كتاب عربي 21

تونس: نحو بناء جبهة الدفاع عن الديمقراطية المهددة

1300x600
الإضراب عن الطعام وسيلة معروفة يلجأ إليها المحتجون عندما يضيق بهم الحال، وتتعطل وسائل الضغط الأخرى، فيلجؤون إلى تعريض حياتهم للخطر، عسى أن يضعوا السلطة في موقع حرج أمام الرأي العام المحلي والدولي.

في تونس اليوم إضراب عن الطعام يقوم به سياسيون ونشطاء يتحركون تحت مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب"، هذه المبادرة التي تعتبر من بين أهم الفعاليات التي تنشط حاليا على الساحة التونسية، والتي تتصدر في الداخل والخارج معارضة الرئيس قيس سعيد، والساعية نحو سحب الشرعية عنه وإبطال القرارات الاستثنائية التي أعلن عنها يوم 25 تموز/ يوليو الماضي. فبعد اعتماد البيانات ثم النزول إلى الشارع بالآلاف، ومحاولة الاعتصام الذي فضته قوات الأمن بالقوة، قرر الساهرون على هذه المبادرة اللجوء إلى أسلوب الإضراب عن الطعام.

كنت أتوقع شخصيا أن هذا الأسلوب الاحتجاجي إلى جانب الانتحار حرقا، لن يتم اللجوء إليهما من جديد إلى الساحة السياسية في تونس بعد سقوط نظام ابن علي وانطلاق الحريات في البلاد، لكن للأسف استعمل هذا الأسلوب بكثافة بعد الثورة وخلال السنوات العشر الماضية في أكثر من مناسبة، خاصة لتحقيق مطالب اجتماعية.
الرئيس سعيد لم يعبأ بجميع مظاهر الاحتجاج بعد أن احتكر كل صلاحيات الحكم، وأصبح هو صاحب القرار الوحيد في الدولة. كما تعامل سعيد مع معارضيه بكثير من الاستعلاء والاستخفاف، رغم تكاثرهم وتعدد مشاربهم، فقد تجاهلهم بالكامل

من أهم ما يلفت النظر في المشهد الراهن، أن الرئيس سعيد لم يعبأ بجميع مظاهر الاحتجاج بعد أن احتكر كل صلاحيات الحكم، وأصبح هو صاحب القرار الوحيد في الدولة. كما تعامل سعيد مع معارضيه بكثير من الاستعلاء والاستخفاف، رغم تكاثرهم وتعدد مشاربهم، فقد تجاهلهم بالكامل، ولم يفكر في دعوة بعضهم للاستفسار أو الطمأنة واحتواء غضبهم. على العكس من ذلك، استعمل في شأنهم خطبا نارية، وأخرى استعمل فيها لغة قاسية لم تخلُ من السخرية والاختزال. وأحيانا يكون الرد عبر اعتقال بعض معارضيه، وإصدار أحكام بالسجن، مثلما حصل مع الرئيس السابق محمد منصف المرزوقي الذي حكم عليه بأربع سنوات سجنا غيابيا.

أمام هذا الوضع الغريب، لجأ الخصوم إلى التصعيد السياسي والانتقال إلى أشكال نضالية يعود بعضها إلى مرحلة ما قبل الثورة. ورغم أن غالبية الأحزاب لا تزال متمسكة بالأشكال الاحتجاجية القديمة، إلا أن عددا من المستقلين قرروا تجاوز هذه الأحزاب بشكل مؤقت، وسعوا إلى خلق حالة سياسية جديدة غير مقيدة بالحدود التي وضعتها الأحزاب لنفسها. بل هذه الشخصيات المستقلة في معظمها أصبحت تمارس بعض الضغوط على التنظيمات الحزبية، بهدف جرها نحو مربع المواجهة الصريحة والموحدة والمباشرة لرئيس الدولة.
هناك من يقللون من أهمية هذا الإضراب، وينسون أن التقلبات والمنعرجات السياسية قد تحدث فجأة، وقد تغير مجرى الأحداث، وأن ذلك يمكن أن يحدث انطلاقا من حركة رمزية

هناك من يقللون من أهمية هذا الإضراب، وينسون أن التقلبات والمنعرجات السياسية قد تحدث فجأة، وقد تغير مجرى الأحداث، وأن ذلك يمكن أن يحدث انطلاقا من حركة رمزية. فالذي يجري حاليا داخل مقر حزب "حراك تونس الإرادة" الذي يحتضن المضربين عن الطعام قد يشكل خطوة نحو منعطف سياسي مهم خلال الأيام والأسابيع القادمة.

لقد أصبح هذا المقر مركز استقطاب لعدد متزايد من الشخصيات والفاعلين السياسيين، يلتقون هناك، يتشاورون ويعلنون بوضوح عن مساندتهم للمضربين، ويرفضون علنا مواقف رئيس الدولة وسياساته. حتى البعض من أولئك الذين لا تربطهم علاقة بالمعارضة، قرروا التحول إلى مكان الإضراب والتعبير عن مساندتهم للمبادرة، مثلما فعل علي الكعلي، وزير المالية والتخطيط في حكومة المشيشي المقالة.

تتمثل الخطوة المفقودة في المشهد السياسي الراهن، التي ينتظرها الكثيرون، في بناء جبهة سياسية واسعة من أجل حماية الديمقراطية. هذه الخطوة التي لا تزال معارك الأمس بين الأحزاب تحول دون الإقدام عليها، وهي التي جعلت هذا الحراك بدون تأثير فعلي على الحالة السياسية. كما لا يزال الخوف والتوجس من "حركة النهضة" يفعلان فعلهما، ويحدان من جدوى الاحتجاج القائم ويقفان وراء تشتت المعارضة.
يمكن لهذا الإضراب عن الطعام أن يوفر بيئة ملائمة لتقريب وجهات النظر بين خصوم الأمس، ويجعل الإعلان عن تحالف ظرفي يهدف إلى تغيير موازين القوى في البلاد احتمالا واردا

مع ذلك يمكن لهذا الإضراب عن الطعام أن يوفر بيئة ملائمة لتقريب وجهات النظر بين خصوم الأمس، ويجعل الإعلان عن تحالف ظرفي يهدف إلى تغيير موازين القوى في البلاد احتمالا واردا. من هذه الزاوية يكتسب التصريح الذي أدلى به نجيب الشابي دلالة خاصة عندما قال: "بعد الحكم على المرزوقي حان الوقت لنمد أيدينا مع بعضنا لإنقاذ تونس".

فسياسة الرئيس سعيد قادرة على أن تجمع خصومه، مهما كانت الخلافات التي تفصلهم بعضهم عن بعض. المهم أن تتحمل حركة النهضة مسؤوليتها، وأن تطمئن بقية الأطراف الحزبية بأنها لا تنوي هذه المرة من الالتفاف فيما بعد على الجهود الجماعية لكل الأطراف الحزبية وغيرها. فالجميع يشعرون بالخطر، وجميعهم اليوم غير مطمئنين لرئيس الدولة الذي لم يخف رغبته في كنس جميع الأحزاب مهما كانت أفكارها وأحجامها وأوزانها، كما لم يتردد في محاولة تهميش بقية الكيانات الوسيطة التي يضمها المجتمع المدني، وفي مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل. وهو ما جعل الحزام المحيط بقيس سعيد يزداد ضيقا يوما بعد يوم، في المقابل تتسع دائرة المعارضين له يوما بعد يوم.