قضايا وآراء

الجذور الفكريَّة لفشل الثورة السوريَّة (1-2)

1300x600

لا جدال في أن الفشل الدموي المفجِع للثورة السوريَّة هو أفدح إخفاقات ما سُمي إعلاميًّا بـ"الربيع العربي". وبقطع النظر عن التفاصيل السياسيَّة الكثيرة وتشابُكها، وتقاطُع الفاعلين وتصادُم أدوارهم؛ فإن ما يعنينا هاهُنا ليس فض هذا الاشتباك العسير، ولا حتى محاكمة بعض الأطراف المشارِكة في صُنع الأحداث، سياسيًّا أو معرفيًّا؛ إذ ناهيك عن تعذُّر ذلك على فردٍ واحدٍ، قدراته محدودة على بلوغ التفاصيل العلنيَّة الكاملة لمشاركة فصيل واحد، دع عنك تتبُّع تفاصيل مسيرة "المشاركة الدمويَّة"، لكل فصيل على حدة؛ فإن ثمة دورًا يستطيعه المراقِب البعيد نسبيًّا عن وطأة الحدث ـ مثل كاتب هذه السطور ـ وهو التأمُّل في مجمل الأحداث، وتجريد بعض الأنماط، وتتبُّع جذورها وتطوراتها، في محاولةٍ لاستخلاص بعض الفائدة من التجربة؛ فإن ما لا يُدرَك كله لا يُترَك جله.

وبناءً عليه؛ فلسنا بمعرِض إثبات أو نفي شيءٍ من الواقع السياسي المركَّب، ولا اختزال أدوار الفاعلين على الأرض في أحكامٍ جاهزة، تنبني على موقف سياسي أو كلامي (أو عاطفي!)، بل ولا حتى مُناقشتها. لكننا سنتناول بعض ملامح الأثر الفكري للروايات الوارِدة في "فضائل الشام"، وذلك بوصفها الحافز الأهم لحركة الفصائل المقاتِلَة. 

بيد أنه لن يكون تناولًا أداتيًّا، مما عهدناه في الدرس الحديثي المعاصر، يُعالج ضعف هذه الروايات وصحتها، أو حتى يُحلل الأنماط الجديرة بالدرس الجاد، التي تطرحها هذه "المدونة الحديثيَّة". وإنما ستنصب عنايتنا على تجريد بعض الملامح السوسيومعرفيَّة، لانعكاس إدراكات الفاعلين ـ لهذه النصوص ـ على الواقع السياسي، وذلك بتجريدنا لآثار النصوص الحديثيَّة الأشهر من بعض الأنماط السلوكيَّة المطَّرِدَة. 

 

إذا كان المولى جلَّ شأنه قدَّر الأقدار لتجري من خلال الإرادة البشرية، فإنه لم يترك الكون هملًا، وإنما جعل ما نسميه بـ"المسافة الوجوديَّة" ـ بينه تعالى وبين خلقه ـ هي عينها مسافة "اللا تيقُّن المعرفي"، أي أن المسافة الكلاميَّة/ العقديَّة مقرونة دومًا بمسافة إبستمولوجيَّة.

 



وبهذا، سنتناول بعض الأنماط الفكريَّة، التي استبطنتها الفصائل المسلَّحة ـ من هذه المدونة ـ بوصفها أنماطًا أسهَمَت في إجهاض الثورة، مهما افترَض المشارِك أو المراقب العجول ـ في هذه الأنماط ومصادرها ـ عكس ذلك. وهي أنماطٌ تبلوَرَ أكثرها ـ في روع الفصائل المسلَّحة ـ إجمالًا من هيمنة مدوَّنة الروايات الحديثيَّة الوارِدة في "فضائل الشام" على مُخيِّلَتهم، مع فقر أدواتهم. 

ومنطلقنا في ذلك أننا حتى إذا افترضنا جدلًا صحَّة كل الروايات، الوارِدة بـ"قداسة" هذا الموضع الجغرافي، في زمان لا نعرفه (آخر الزمان/ التاريخ الإنساني)؛ فإن ذلك لا يُهوِّنُ كارثة إسقاطها على زمان بعينه، أي زمان نعرفه يقينًا؛ إذ يُفضي بنا إلى حلول القداسة في هذا المركَّب، بعد توسِعَة نطاق "القداسة" المكانيَّة اعتسافًا؛ ليشمل بعد المكان زمانًا لم تَرِد به روايات، وإنما استمدَّ قداسته من التكهُّن والهوى والأيديولوجيَّة المشيحانيَّة، ولا أقول التأول؛ فإن صاحبه يفتَقِدُ لأدوات المتأوِّل! 

وإذا كنا سنقتصر على استكناهِ ملامح إدراك بعض الفصائل المقاتِلَة لهذه الروايات، وانعكاس فهمهم إياها، وأثره على تشكيل الواقع المأساوي للثورة، بقطع النظر عن نوايا هؤلاء الفاعلين وخلفيَّاتهم، وارتباطاتهم السياسيَّة أو التنظيميَّة؛ فإننا قبل أن ننتَقِل إلى الملامح الرئيسة لتصور تلك "الفصائل المقاتلة" للمسألة المركزية في تكوين مُدركاتهم، ممثلةً في "فضائل الشام" كما وردت في الروايات المشهورة؛ فإننا سنوثِّق أولًا ـ وفي عُجالة ـ الأنماط/ المباحث السوسيومعرفيَّة، التي نرى أنها يجب أن تستثير الدارِس الجاد المتأمل في "المدونة الحديثية" المذكورة، وذلك على أن نعود إليها في مبحث آخر.

تتكشَّف هذه الأنماط بعتبةٍ "بدهيَّةٍ"، وهي شدَّة عناية "أهل الشام" ـ دون غيرهم ـ بجمع هذه الروايات (الطبراني وابن عساكر)، وتصحيحها وتحسينها (الألباني والأرناؤوط)، وتوظيفها أيديولوجيًّا (ابن تيمية)، وذلك باستثناءات جد محدودة، لعلَّ أهمها هو أحمد بن حنبل "السلفي"، وأحيانًا الحاكم صاحب المستدرَك. مما يجب أن يُفضي بنا إلى تتبُّع علاقة هذا الاشتغال بصلابة ما نُسميه بـ"السرديَّة الدينيَّة الرسميَّة" في الشام، منذ العهد الأموي، الذي كرَّسَ هذه المدونة وأضفى على مضامينها مسحة "عقديَّة" زائفة، جنبًا إلى جنب مع لعن الإمام علي وآله ـ عليهم السلام ـ على المنابر. 

يُضاف إلى ذلك أن البخاري ومسلم لم يَرويا ـ مُجتَمِعَين ـ إلا أقل من عُشرها، حتى فاقهما ابن عساكر مُنفردًا في تاريخه. كذا يَجدُر التأمُّل في تساوي ابن حنبل "العراقي" مع الطبراني "الشامي" ـ في ضخامة الرواية في هذا الباب ـ وأثره على جنوح رؤية "النيوسلفية" إلى الأمويين، رغم أن هذه النيوسلفية أبعد عن نسق ابن حنبل الكُلي بأكثر مما يظن أهلها! 

وعليه، لا بد أن يَستوقفنا بروز محمد ناصر الألباني في ثلاثة أرباع هذه الروايات، بوصفه مُصحِّحًا أو مُحسِّنًا لها، يليه شعيب الأرناؤوط بنسبة أقل كثيرًا، وعلاقة ذلك بخلفيتهما الألبانية ثم بإقامتهما في الشام، بل ودورهما في استمرار هذا "الميل الأموي" وترسيخه ـ معرفيًّا وسياسيًّا، بل و"عرقيًّا" ـ داخل التيار "النيوسلفي".

وإذا كنا لن نتوسَّع في تفكيك هذه الأنماط / المباحث اﻵن، فإن إجمالها هاهُنا يستهدِفُ الإشارة الموجزة إلى القنوات التي انتقلت من خلالها روايات هذه المدونة؛ فنشَّطَت مُحفِّزَاتها الحركيَّة. لا بمعنى سلسلة الرواة وأحكام المحدثين على الرجال، وإنما بوصفها القنوات الفكرية والولاءات السياسية، والخلفيَّة البيئية المعرفيَّة، التي انتقَلَت من خلالها "الصور الإدراكيَّة الطوباويَّة" حتى بلغت "وعي" الفصائل المذكورة، وشكَّلَته. فإنَّ هذه القنوات مكوِّنٌ سوسيومعرفي شديد المركزيَّة في بلورة صورة "الشام" ومركزيتها، التي "تخلقها" هذه الروايات، وفي تحديد كيفيَّة إدراك المتلقي لها.

 

إذا جَسَّرَت الأيديولوجيا المسافة بين الإله ومخلوقاته، بيقينٍ زائف في المخلوقات وأفعالها ومجال حركتها الجغرافي والتاريخي؛ أفضى ذلك إلى إلغاء المسافات، وانحدر الواقع ليصير جحيمًا حلوليًّا كُفريًّا في إهاب "فردوس إيماني" أرضي.

 


وقد كان مفتاح إدراكنا للأزمة هو معرفتنا أن أعظم الروايات شُهرةً وأثرًا ـ في هذا الباب ـ هي تلك التي تتناول أحداث آخر الزمان، إذ "تُعَظِّمُ" الشام بوصفه الملجأ والملاذ "المكاني" عند الفتن، التي ستندَلعُ آنذاك؛ في نهاية الزمان التي لا نعرِفُ موعدها. 

ثم إن النزوع الطهوري النيوسلفي ـ الذي تتلبَّس به الفصائل المقاتِلة ـ لا يسعى لمجرد "التنبؤ النظري" بموعد نهاية الزمان، وإنما يطَّرِدُ إلى التنزيل الحركي/ العملي للنصوص "الجغرافيَّة" على الزمان الراهن (بوصفه المجال الزمني للمكان "المعيَّن" في النص)؛ لإنهاء التاريخ والتكليف، بأيديولوجيَّة صلبة صادرة عن يقينٍ مُلفَّقٍ زائف؛ فتزداد الحرارة المشيحانيَّة داخل التاريخ، حتى تبلغ إضفاء القداسة على المجال الزمني الآني؛ ليتحول المجال الزمني "المجهول" في روايات "فضائل الشام" إلى مجال زمني راهِن "معلوم"، مُتقاطع مع "القداسة" التي أُسبِغت على المكان "المتخيَّل" جرَّاء كثرة تداول هذه الروايات. 

هذا التقديس الطوباوي للمكان مقرونٌ بتضييقهم نطاق الشام أولًا إلى سوريا الحاليَّة، ثم إلى دمشق، ثم إلى الغوطة؛ مُتجاهلين ـ عمليَّا على الأقل ـ لبنان والأردن وفلسطين، رغم أن الأخيرة يحتلّها كافرٌ أصلي يسوم أهلها سوء العذاب!! 

لكنَّ هذا التضييق المكاني طبيعي ومفهوم، فهو جزء لا يتجزأ من الرؤية الطوباوية لجغرافية الفردوس الأرضي "النصيَّة"، التي تزداد تحدُّدًا كلما ازدادت الحرارة المشيحانيَّة التي تُسبَغ على الزمان/ التاريخ، بآنيَّته وراهنيَّته؛ فتنكمِش آفاق النص، وتضيق دلالاته "الجغرافيَّة"، رغم انفساح خرائط التأويل. ومرجع ذلك هو محاولة المدرِك "ضبط" عمليَّة الحلول التي يتحد فيها التاريخ بالجغرافيا، ليصدر عنهما الوعي الغنوصي؛ فإن تضييق نطاق الجغرافيا يستهدِف أن تَحِلَّ فيها لحظة تاريخية آنيَّة راهنة، مُلِحة سوسيومعرفيًّا وجيوسياسيًّا إلحاح لحظة القذف الجنسي، إذ أن هذا الحلول المقدَّس هو الذي سيخلق المعنى خلقًا.

 

لاحظ أن الوحي الإلهي حين عيَّن قداسة البيت الحرام، وحُرمة أشهرٍ بعينها، بل وجمع حُرمة المكان إلى الزمان ـ كما بيَّنَت خطبة الوداع مثلًا على لسان حضرة المبلغ المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم ـ فإنه قد رفع حرمة الإنسان فوق هذه الحرمة الفذَّة

 



وعليه، تنبع إشكاليَّة تعاطي "الفصائل المسلَّحة" مع هذه الروايات من كونه تعاطيا حداثيا يؤدي إلى الحلول، أي "حلول القداسة" الإلهيَّة في الزمان الآني بعد المكان "المعيَّن". وهذا الحلول يؤدي إلى تقويض أهم معالم التوحيد ومبادئه، ويُفضي بالتبعية إلى استباحة الإنسان وتقويضه. فإن هذه القداسة التي يُسبغها البشر على الزمان والمكان، أو على التاريخ والجغرافيا معًا؛ تحطم تصورهم التوحيدي للألوهيَّة، إذ تُوهِم بتجسُّد الإرادة الإلهيَّة في المكان والزمان الآنيين، ومن ثم في الفعل البشري داخلهما؛ فيسقُط التكليف ـ عمليًّا ـ خصوصًا عن المتسلِّط فوق الرقاب بشوكته. 

ولاحظ أن الوحي الإلهي حين عيَّن قداسة البيت الحرام، وحُرمة أشهرٍ بعينها، بل وجمع حُرمة المكان إلى الزمان ـ كما بيَّنَت خطبة الوداع مثلًا على لسان حضرة المبلغ المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم ـ فإنه قد رفع حرمة الإنسان فوق هذه الحرمة الفذَّة، حتى يَحول دون توظيف تلك الحرمة المركَّبة في تجسيد القداسة و"تحقيق" الحلول، الذي يستبيح الإنسان الرباني ويحطمه باسم "الفردوس الأرضي" للإيمان! 

وإذا كان المولى جلَّ شأنه قدَّر الأقدار لتجري من خلال الإرادة البشرية، فإنه لم يترك الكون هملًا، وإنما جعل ما نسميه بـ"المسافة الوجوديَّة" ـ بينه تعالى وبين خلقه ـ هي عينها مسافة "اللا تيقُّن المعرفي"، أي أن المسافة الكلاميَّة/ العقديَّة مقرونة دومًا بمسافة إبستمولوجيَّة. 

وإذا كان التوحيد يؤكد المسافة والثنائيَّات في الوجود، فإنه يولِّد مسافة كذلك في اليقين المعرفي؛ ليصير اليقين الوحيد الممكن داخل التاريخ ـ بحسب التصور التوحيدي ـ هو اليقين في الإله المتجاوز لمخلوقاته. فإذا جَسَّرَت الأيديولوجيا المسافة بين الإله ومخلوقاته، بيقينٍ زائف في المخلوقات وأفعالها ومجال حركتها الجغرافي والتاريخي؛ أفضى ذلك إلى إلغاء المسافات، وانحدر الواقع ليصير جحيمًا حلوليًّا كُفريًّا في إهاب "فردوس إيماني" أرضي. 

وما ذلك إلا لأن التيقُّن المعرفي الكامل داخل التاريخ والجغرافيا يؤدي إلى قداسة متوهَّمة للفعل في ذلك السياق، مما يجعل صاحب المعصية يتوهَّم أنها لا تضره؛ لأنه المؤمن "المعصوم"، الذي قبس عصمة الزمان والمكان. وهذا التألُّه عينه هو سبب الدمويَّة الحداثيَّة المفرِطة، التي تتجلَّى في مسلك أكثر الفصائل المسلَّحة، وكل الطواغيت المحدَثين.

وسنكتفي في هذا الجزء من المقال بالاستعراض الآنِف للعمليات الفكريَّة، التي تمخَّض عنها الإدراك النيوسلفي الحداثي المشوِّه للروايات الحديثيَّة موضع الدرس، على أن نُجرِّد في الجزء الثاني الملامح الرئيسة لهذا الإدراك تفصيلًا، لتتكشَّف لنا ـ بتجريد هذه الملامح ـ عناصر الإخفاق السياسي المريع، الذي أثمرته حركة هذه الفصائل ـ بإدراكها المبيَّن ـ في المجال الاجتماعي "السوري"!