قضايا وآراء

ما هو مشروع القوى الغربية لتونس؟

1300x600

بصرف النظر عن السجال المستمر إلى أيامنا هذه حول علاقة "الثورات العربية" بالاستراتيجيات الغربية لإعادة هندسة المشهد الجيو ـ سياسي في المنطقة، لا يمكن لأي مراقب للشأن التونسي أن ينكر أثر التدخلات الخارجية في تشكيل المشهد العام منذ هروب المخلوع إلى السعودية يوم 14 كانون الثاني/يناير 2011. 

فما سمّي بـ "مسار الانتقال الديمقراطي"، لم يكن في الحقيقة إلا مسار الجدل بين أزمات الداخل وإملاءات الخارج وتدخلاته العلنية والسرية، حتى في كتابة الدستور وفي التوافق حول النظامين السياسي والانتخابي. 

فمنذ أن ترأس المرحوم الباجي قائد السبسي حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة، كان من الواضح أن هناك نية دولية لرسكلة المنظومة القديمة ومساعدتها على تجاوز صدمة الثورة، والعودة إلى مركز صنع القرار في "الجمهورية الثانية"، لكن بعد تطعيمها بالوافدين الجدد على الحقل السياسي القانوني، خاصة "حركة النهضة" وبعض الأحزاب القومية واليسارية.

منذ أشغال "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة"، سعت المنظومة القديمة ـ بدعم دولي ـ إلى توسيع قاعدتها الجهوية والزبونية، وتعديل نمط شرعيتها، لكن دون المس بـ "قاعدتها الإيديولوجية الصلبة" المتمثلة في السردية البورقيبية. ولم تكن الدولة العميقة لتجد أفضل من السردية البورقيبية للتلاعب بمسار الانتقال الديمقراطي، ومنع أية قطيعة جذرية مع المنظومة الاستبدادية بلحظتيها الدستورية والتجمعية، كما لم تكن المنظومة القديمة لتجد أفضل من معركة "الدفاع عن النمط المجتمعي التونسي" لترسيخ الانقسامات الهوياتية، وحرف الرأي العام عن معاركه الحقيقية ضد الجهوية والزبونية والتبعية والتخلف والفساد، الذي تحوّل إلى سياسات دولة. 

لقد استطاعت التأثيرات الخارجية أن تفرض نوعا من التوازنات الهشة بين مختلف الفاعلين الجماعيين في تونس، كما استطاعت تلك التأثيرات أن تحافظ على التوازن بين السلطات، وأن تعيد هندسة المشهد السياسي عقب كل الأزمات الدورية التي عرفتها منظومة الحكم زمن الترويكا (الاغتيالات السياسية) وزمن "التوافق" (تصدع نداء تونس). وكان من الواضح ـ خاصة بعد تجنيب تونس السيناريو المصري إثر سقوط الترويكا ـ، أنه لم تكن هناك نية غربية لإخراج الإسلاميين من الحقل السياسي القانوني بمنطق الانقلاب، كما يريد محور الثورات المضادة (المحور الإماراتي ـ السعودي ـ المصري). 

لم تكن القوى الغربية ـ باستثناء فرنسا ـ ترى في التطبيع مع حركة النهضة أي خطر وجودي على مصالحها المادية والرمزية، ولذلك لم تعمل على دعم الخطابات الاستئصالية الصلبة الداعية إلى تحويل الإسلاميين إلى ملف أمني ـ قضائي، ولكنها لم تعمل أيضا على إضعاف الخطابات الاستئصالية اللينة أو الناعمة، وفرض تسويات تاريخية حقيقية بين الإسلاميين والقوى اللائكيّة، بعيدا عن منطق الصراع الوجودي واستراتيجيات النفي المتبادل. لقد كان من مصلحة الغرب ـ ومازال ـ أن تبقى تونس استثناء ديمقراطيا عربيا "مدجّنا" وضعيفا، أي نموذجا للديمقراطية الصورية التي لا تقبل التصدير ولا تهدد الجوار الإقليمي أو المصالح الدولية في المنطقة.

 

لم تكن القوى الغربية ـ باستثناء فرنسا ـ ترى في التطبيع مع حركة النهضة أي خطر وجودي على مصالحها المادية والرمزية، ولذلك لم تعمل على دعم الخطابات الاستئصالية الصلبة الداعية إلى تحويل الإسلاميين إلى ملف أمني ـ قضائي، ولكنها لم تعمل أيضا على إضعاف الخطابات الاستئصالية اللينة.

 



مهما كان دور بعض القوى الدولية والإقليمية في حدث 25 تموز/يوليو، فإن "الانقلاب" بقراءته المتعسفة للفصل الثمانين من الدستور، وبإجراءاته ومراسميه وخارطة طريقه، لم يكن إلا التعبير الأقصى عن معطيين مركزيين، لا يمكن فهم الواقع التونسي إلا باستحضارهما: 

من جهة أولى، أثبت "الانقلاب" هشاشة الوعي/ المنجز الديمقراطي، وغياب أي مشروع وطني جامع يكون نتيجة تفاوض جماعي حقيقي وبعيد عن وصاية النخب أو القوى الدولية؛ (أي أثبت قابلية المشروع الديمقراطي للانتكاس والردة إلى مربع الاستبداد، بحكم غياب أية حصانة ذاتية  على مستوى الوعي أو المؤسسات).

ومن جهة ثانية، أثبت "الانقلاب" قوة التدخلات الخارجية الهادفة إلى إجهاض التجربة الديمقراطية الوليدة، ومنع تحولها إلى نموذج للعمل المشترك أو الاعتراف المتبادل بين الإسلاميين والعلمانيين، بعيدا عن منطق التكفير ومنطق التخوين (أي أثبت ارتهان مسار الانتقال الديمقراطي ومخرجاته للقوى الخارجية، بحكم غياب مقوّمات السيادة وضعف الخيار الديمقراطي حتى لدى النخب).

قبل صدور المرسوم 117 المؤرخ في 22 أيلول/سبتمبر، لم يكن الموقف الغربي من إجراءات 25 تموز/يوليو موقفا سلبيا، وإن لم يكن موقفا داعما بصورة صريحة للرئيس. فقد قوبلت الإجراءات الرئاسية بترحيب كبير من أغلب مكونات المشهد التونسي، بل يبدو أنها قد جاءت استجابة لانتظارات جزء كبير من الشعب. 

ولكن، بعد صدور ذلك المرسوم سيئ الذكر (وهو المرسوم الذي جعل للرئيس سلطة مطلقة لا تقبل الطعن أو النقض، كما جعل أوامره وقرارته أعلى رتبة من القانون والدستور)، خسر الرئيس جزءا مهما من حزامه السياسي والمدني والنقابي؛ بحكم تجييره "حالة الاستثناء" لمصلحته الشخصية وتحويلها إلى مرحلة انتقالية في خدمة مشروعه السياسي. كما فقد الرئيس تدريجيا دعم القوى الغربية التي لم تعد ترى فيه مشروعا للإصلاح، بقدر ما أصبح رمزا لمشروع سياسي هلامي يهدد السلم الأهلي، وينذر بنسف المكاسب الديمقراطية ومبادئ العيش المشترك؛ كالفصل بين السلطات وتحييد المؤسستين الأمنية والعسكرية عن الصراعات السياسية وحماية الحق في التعبير، إلخ.  

 

أثبت "الانقلاب" قوة التدخلات الخارجية الهادفة إلى إجهاض التجربة الديمقراطية الوليدة، ومنع تحولها إلى نموذج للعمل المشترك أو الاعتراف المتبادل بين الإسلاميين والعلمانيين، بعيدا عن منطق التكفير ومنطق التخوين.

 



ظاهريا، يبدو أن الضغوط الاقتصادية والديبلوماسية التي تمارسها القوى الغربية على الرئيس لم تؤت أكلها؛ فمازال هذا الأخير مصرا على الانفراد بإدارة حالة الاستثناء والتحكم في مخرجاتها. ونحن لم نستعمل مفردة "ظاهريا"، إلا لأننا نؤمن بعدم وجود إرادة غربية لمساعدة تونس على الخروج من أزمتها الحالية بالضغط الحقيقي على الرئيس أو على خصومه. 

فالقوى الدولية لا تريد إسقاط الرئيس التونسي، ولكنها تريد لنظامه أن يبقى في حالة موت سريري، ولذلك هي تمده فقط بما يبقيه بعيدا ـ بصورة مؤقتة ـ عن مخاطر الاحتراب الأهلي وانهيار الدولة. كما أن هذه القوى الدولية لا تريد الرجوع إلى منظومة ما قبل ٢٥ تموز/يوليو، ولكنها لا تسعى إلى قطع علاقاتها مع ممثليها ولا تنكر شرعيتهم، ومازالت تدعو إلى ضرورة تشريكهم في أي حوار وطني. 

وأخيرا، فإن هذه القوى الدولية لا تريد أيضا التمكين للمنظومة القديمة عبر الدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة، رغم أن كل استطلاعات الرأي تشير إلى أن وكلاء الدولة العميقة وورثة التجمع المنحل، سيكونون هم الرابح فيها في حال إجرائها خلال تسعين يوما كما ينص الدستور. 

 بعيدا عن البيانات الديبلوماسية الكاذبة، يبدو أن القوى الدولية تحرص على استمرار الأزمة التونسية، بل تعمل على تعميق هذه الأزمة ومنع أي توافقات أو تسويات تونسية ـ تونسية. فمن مصلحة الجهات المانحة/ الناهبة لتونس منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا أن تدفع بالأزمة إلى الأقصى كي تستطيع فرض شروطها على البلاد، فالإفلاس وحده هو القادر على ضرب أية ممانعة للإملاءات الاقتصادية (تخفيف كتلة الأجور، رفع الدعم عن المواد الأساسية والمحروقات، بيع المنشآت العمومية، إلخ)، كما أن الإفلاس وحده هو الذي سيكون مدخلا ملكيا لفرض الإملاءات السياسية، سواء في مستوى هندسة المشهد الداخلي أو في مستوى العلاقات الخارجية، خاصة ما يتعلق منها بمسألة التطبيع مع الكيان الصهيوني والموقف من صفقة القرن.