كتاب عربي 21

السلطة المتألهة والدولة المركزية.. المواطنة من جديد (3)

1300x600

ضمن المقدمات الأساسية التي ستحدد منهج النظر عامة لمسألة المواطنة وقضية المواطنة المصرية على وجه الخصوص، أكدنا على الفهم الذي لا يمكنه تصور مفهوم المواطنة من دون الشروع في الحديث عن مقدمات التأسيس تلك، ومناهج النظر في علاقة هذا المفهوم بتصور الدولة.

ومن المسائل التي تشيعها السلطة المستبدة لتمكين طغيانها وسياسات استبداها، خلط متعمد بين مفاهيم الدولة والسلطة والنظام السياسي والحكومة وجهات ومؤسسات الإدارة العامة، والتماهي المتعمد بين تلك المفاهيم ومؤسسات وممارسات السلطة القابلة للمحاسبة والمساءلة.

أما عن مفهوم الدولة والبحث في المواطنة، فنعني به مفهوم الدولة الذي نشأ في بلداننا، ومفهوم الدولة القومية ضمن عواقب نشأتها، وأهم مميزاتها في "السيادة". ورأينا كيف كتب البعض عن "مشكلة الدولة"، ليعبر عن أن ما نشأ في بلداننا قد لا يعني "الدولة" كما نشأت في الغرب، وأن النشأة في دولنا لم تكن إلا نشأة مشوهة في كثير من بلداننا. وهو أمر حدا بـ"برتران بادي" إلى أن يتحدث عن "الدولتان: السلطة والمجتمع في الغرب وفي بلاد الإسلام"، وما يتركه ذلك من آثار في التناول والتعامل المنهجيين. وواصل ملاحظته تلك في "الدولة المستوردة"، وما يعنيه ذلك من عملية الاستيراد وآثارها وأدواتها وأهدافها ومخرجاتها. بين هذا وذاك، وبين هذه النشأة وتلك، برزت "الدولة الحابس" لا "الحارس"، الدولة المركزية؛ لتحرك عناصر سيطرة تؤمم فيها مساحات الفاعلية للمجتمع وما يمكن تسميته بفاعليات الأمة.

وإن تفحص مفهوم السيادة الذي ارتبط بالدولة القومية يزيد المسألة جلاء.. فإذا كانت السيادة صفة من صفات السلطة السياسية، فإن هذه السيادة تعني أن سلطة الدولة سلطة عليا؛ فلا توجد سلطة أعلى منها أو موازية لها؛ فهي تسمو فوق الجميع وتفرض ذاتها. وهذه السيادة (أيضا) تعني أن سلطة الدولة هي سلطة أصيلة؛ لا تستمد أصلها من سلطة أخرى، ومن ثم فإن الهيئات الإدارية الموجودة في الدولة (محلية كانت أم مرفقية) تستمد سلطاتها من هذه السلطة العليا؛ وهذه السيادة (أيضا) تجعل من سلطة الدولة وحدة غير قابلة للتجزئة؛ وتبعا لذلك، فإذا تعددت السلطات الحاكمة في الدولة، فهذه السلطات لا تتقاسم السلطة فيما بينها، وإنما تتقاسم الاختصاصات فقط.

وفي النهاية، فإن السيادة تعني أن سلطة الدولة سلطة آمرة عليا، فتستطيع فرض إرادتها على الآخرين بأفعال تصدر من طرفها وحدها وتكون قابلة للنفاذ؛ أي دون موافقة المحكومين. ولا يتبدى ذلك (فقط) في القوانين الصادرة من سلطتها التشريعية، وإنما يتبدى ذلك (أيضا) فيما يصدر عنها من أعمال إدارية: كالقرارات الصادرة بنزع الملكية الخاصة للمنفعة العامة، والقرارات الصادرة عن الإدارة باعتبارها سلطة ضبط أو سلطة "بوليس". وعلى هذا النحو تجعل السيادة من السلطة السياسية في إطار الخلط المتعمد بين الدولة كمفهوم مجرد وبين السلطة التي تمارس وتمثل الشأن السياسي في حالة مركزية استبدادية؛ سلطة عليا، سلطة أصيلة، سلطة واحدة غير مجزأة، سلطة آمرة. هذا ويلاحظ أن للسيادة مظهرين: أولهما خارجي، فنكون إزاء سيادة خارجية، والآخر داخلي، فنكون إزاء سيادة داخلية.

وفي هذا السياق، نشأت ما يمكن تسميتها بـ"الدولة المتألهة" أو الألوهية البديلة. وجدت شيفرتها في ما أسميها بخصائص السيادة وإحالتها على السلطة، هذا، رغم أن السيادة لا تعدو أن تكون صفة للسلطة السياسية، مع ضرورة عدم الخلط بين تعبيري السيادة والسلطة السياسية، وتحديد صاحب السيادة في الدولة صاحبة السلطة السياسية العليا والأمر. وهذه السلطة تكون مجردة ومستقلة في بقائها عن أشخاص الممارسين لها، ألا وهم طبقة الحكام في الدولة. فهؤلاء الأخيرون ليسوا سوى مجرد أداة في يد الدولة، تمارس عن طريقهم مظاهر سلطتها.. ومن ثم، فإن السلطة السياسية هي دائمة، أما ممارستها فهي دائما عرضية وموقوتة. وإذا كانت الدولة شخصا معنويا مجردا، فإن السلطة لا بد من تنسيبها إلى صاحب محدّد يمارسها بصورة فعلية. فمن هو صاحبها الفعلي؟ وهنا ثار الخلاف والجدل ضمن نظريتين: إحداهما نظرية سيادة الأمة، والثانية نظرية سيادة الشعب.

وبدت السيادة متوحدة مطلقة.. حتى بدت الدولة ضمن مفهومها السيادي الواقف عند حدودها، والمتعلق بأهدابها، والمؤشر على مركزيتها الاستبدادية، الزاحفة على الفاعليات والمجالات والفضاءات، وبدت تمارس جملة من وظائفها: تتخلى عن بعضها ما كانت غُرما، وتتمسك بوظائفها ما كانت غُنما. وهنا وجب التنويه إلى أن الدولة- السيادة كما آلت إليه في بلادنا إنما عبرت عن تماهٍ بين الحدود في ما بين مفاهيم تعوّدنا أن نميز فيما بينها، من مثل الدولة، والسلطة، والحكومة، والسلطة التنفيذية، والنظام السياسي، وجهة الإدارة والبيروقراطية.. كل ذلك ووفق عناصر مشوشة في الإدراك، ومشوهة في الممارسة، وأصبح لا حد بينها ولا فصل.

ويخطئ الباحثون لو ساروا مع هذا الفصل والتمييز من دون معرفة الواقع الذي يجعل هذا جميعا كتلة منصهرة، جعلت عملية التشخيص في أبلغ تعبير: "أنا الدولة". وبدت الدولة- السلطة حالة تتحدث عن سيادة الشعب أو الأمة؛ فبدا الخطاب السياسي يغتصب (ومن أقصر طريق) الحديث باسم الشعب أو باسم الأمة، ويتحدث عما ترضى وما لا ترضى. وظلت كل هذه الأمور في طيّ تنظير اختلف كثيرا عن ممارسة تتماهى فيها الحدود، وتُغتصب فيها الكلمات، خاصة لو كانت من مثل "الشعب" و"الأمة" و "الجماهير". وبدت الدولة حالة كاريكاتورية.. تصدع بالسيادة في عنفوان وبطش واستبداد حيث وجب ألا تصدع، خاصة في ميدانها الداخلي في العلاقة السياسية بين الحاكم والمحكوم، بينما تتركها نهبا مستباحة حينما يتعلق الأمر بعلاقات قوى، خاصة في الطبعة الأخيرة للنظام الدولي الجديد.. تستباح فيه السيادة، ولكن وفق حدود وأفكار معينة، بينما تتعملق السيادة في مقام آخر لا نشهد منها سوى "السلطة التنين" على ما يشير "هوبز".

ماذا يعني ذلك بالنسبة للمساحات والفاعليات التي تتعلق بالقوى المدنية والمجتمعية والسياسية ترتبط بظواهره المتنوعة، وماذا يعني ذلك بالنسبة للمواطنة والمواطن؟! "الدولة- التنين" السابق الإشارة إليها لا تحافظ فحسب على عدم خروج الأفراد عن حياضها ولا كيانها.. بل هي قادرة على أن تردهم إليها كرها أو طوعا. وعن ذلك (ضمن ما عني) وقوع الفرد- الإنسان، والفرد- المواطن، والإنسان- المواطن، وكذا ما يدخل فيه من تكوينات جماعية واجتماعية ومجتمعية؛ تحت السيطرة وداخل نص السلطة. فقد أحدثت الدولة- السلطة عملية رقابة متعملقة على النص المجتمعي بكل أطيافه ومجالاته وتنوع فاعلياته.

وبدت الدولة في نصها "المركزي" و"الاستبدادي" تمارس أقصى درجات الرقابة، جاعلة عناصر الرقابة عليها محض خيال، أو مساءلتها محض استحالة، والسؤال عن حسن حكمها أو سوئه من اللامُفَكَّر فيه ولا في الخيال. ووقع كل ذلك في دائرة الممنوع، وفي سياق المكبوت.

هذه الحالة من "التغوُّل" على ساحة الفاعليات لا بد أن تجد مادتها في المواطنة، ومنتجها الوحيد "المواطن". أكثر من هذا، فإن الدولة على تغولها ذلك (لا تغلغلها المرتبط بالهيبة والقدرة والنفاذ والوجود الفاعل في الأداء والإنجاز، والقدرة على إدراك مسؤوليتها عن مركزها وأطرافها، عن كيانها وجوهرها وهوامشها..)، هذه "الدولة- السلطة" احتكرت مفهوم "المواطنة الصالحة" في إطار يروج لمفهوم الدولتية؛ والحديث موصول.

 

twitter.com/Saif_abdelfatah