آراء ثقافية

علي حميدة: كيف ينجح البدويُّ في الحَضَر؟!

توزيعات حميد الشاعري ساعدت حميدة في إكسابِ أغانيه مِسحةً تجديديّةً- تويتر

في حلقةٍ من مسلسل (البخيل وأنا) من تأليف وبطولة فريد شوقي وسيناريو وإخراج حسين عمارة وإنتاج عام 1990، يتغني الفنان حسني عبد الجليل – في دور (نجاتي) بائع المشروبات الغازية – بأغنية (لولاكي) للراحل علي حميدة، فيَعيب عليه ذلك الفنان عبد الغني ناصر في دور (فخري بيه)، وحين يرُدّ عليه نجاتي بأنّ الأغنية الشبابية تطوُّر، يُفحِمه فخري بيه بقولِه: "دا تدهوُر مش تطوُّر".

هكذا كان استقبال قطاعٍ من المثقّفين المصريين لصعود نجم المرحوم علي حميدة الذي رحل عن عالمنا يوم الجمعة 12 فبراير الجاري، مع أغنيته الأشهر (لولاكي) سنة 1988، فبغَضّ النظر عن أنّ الحُكم السلبي المذكور لا يعبر بالضرورة عن رأي صانعي المسلسل، إلا أنه كان صدَىً أمينًا لرأي ذلك القطاع.

 

وهو حُكمٌ متعجّلٌ لا يسوقُ مبرراتٍ غالبًا، وحين نحاول تعقُّبَه إلى أفضل صِيَغِه نكتشف أنّه حُكمٌ تذرَّع بالإيقاع السريع للأغنية ولجُملة أغاني (حميدة)، وافتقار أدائه إلى كثيرٍ من الحِليات الأدائيّة المميِّزة لكبار المُطربين العرب.

 

أمّا حين نترُك أنفُسَنا لفوضى الصِّيَغ التي جاء فيها هذا الحُكم السلبي فإننا لا نجد أفضلَ ممّا حكاه (حميدة) نفسُه - في الحلقة التي حَلَّ فيها ضيفًا على الإعلامي (أحمد مجدي) في برنامج (فنجان قهوة) سنة 2019 – عن تزعُّم الإعلامي (مُفيد فوزي) جبهة محاربة نجاح (علي حميدة)، وقولِه عنه إنه "راعي غنم لا يَصلح للغناء".

 


 

هذه الجُملة إن صَحَّت تلخّص في تقديري المتواضع جوهر ذلك الموقف العدائي من صاحب (لولاكي)،

فإنّ الحُكم السلبي إن تعلَّقَ بالإيقاع السريع كان ذلك داعيًا لاستدعاء تراثٍ من الأغاني الكاملة والمَقاطع الغنائية سريعة الإيقاع في مَتن الغناء المصري، وصولاً إلى أغاني أبناء جيل (حميدة) نفسِه الذين لم يُهاجَموا بنفس الضراوة التي هُوجِمَ بها الرجُل.

 

أمّا مسألة المقدرة الصوتية والزخارف الأدائية فإنها تستدعي نماذج أقدم كان لها حظّها من النجاح رغم تواضُع ما أُوتِيَت من القدرات الأدائيّة.

 

لكنّ عنصُر البداوة هو ما غاب عن تلك النماذج جميعًا وحضر في شخص وصوت (حميدة)، وهو عنصُرٌ دأبَت الثقافة الرسمية المصرية على النظر إليه باعتباره هامشًا طرفيًّا لا يرقى إلى أهمّيّة المركز الذي تمثّلُه القاهرة والوجهان البحري والقبلي، أي المَتن الحَضَرِيّ للثقافة المصرية.

 

وهو تحيُّزٌ نجِد صداه فيما عدا الغناء من الفنون، لاسيّما الدراما المصرية التي لا تعتدّ كثيرًا بالمكوِّن البدويّ في شخصيّة المجتمع المصري، فإن أتَت على ذِكرِه كان ذلك بطريقةٍ عرَضيّةٍ تماما.

هل سيُعَدُّ هذا مبالَغةً منّي إذا قُلتُ إنّ الجُملةَ التي نسبَها حميدة لمفيد فوزي تُذكّرني بالمعبود المصري القديم (سِت) إله الصحراء الذي ربطَ المصريُّون القدماء بينه وبين الغُزاة الهكسوس مُلوك الرُّعاة وتطوَّرَت مكانتُه في مَجمع الآلهة المصريِّ إلى أن أصبحَ إله الشَّرّ؟ في الحقيقة مازالت رواسِبُ تلك النظرة باقيةً في النُّعوت التي يُلحِقُها قِطاعٌ من المثقفين المصريين بكُلِّ ما يأتي من الصحراء!

شخصيًّا أذكُر ككثيرين من جيلي أنّ شريط (لولاكي) كان أوّل شريطٍ غنائيٍّ أُلِحُّ على أبي في شرائه لي، فقد كان إذَن أوّل مكوِّنٍ أنتقيه بنفسي في مكتبتي الموسيقيّة.

 

كما أذكُرُ أنني في السادسةِ كُنتُ أحفظُ كلمات أغانيه وألحانَها وأردّدها عن ظهر قلبٍ مُدهِشًا أّبوَيَّ اللذَين كرّرا أمامي كثيرًا أنهما لا يستطيعان سبيلاً إلى الإمساك بتلك الكلمات مع إيقاع غنائها السريع، وهو ما أكرره أنا الآنَ عرَضًا حين أُواجَه بتجاوُب جيلٍ تالٍ لي مع أغاني المهرجانات، فهي تبدو لي للوهلة الأولى سريعة الإيقاع بما لا يسمح بإدراكِ كلماتِها، لكن مع تركيز انتباهي قليلاً أكتشفُ أنّ الأمر ليس كذلك وأنّ ما صرفَني عن التجاوُب مع القالَب الغنائيّ الجديد هو قَناعاتي المسبَّقة، فضلاً عن بعض المآخذ لي على طرُق أداء مُطربي المهرجانات، ليس هذا مقامَ تفصيلِها. 

المهمّ أنّ عاملاً مهمًّا في تقبُّل الأجيال الشابّة للقوالب الفنية الجديدة هو مرونةُ الذائقة بالطبع، وهي مرونةٌ يبدو أنها تُفقَد تدريجيًّا مع مرونة أنسجة الجسم البشريِّ، إلاّ فيما نَدَر.

 

فإذا دُرنا حولَ هذه الظاهرة، جاز لنا أن نقولَ إنّ تراكُم خبرات التلقّي الفنّي يخلُق لدى الإنسان حاسّةً نقديّةً تمكّنه من إطلاق أحكام القيمة بدرجاتٍ متفاوتةٍ من الموضوعيّة، تبعًا لعُمق تلك الخبرات وتنوُّعها. ويجرُّنا هذا إلى إلقاء نظرةٍ سريعةٍ على مُنجَز فنّاننا الراحل.

حميدة المُطرب:


من ألبومه الأول نأخذ أغنية (زينة والله زينة) من كلمات عادل عمر ولحن وتوزيع حميد الشاعري، وهي تبدو الأغنية الأقرب لتراث الغناء البدوي في مطروح مسقط رأس فناننا الراحل.

 

فيها تتضح الخصائص الأدائيّة له، وأول ما يميزه خامة الصوت المتفرّدة للغاية، والتزامُه الخطّ اللحني البسيط، وهو التزامٌ يُفصِح عن قدرٍ محترمٍ من الدُّربة والمعرفة الموسيقية، وأخيرًا اقتصادُه في العُرَب والزخارف، وهو بهذا المَلمح الأخير ينتمي صِدقًا لمَنشئِه البدويّ، فيشعُر المرء في حضرة صوتِه أنه في حلقة غناءٍ لزفافٍ بدويٍّ، معلومٍ مسبَّقًا أنّ المُطرب فيها يقول الجُملة لتردِّدَها خلفَه جوقةٌ موسَّعَةٌ من الحاضرين والمهنّئين، فهو أداءٌ يستدعي جَماعيّة الغناءِ في ثقافة البدو.

 

جاءت الكلمات غزَليّةً في بحر الخَبَب "بنت بلادي زينة/ زينة والله زينة/ ماْ احلى هادا لباس حَرير/ شِبه الغزلان الحِنَّة فِ ايديها"، وجاء اللحن في مقام الهُزام، متحوّلاً إلى البياتي مع أغصان الأغنية "محبوبي يا محبوبي/ أنا كِل شَيْ نلَبّيك/ مِن دهب ولاّ فضة/ العالم كلَّه يفخر بيك".

 

 

 

ومن ألبومه الثاني (كُوني لي) نختار (تسلمي لي) التي تكرر فيها تعاوُنُه مع عزت الجندي شاعر (لولاكي) وسامي الحفناوي ملحّنها.

 

جاءت الكلمات في بحر الرَّمَل "تسلمي لي تسلمي كلّ الأحبّة تسلمي. مدّي إيدك رحَبي. واكتبي لي إكتبي...إلخ"، واللحن في البياتي الذي خرجَ فيه الشطر الأكبر من أغاني (حميدة).

 

وفيها للأسف يظهر تعثُّر فناننا الراحل وهو يحاول تقديم عُرَب بسيطة أثناء غناء "همسي ونِدايا"، ما يَشي بأنّ مجدَه الغنائيّ القصير ربّما تأسّس أوّلاً وقبل كل شيءٍ على تقديم الأغنية البدوية بطرائق أدائها البسيطة، وزراعتها كما هي في تربة المتن الغنائي المصري.

 

 

 

حميدة الملحّن:

 
في ألبوم (لولاكي) قدّم فناننا ثلاثة أغنيات من أصل ثمانية ضمّها الشريط، هي (وينَه) و(بيكي يا) و(يا موجة فرحانة)، وقد جاء لحنها جميعًا في مقام البياتي، ولذلك أصلُه في تراث الغناء البدوي حيث يستأثر هذا المقام بنصيب الأسد. والحقيقة أنّ الأغاني الثلاث متشابهةٌ جدًّا في مسلكها النغمي حتى لتبدو إحداهُنّ امتدادًا للأُخرَيَين.

 

 

 

أما في (كوني لي) – وهو شريط (حميدة) الأقرب إلى ذائقتي اليوم – فقد قدّم فناننا ستة ألحانٍ من أصل ثمانية، ومن هذه الستة جاءت خمسةٌ أيضًا في البياتي مع خروجات بسيطةٍ عليه أحيانًا في مقدماتها، وهي (كوني لي – زين على زين – وِدِّينا – هلا هِلِّي – إيش اخبارك).

 

أمّا اللحن السادس فهو (قولو للغالي) لكلمات (عزت الجندي). جاء اللحن بسيطًا في مقام الراست الفرِح، والكلمات كذلك في بحر الخبب، وإن كانت تتمتع بنفَس شاعريّ لا يُجحَد "قولوا له الغالي طوّل قولوا لَه/ قولوا له يجينا ولاّ نمشوا له/ طوّل في غيابَه والغيبة/ ترميني ف نار التغريبة..إلخ" والمهمّ أنّ اللحن أضافَ إلى الكلمات المسكونة بالشوق إلى المحبوب بُعدًا احتفاليًّا بدويًّا، فالجماعةُ كلُّها في ترديدِها لكلمات العاشِق تخلُق من لوعتِه فرَحًا، ربما هو فرِحٌ متفائلٌ بقُرب اجتماع الحبيبَين.

 

 

 

رحم الله (علي حميدة). في رأيي أنه وُفِّق في تقديم الأغنية البدوية كما هي بشكلٍ كبيرٍ، ومن المؤكد أن توزيعات (حميد الشاعري) قد ساعدَته في إكسابِ أغانيه مِسحةً تجديديّةً بإضفاء الحدّ الأدنى من التوافُقات الهارمونية على ألحانِها، إلا أنّ قِصَر تجربتِه حالَ دُون إنضاجها لمستوياتٍ أعلى، فقد كان يُنتظَر من موسيقيٍّ له ثقافتُه أن يُحدِثَ أثرًا أكبرَ في عالَم الأغنية العربية وأن يخطو بالغناء البدويّ خطواتٍ أوسع. ورغم ذلك، يبقى إنجازُه الأكبر متمثلاً في تحدّي المألوف لدى الجمهور المصري العريض، وتقديم ثمرةٍ بدويةٍ منسيّةٍ على مائدة الثقافة المصريةِ الحضَريّة.