوات، فصول محاكمة كبرى سميت وقتها "محاكمة القرن" توبع فيها رجل الأعمال الجزائري المعروف عبد المؤمن خليفة، وقتها اعتقد الجزائريون أنهم أمام حالة فريدة من نوعها في صور الفساد المستشري، فاستسلموا لأكذوبة أنها محاكمة القرن، قبل أن يتضح أن تلك المحاكمة ليست شيئا يذكر، في مقابل محاكمات اليوم، والتي أطاحت بركائز النظام الأمني والسياسي الجزائري لأكثر من ثلاثة عقود كاملة، وكشفت أننا اليوم حيال محاكمات القرون كلها، محاكمات العصر كله، إذ لا يمكن أن نأمل أكثر، سوى أن نرى بوتفليقة بشخصه في عربته المتحركة، وهو يقاد غدا إلى المحكمة، دون أن تكون له القدرة حتى على الرد على سؤال واحد، بسبب وضعه الصحي المتردي.

قبل هذا وذاك، شاهدنا في العالم العربي محاكمات تاريخية عديدة، وقف فيها صدام حسين الرئيس السابق للعراق، شامخا وهو يتحدى صلافة قاض عينه الأمريكان، وقبل أن يسقط بمشنقة الغدر الطائفي، كان ترك وصيته للرجال بأن لا يستسلموا لاحتلالين الأمريكي والإيراني، وها هم أبناء العراق اليوم، يكتشفون الوصية بطريقتهم في شوارع بغداد وباقي المحافظات المنتفضة.

 



بينما شكلت محاكمة مبارك، أكبر لعبة يمكن للدولة العميقة أن تلعبها، فقد صدق المصريون بداية، أنه تنحى عندما كان "ينتوي" التنحي قبلها، كما صدقوا أنه يحاكم على سرير المرض بعد تحية تعظيم السلام التي تقدمها له الشرطة عند نزوله المحكمة، كان حبيب العادلي وزير الداخلية الأسبق، يعلم المقصود بالتحية وبالمخرجات، حتى إذا استوت الخطة، خرج مبارك من السجن وكل رموز حكمه، ودخل أبناء الشعب مرسي والآلاف من المصريين الشرفاء، قبل أن يلقى أول رئيس مصري منتخب، حتفه في السجن بطريقة لم تسترع انتباه "قضاء مصر الشامخ".

 



الجزائريون اليوم، متوجسون لهذا السبب تحديدا، الذين يعتبرون الأمر مسرحية يستنجدون بصور مبارك خلف القضبان وأبنائه، لكي يقولوا لنا بلهجة مصرية محببة (كان غيركم أشطر)، لكن الذين يفترضون حسن النوايا يخبرونهم أن عبد المالك خليفة، يقبع الآن في السجن منذ سنوات ولم يخرج، وأن الجزائر كما هي ليست سوريا، حين لم تسقط فيها قطرة دم واحدة، وهي أيضا ليست مصر، على الأقل، لم يدع جزائري واحد يوما، أن هناك "قضاء شامخ"، بل يتحدثون طويلا عن "عدالة التلفون" التي أكلت الأخضر واليابس، لكن أملا قد لاح اليوم في الأفق، لعله يكون خيرا، لو صدقت النيات.

الفايسبوك يلتهب

في الأثناء، معركة كبيرة نشبت على صفحات الفايسبوك، مباشرة بعد انطلاق المحكمة، فبينما رحب البعض وأثنى، شكك آخرون وطرح كل طرف براهينه للنقاش، فكانت هذه الحديقة من الرؤى المتنوعة.

يقول الإعلامي الشهير قادة بن عمار: إن ما تشهده العدالة اليوم من فتح ملفات الفساد وأولها ملف مصانع نفخ العجلات، لا يرتبط فقط بمافيا من رجال المال والأعمال نشأت فجأة ثم هيمنت على سلطة القرار السياسي في البلاد لكن الأمر يتعلق بفساد منظم تم ارتكابه على حساب طبقات واسعة من الجزائريين، تعرّض معظمهم لتجويع متعمد أو سرقة ممنهجة لقوتهم اليومي... فكان بروز أي ثري جديد يقابله عدد من الفقراء الجدد أيضا، وهكذا دواليك !

 



هذه المحاكمة لا تتعلق أيضا بسياسيين أخطأوا في التسيير أو حاولوا جذب الاستثمار الأجنبي ففشلوا في ذلك، لكنها محاكمة أخلاقية لطبقة سياسية مكّنت المافيا من رقاب المواطنين البسطاء وجعلت الجزائر تتراجع بمسافات كبيرة عن تحقيق الحد الأدنى من النزاهة والشفافية والديمقراطية!

ويستغرب السياسي عز الدين جرافة: الشعب الجزائري الذي انتفض ضد عصابة الفساد كان ينتظر من الطلبة أن يخرجوا عن بكرة أبيهم لحضور محاكمة القرن ضد المفسدين الذين حطموا كل ما فيه روح تسري وتتحرك في الجزائر... لكنه تفاجأ بموقفهم السلبي تجاه قضية لطالما تبجحوا بها وملأوا الآفاق بهتافاتهم وصيحاتهم لا للإصابات في حين لم تظهر عليهم آثار الفرحة والابتهاج وهم يشاهدون رموز هذه العصابة وهم يحاكمون بتهم فساد كبيرة وثقيلة..

إنها مفارقة عجيبة تكشف للرأي العام الوطني والدولي بأن هناك تواطؤا غير مسبوق لجهات عديدة داخليا وخارجيا مع العصابة المعزولة ومحاولات مستمرة للتغطية على الحادث بل ومحاولة يائسة لتحريف الموضوع تماما، وسوف يكشف التاريخ كل ذلك بعد أن تسقط كافة الأقنعة وتزول المساحيق.

ويكتب الإعلامي رشيد ولد بوسيافة: ومهما كانت الحيثيات التي أدت إلى ضياع ملايير الدولارات في زمن العصابة؛ فإنّ السؤال الذي ينبغي طرحه هو كيفية استعادة أموال الشعب الجزائري التي نهبت؟ وما هي الآليات التي يمكن اتباعها لإعادة الأموال المهربة إلى الخارج والتي عرفت طريقها نحو التداول في إطار عمليات تبييض الأموال؟

وإذا لم تنته المحاكمات الجارية إلى استعادة الجزء الأكبر من هذه الأموال، فإنّ الأمر قد يكون أشبه بحالة تنفيس منه إلى محاسبة فعلية للفاسدين وناهبي المال العام، وتضيع بذلك فرصة إعادة التوازنات المالية في ظل الأزمة التي تعصف بالبلاد.

 



ويذكر كمال الجزايري: أحمد أويحى كانت فرنسا تحضره فقط شهورا قبل سقوط العصابة و كان يظهر لهم أنه احسن بديل لبوتفليقة .

من كان يظن يوما أنه سيؤتى به في نفس الشاحنة التي تأتي باللصوص للمحكمة؟ مقيد ومحاط بشرطيين ويمشي مطأطئ الرأس ويجيب بصعوبة على أسئلة القاضي؟

من كان قادرا على وضعه بالسجن؟ هل هو الحراك؟ وإن كان الحراك من وضعه فلماذا لم يستطع الحراك عزل بدوي وبن صالح؟

اليوم كثرت التحليلات الفارغة. التي لا تقوم على حقائق.. وسمعنا كل التفاهات من وجود شرطي أمريكي.. إلى أنها مسرحية وسيطلق سراحهم بعد الانتخابات.. إلى كلام عن المادة 177 التي أصبح الكل يعرفها... إلى غير ذلك من تصريحات لا تعلو لمستوى التحليلات ..

شخصيا أنا اليوم مشغول بحمد الله تعالى على هذه النعمة.. نعمة رؤية العصابة التي أفسدت أجمل أيام حياتنا خلف قضبان السجن ..

ويحذر الدكتور جمال ضو: إن محاكمة هؤلاء يجب أن تكون بعد إعداد قوانين خاصة.. لأن القوانين الحالية لا تصلح لمحاكمة عادلة لهم ومعظم جرائمهم سقطت بالتقادم.. ما قاموا به من تدمير للاقتصاد ونهب للمال العام كان حديث العام والخاص ويتم في وضح النهار وفي تحد علني للشعب ...

فلا يوجد عمليا قانون يمنع منح طحكوت قرضا بنصف مليار دولار.. ليخصص منه جزءا لشراء طائرة خاصة... فهل مثلا سيحاسب ربراب على تضخيم فواتير وتصريح كاذب؟ وهو الذي نهب الخزينة العمومية لطيلة ثلاثين سنة واحتكر مقدرات الدولة وكانت القوانين تعد خصيصا له ولزمرته.. وهل سيحاسب من كانوا يعدون هذه القوانين ويمنحون له القروض في عز الأزمة الجزائرية؟

ويصرخ محمود محمد العربي إنها الخديعة: خذوا هذا من هاته الصورة والقاضي المسكين المغلوب على أمره قاعد في حيرة من هذا والمتهم واقف مستعد لخوض معركته، سيميولوجية الصورة تنبؤكم بالتالي سيخرج منها أويحي كالشعرة من العجين وسيتولى أمركم من جديد ما انتهت عصابة ولا خلع التفالقة إنما هي تدويرة وتشتيت انتباه وخوض غمار تجربة جديدة على ظهر شعب طيب لكنه منهك .

ويحكم المحلل السياسي نجيب بلحيمر: قضي الأمر، أدانت الصورة المتهمين ونزعت عنهم كرامتهم وأسقطت قرينة البراءة، واستطاع العبقري الذي راوغ القانون أن يسلمهم للقنوات التي طالما مجدتهم لتنهش لحومهم قبل أن ينطق القاضي بالحكم، فالظرف يتطلب مثل هذه الحفلة في وقت تحولت فيه البلاد برمتها إلى خشبة مسرح في انتظار أداء المسرحية الكبرى يوم 12/12.

ويخلص مروان تقية على أنها بالكامل مسرحية: هي مسرحية لأن هؤلاء الاشخاص لايتابعون بالتهم الحقيقية وهي تحطيم اقتصاد دولة وامة كاملة، وتزوير ارادة شعب.

ولأن هؤلاء لا يتابعون بجريمة تكوين جماعة اشرار ومحاولة الاخلال بالنظام الجمهوري.

ولأن هؤلاء ومؤسساتهم الحزبية والإعلامية والمالية لا يتابعون بجريمة إبادة الحياة السياسية في بلد عظيم مثل الجزائر، فسجنوا معارضيهم ظلما ولفقوا لهم التهم، وهددوهم وقتلوهم.

ولأن هؤلاء وأذرعهم الإدارية لا يتابعون بجريمة التهجير القسري لأبناء هذا الوطن وكفاءاته وعقوله بسب البيروقراطية والمحسوبية والرشوة التي مارسوها طيلة عقود.

محاكمة تاريخية 

وفي قراءته لمشهد هذه المحاكمة التي تستقطب انظار كل الجزائريين، اعتبر المحامي عمار خبابة أن ما يجري بالفعل محاكمة تاريخية، حيث ولأول مرة يتابع فيها القضاء الجزائري مسؤولين على هذا المستوى.. ويفتح قضية بهذا الحجم، مشيرا أن هذه المحاكمة لها ما بعدها.. حيث من الآن فصاعدا، سيكون على أي مسؤول في الدولة، أن يحسب ألف حساب بعد هذه المحاكمة خاصة في موضوع المال العام.. فلقد سقط جدار الصمت، وفُتحت صفحة جديدة في يوميات القضاء الجزائري.

وأكد خبابة أنه بصفته محامي يتابع باهتمام كبير مجريات المحاكمة عبر وسائل الاعلام، إلا أنه رفض التأسس فيها، لأن المحامين الذين لهم مواقف سياسية وحقوقية لا يليق بهم التأسس في هذه القضايا.. معتبرا أنه "عندما ترى أن نفس الدفاع الذي تأسس في حق نزلاء سجن البليدة العسكري هم من يتأسسون للدفاع عن هذه العصابة المدنية.. عندها تدرك أن العصابة والمال الفاسد وجهان لعملة واحدة".

 



ورغم بعض المؤاخذات التي سجلها عمار خبابة في حديثه لـ "عربي21"، حول مجريات المحاكمة من ناحية الشكل، إلا أنه أكد تدارك الأمر من طرف العدالة، معتبرا أن طرح المادة 177 من الدستور التي أثارها أحمد أويحى وسلال والتي تنص على أن تُنشأ هيئة محكمة عليا للدولة تحاكم رئيس الدولة والوزير الأول.. يمكن تجاوزها بسهولة، لأن هذه المحكمة غير موجودة وهناك أفعال يعاقب عليها القانون وهناك متهمون.. كما أن هناك مادة أخرى في قانون الإجراءات الجزائية.. وهي المادة 573 للامتياز القضائي.. وتنص على محاكمة أعضاء الحكومة، وبما أن الوزير الأول هو عضو من الحكومة، جازت محاكمته.. (المادة 573 إذا كان عضو من أعضاء الحكومة قابل للاتهام بارتكاب جناية أو جنحة أثناء ممارسة المهام.. ينطلق الاجراء الخاص بالامتياز القضائي)، مؤكدا في هذا الشأن أن القطار مضى في شهر حزيران (يونيو) الماضي.. والذين يتمسكون بالمادة 177 قد فاتهم القطار .

ورغم اعتراف المحامي خبابة بمحاكمة المتهمين استنادا إلى قانون العام 2006 باعتبار أنهم ارتكبوا جنحا وليس جرائم، إلا أنه يؤكد أن عقوبة هذه الجنح مشددة قد تصل من 10 إلى 20 سنة سجنا.. معتبرا أنه حتى هذه العقوبة ليست سهلة.. ولا يوجد بها العفو .. لأنه بإمكان القاضي أن يضبط الحكم بالفترة الأمنية التي تمنع تخفيض العقوبة أو العفو فيها.

لا يمكن متابعة بوتفليقة

وحول امكانية مثول الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة أمام العدالة، نفى الأستاذ خبابة امكانية استدعاء بوتفليقة الآن كشاهد، بعد أن تمت الإشارة إليه من طرف بعض المتهمين خلال المحاكمة، باعتبار أن الشهود يجب تحديدهم في بداية المحاكمة وليس بعد انطلاقتها.

أما أن يمثل الرئيس السابق بوتفليقة متهما، فيؤكد أن النيابة لها سلطة الاتهام، مع وكيل الجمهورية والنائب العام ووزير العدل، غير أنه يستدرك أن رئيس الجمهورية يخضع كلية للمادة 177 (عكس الوزير الأول الذي تم تجاوزها)، وبالتالي فإن رئيس الجمهورية وفق القوانين السارية هو فوق الجميع.. يحاسب الجميع ولا يحاسب.

إنها حقيقة وليست مسرحية

وحول كيفية رؤية الشارع الجزائري لهذه المحاكمة غير المسبوقة، يرى عيسى بن جدة، وهو إطار في شركة سوناطراك الجزائرية للنفط، أنه استنادا لمتابعته عبر الوسائط الاجتماعية فقد خرج بانطباع أن مثول رؤساء حكومات ووزراء سابقين ورجال أعمال أمام القضاء وبتلك الطريقة صوتا وصورة وسماعهم لنوعية الأسئلة أعطى الناس شحنة طاقة إيجابية كبيرة ليتخلى الكثيرون عن فيروس التشكيك في كل شيء وعادة إطلاق وصف المسرحية الذي كنا نسمعه منذ البداية .

 



وأكد عيسى بن جدة في حديثه لـ "عربي21"، "أن بداية المحاكمات قبل الـ 12 كانون أول (ديسمبر) تاريخ إجراء الإنتخابات الرئاسية سيكون له مفعول مزدوج، واحد آني ويتعلق برفع نسبة المشاركة في هذه الإنتخابات، والآخر على المدى المتوسط ويرتبط بعودة الثقة والاحترام في المنظومة القضائية ثم الاستئناس إلى أحكامها خاصة إذا نجحت في إصدار الأحكام العادلة ضد هؤلاء المتهمين أمامها، والذين تعتبرهم غالبية الشعب سببا في اغتيال أحلام الشعب وسلب حقوقه."

ورغم اعتباره أن الخطوة مهمة جدا كبداية، إلا أنه أكد "لا يمكنني أن أحكم عليها على أنها علامة على تحرر القضاء واستقلاليته التامة عن السلطة التنفيذية والمالية.. لأنه لا يجب أن ننسى أننا في مرحلة انتقالية والمؤسسة العسكرية القوية هي من تسند ظهر القضاء وتحميه ليتصرف بحرية. السؤال هل سيستمر هذا بعد الرجوع إلى الحياة السياسية العادية برئيس منتخب أم لا".

مناورة استعراضية ليس أكثر

في المقابل هناك شريحة مهمة من الشارع الجزائري، تشكك في صدقية الخطوة، وتعتبرها مناورة مفضوحة، بغرض تمرير انتخابات 12 كانون أول (ديسمبر)، حيث يعتبر الأستاذ قادة الدين، أكاديمي وناشط سياسي، أن المحاكمة الحالية هي مجرد مناورة استعراضية لتحقيق هدفين، أولا: إيهام الناس بحدوث تغيير في هرم السلطة، ووجود عدالة، وابعاد الفاسدين السابقين، من أجل دفع الناس للانتخاب.. وثانيا: التغطية على فساد أكبر، وقطع الطريق على أي محاكمات حقيقية مستقبلية.

وبنبرة رافضة بالمطلق لمثل هذا الفعل الاستعراضي برأيه، يؤكد الأستاذ قادة الدين لـ "عربي21" أن هذه الخطوة، لا من حيث التوقيت، ولا من حيث الأسلوب، ونوع المحكمة وطريقة التحاكم واسم المحكمة، يمكن أن تكون علامة على تحرر القضاء، بل هو تكريس لعدم استقلال القضاء، فقط تغير الموجه.

 



قبل أن يخلص إلى أن العدالة بحكم تراكمات عقود من الفساد والاستبداد، وبحكم عدم حدوث تغيير سياسي معتبر، وبحكم تواصل سطوة الجهاز العسكري والأمني، لا ينتظر منها الكثير، المؤمل عليه كرأس حربة في التغيير هو الشعب وحده، وبعد حدوث تغيير سياسي حقيقي، يمكن التوجه لإصلاح العدالة.

رسالة إلى كل من سيحكم الجزائر لاحقا

ومهما كانت طبيعة هذه المحاكمة، التي تقف لها الآن، الجزائر كلها "على أطراف أرجلها" كما يقال، فإنها تبقى خطوة مهمة وغير مسبوقة، وحدث تاريخي سيتم التأريخ له بالتفاصيل حول عصبة حكمت ذات زمن، فباعت البلاد والعباد، وابتلعت أكثر من 1200 مليار دولار، في ظل حكم رئيس واحد للجمهورية.

أهمية الصور والتسريبات والنقل الإعلامي الهائل للمحاكمة، أنها لم ترسل فقط رسائل إلى الشعب بأن "الله يمهل ولا يهمل"، ولم تضمد جراحات ملايين المظلومين والمقهورين، وتشفي صدور قوم مؤمنين وحسب، وإنما بعثت برسائل أكثر وضوحا لكل من تسول له نفسه مستقبلا، تولي شأن الجزائريين، حتى والبلد على أعتاب انتخابات رئاسية مفصلية، أن من سوف يتولى المسؤولية بعد 12/12 قد يكون مصيره هذا المصير، إن هو ركب أطماع نفسه، وغرته الأماني، وزهت نفسه بالسلطة و"الحصانة"، أن مصيره لن يكون أفضل من مصير هؤلاء الذين هم اليوم، كانوا أرباب البلاد بلا منازع، يحيون بكلمة، ويميتون بأخرى، إلى أن طال عليهم الأمد، فقست قلوبهم، وعميت بصيرتهم، قبل أن ينتفض الشعب ضدهم، ليحيلهم وراء القضبان.

على أمل أن لا يكون الأمر كله لعبة، قد تنتهي بشعب كامل للعودة إلى حظيرة العبيد، بعد أن تحرر أخيرا، وعرف طريق الخلاص.