آراء ثقافية

هبة رؤوف عزت: نحو أخلاقٍ جديدة

هبة عزت (1)

أكتب هذا النص، بعيدا كُل البعد عن إحاطة إنسانٍ ما بهالةٍ من الجماليّة أو القداسة عن النقد أو المراجعة، بل هنا أناقش نموذجا إدراكيا ومعرفيا وأخلاقيا يتجسّد في لسان يتكلم مع الناس، قلما وجدناه في زمننا المعاصر، هذا اللسان تملكه أستاذة العلوم السياسية، والكاتبة المصرية هبة رؤوف عزت.

 

وهي من مواليد 1965، تعمل مُدرسة للعلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وأستاذة مساعدة بالجامعة الأمريكية في القاهرة، وزميلة زائرة في وحدة المجتمع المدني والأمن البشري في كلية لندن للاقتصاد في المملكة المتحدة، وبعيدا عن السلك الأكاديمي، فهي لها العديد من المؤلفات الكتابية المُتمثلة في الكُتب والدراسات والمقالات، فضلا عن الكثير من المحاضرات التي تتناول حقولا معرفية متعددة تتداخل بين الاجتماع والنفس والسياسية. فما هي ملامح الطرح والاشتباك عند هِبة عزت؟ وكيف تحاول دائما الانتقال من النظرية إلى الممارسة؟


أطروحات متنوّعة


لا تمتلك هبة رؤوف مشروعا فكريا مُحددا يؤخذ من البداية إلى النهاية، وهذا ما جعلها غير متقيّدة، إذ هي تُلاحظ حالة طارئة على حركة تاريخية مُعيّنة، سواء في منهج لحركة دعوية أو ممارسات ضمن حيوات اجتماعية، أو نُظم سياسية ضمن إدارة الدول. وهذا ما ينقلها سريعا وبخفّة، وبفضل مَلمحها البديهيّ، إلى التأطير النظري حول تلك الممارسات، ساعية إلى تفكيكها وتحليلها وإنتاج كمّ معرفي سواء مكتوبا أو مرئيا للنقاش والمعالجة.


ففي كتابها الأشهر “الخيال السياسي للإسلاميين: ما قبل الدولة وما بَعدها" الصادر عام 2015، تُراجع بالنقد، المِخيال السياسي لدى الحركات الإسلاميّة، وتبيان مدى اختلال رؤيتها للأشياء من حولها، سواء من ناحية النظر إلى الدولة القومية الحديثة بسطحيّة، وعدم تعمّقها في مفهوم الدولة وممارساتها تجاه السياسية والاجتماع والإنسان، كذلك تُشير إلى البُعد السياسي الطاغي لدى تلك الحركات، ما أفقدها بُعدا لا يقل أهمية، وهو البُعد الاجتماعي، فضلا عن الجمود الخطابي والمنهجي لدى الحركات الإسلامية التي تُصدّره للناس، سواء أمة الإسلام في داخل القطر التنظيمي والعربي والإسلامي، أو حتى التي تصدّره إلى العالم غير الإسلاميّ.


أيضا، هبة عزت، فككت ممارسات الخروج من أنفاق التيه المُظلمة التي أغرقت الكثيرين من الأفراد والاجتماعات، في كتابها "نحو عمران جديد" الصادر عام 2015، حيث اشتبكت مع تمظهرات عدّة تجلّت في أزمنتنا المعاصرة، إذ تناولت فيه علاقة الأخلاق بالعمران، وهو حقل معرفي مُهم وازدادت الكتابة بشأنه في الأعوام الأخيرة، وذلك للأثر الواضح الذي فرضه العمران النيوليبرالي على سيميائيّات/رمزيّات الإنسان، من حيث جَسده ولسانه. (للمزيد حول الظاهرة، انظر. إدريس مقبول، الإنسان والعمران واللسان، للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1 الدوحة 2020).


في نفس السياق، تعد هبة رؤوف من أبرز ناقدات الحداثة خاصة التمظهرات من حولنا، فهي دائما لا تكفّ عن رصد الممارسات، لاسيما الخاصة بالاجتماعات المصريّة، وتفكيكها ونسبها إلى النظريات التي أطّرها أبرز نقاد الحداثة، مثل باومان، فوكو، لوك فيري، مارك أوجيه، جي ديبور وغيرهم. كما أنّها قدمت سلسلة السوائل الشهيرة لكاتبها الاجتماعي البولندي زيجمونت باومان، وهم (الحداثة السائلة، المراقبة السائلة، الحب السائل، الحياة السائلة، الأزمنة السائلة، الشر السائل، الثقافة السائلة، الخوف السائل) حيث انتقد باومان فيهم، سيولة الأشياء المادية والروحيّة في أزمنتنا المعاصرة والراهنة، وقد مهدت عزت ببساطة للقارئ العربي ما يريد باومان إيصاله.


كما أنها منذ البداية، ساهمت في تفكيك الجدل حول قضيّة المرأة الإسلامية وعلاقاتها بالاجتماع والسياسة، محاولة نقد الممارسات التي ليس لها علاقة بالتراث أو الشريعة الإسلاميّة، ذاكرة نماذج تراثية لم تستغن عن دور المرأة، التي بلا شكٍّ، قد ساهمت في بناء الأمة والحضارة. وهذا من خلال محاضراتها المستمرة عن المرأة وقضيتها، فضلا عن كتابها "المرأة والعمل السياسي: رؤية إسلامية" الصادر عام 1995.


لا للتنظير، نعم للمُمارسة


تعد عزت ضمن ممّا قد يُطلق عليهم لفظ المثقف المُمارس/المشتبك، فهي دائمة الحضور ضمن اللقاءات المعرفية التي تجمعها مع الشباب المُتعلم، والشباب الباحث، أكثر ما تكون متواجدة في الفضاءات التي تجمعها بالنخبة الأكاديمية من نظرائها، فتجد لها عشرات المحاضرات التي تنظمها دور النشر والجمعيّات النشطة في المعرفة ومراكز الأبحاث والدراسات والمؤسسات التعليميّة في حقول الإنسانيّات.


هذه اللقاءات دائما ما تكون مُمتلئة بالشباب من طُلاب العلم، والتي من خلالها تحاول عزت تبسيط التنظير إلى أقصى درجة والانتقال إلى الممارسات اليوميّة للشباب، المُتأثرة بحداثة الأزمنة الراهنة، فتحاول تفكيك علاقة الإنسان بتمظهرات الحداثة، ومن أهمها علاقته بالتكنولوجيا المُتمثلة في وجودنا على وسائل التواصل الاجتماعي، وكيفيّة تشكّل ثقافتنا، أي طِباعنا وسلوكياتنا، التي تُفعّل بواسطة أجسادنا وأرواحنا، وغير ذلك من التمظهرات التي طرأت على الإنسان المُعاصر، وما زالت محل تفكيكٍ وَجدلٍ لدى الكثيرين.


كما أنّها استطاعت -وهذه سمة مميّزة- أن تخلق بينها وبين المُتناقشين معها حول الحقول المعرفية، مساحة ترابطيّة تعتمد على العلاقات الإنسانيّة الطيبة، بعيدا عن المعرفة والعلم، ولاسيما عند الفتيات، اللاتي يستمددن منها خبراتها الحياتية والشخصية، كما أنّها دائمة النصح والإرشاد لهُن، في مجالات متعددة من حياتهنّ، وهذا ما جعلها قريبة إلى حدٍ كبير من أجيال متعددة من الطلاب والباحثين، بفضل وجودها الدائم، مبتعدة عن التعالي الأكاديمي، الذي لا ينظر إلّا لفردانيّته، ويغض النظر لِمن حوله.


وبالرغم من أن مُعظم اجتهادات عزت تدور حول الاجتماع، إلّا أنّها تعظّم الصلة الروحية بين الإنسان والإله، فلها ما كتبته بعنوان "في ظلال رمضان" وهو كتاب، يجمع بعض الرقائق، ليس بِمضمونها الروتيني المفصول عن الواقع، بل كتاب روحاني واقعيّ، يحاول عبر كلماته، حثَّ الإنسان على التقرّب نحو السلوكيّات الأخلاقية، مبتعدا عن الحياة المادية الصلبة التي تلهث وراء المادة وفقط، يُضاف إلى ذلك، إصرارها على تَشابك وتطبيق ودمج المعاني القرآنية بالممارسات الاجتماعيّة في واقع الإنسان الراهن.


وأخيرا، يحتاج الفضاء الثقافي العربي للمزيد من أمثال هبة عزت في إدراكها لمعنى التواصل الأخلاقي والمعرفي بين الناس، لاسيّما في الفضاء النسائي، فقلما تجد امرأة عربية تجمع بين الكثير من السمات الجيدة، مثل المعرفة الحقيقة لأدوات الثقافة في المساحات الإنسانيّة، بلا تدروش، أيضا مع عدم التخلّي عن الهُوية التي هي تنتسب لها في الأصلِ، آخذة مسافة حدوديّة من الافتنان بالأكاديمية الغربية، التي أحيانا، ينبني عليها نظرة استشراقية بشكلٍ أو بآخر. فضلا عن اشتباكها الدائم للإشكاليات الحصريّة التي تواجه اجتماعاتنا الإنسانية، وفي القلب منها العربية والإسلامية.