الذاكرة السياسية

الأحمر يشارك بحماية الجمهورية مع السلال ومن ثم الانقلاب عليه

في بدايات الثورة الجمهورية الشيخ الأحمر مع المشير السلال والأستاذ النعمان.

في 19 أيلول (سبتمبر) عام 1962 توفي الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين، وخلفه ابنه ولي العهد الإمام محمد بن أحمد البدر، الذي كان محط أنظار الإصلاحيين في اليمن، لكنه خذل المراهنين عليه، عندما أكد في خطاب العرش، أنه سيسير على خطى والده و"سياسته الرشيدة". حاول اتخاذ بعض الإجراءات الانفراجية، ومن بينها إطلاق سراح سجناء سياسيين، إلا أنه رفض الإفراج عن الشيخ عبد الله الأحمر. 

في هذا الوقت، كانت مجموعة من "الضباط الأحرار" تستعد لقلب الحكم الإمامي وإقامة نظام جمهوري في البلاد. نجح الانقلابيون في الإطاحة بالبدر، الذي نجا بأعجوبة من قذائف مدفعية انهمرت على "دار البشائر" قصره في صنعاء القديمة. انصرف قادة الانقلاب لترتيب شؤون الحكم، فعينوا المشير عبد الله السلال قائدا لحركتهم وطاردوا الإمام الفار وأنصاره، لتدخل اليمن في حرب أهلية لن تتوقف إلا عبر المصالحة بين الجمهوريين والملكيين عام  1970.

كان الشيخ عبد الله في "سجن المحابشة" في حجة منذ العام 1959 وحتى 26 أيلول (سبتمبر) عام 1962 كما مر معنا من قبل. في صباح الانقلاب على البدر، وكان يوم خميس، فتح مذياع راديو صغير كان يحتفظ به في سجنه، فإذا به يسمع خبر الإطاحة بالإمام. خرج للتو من سجنه (في منزل أشبه بالإقامة الجبرية)، وشجع عامل المنطقة على تأييد الثورة وإصدار برقية دعم للثوار، وقرر السفر في اليوم التالي إلى صنعاء.

بعد ظهر اليوم نفسه وفي نهاية المقيل، وصلت برقية من المشير عبد الله السلال إلى عامل المدينة تحضه على إطلاق سراح الشيخ عبد الله الأحمر، وتطلب من الشيخ العودة على جناح السرعة إلى العاصمة.

خبر الثورة من صوت العرب

روى لي الشيخ تلك اللحظة بدقته المعهودة، "جاءني مدير السجن وقال: من هو السلال؟ أنا لا أعرفه. أريد أمرا بإطلاق سراحك من الإمام البدر، فقلت له: "ما عدتش في إمام إنه تحت الأنقاض" فأجابني: هذه أخبار "صوت العرب" وليست أخبار إذاعة صنعاء. فقلت له: "شوف يا شيخ علي، أنا موجود عندك في السجن منذ ثلاث سنوات. كنا خلالها عبارة عن ضيوف عندك. لم تجرحني ولم تتعرض لي بالإساءة. كثّر الله خيرك وأنا شاكر لك. لا تغير موقفك الآن وتجعلني أغِّيرُ رأيي فيك. أنا مسافر غدا صباحا سواء جاء أمر بإطلاقي من السلال أو من السماء. أنا مسافر صباحا رضيت أنت أم كرهت. فأجابني: أنت محبوس عندي منذ ثلاث سنوات وغدا تكون ضيفي. تأتي إلى منزلي ونتغدى معا ومن بعد تمشي إلى حيث تشاء، كان بيته قريبا من السجن، فقلت له تمام على بركة الله".

ويتابع: "في الليل، سمعنا من إذاعة لندن أن البدر خرج من تحت الأنقاض، وتوجه إلى جبال حجة المنيعة (حيث يقع سجن الشيخ الأحمر) وهو ما تم بالفعل. نصحني أحد المرافقين بالسفر ليلا حتى لا يسلمني مدير السجن هدية للبدر إذا ما سمع خبر الإذاعة البريطانية. فقلت والله لن أهرب ولن أمشي إلا في الصباح وليقع ما يقع".

وختم قائلا: انطلقنا صباحا على ظهور الحمير حتى وصلنا إلى منطقة عبس التي خرجت بأسرها لاستقبالنا، ومنها استأجرنا سيارة واستبدلناها بأخرى في منطقة الزيدية ومنها إلى الحديدة، ووصلنا ليل الأحد إلى صنعاء، وفي الصباح خرجت لمطاردة البدر فوصلت إلى خمر (أحد معاقل حاشد، تقع شمال صنعاء وتبعد عنها بحوالي 100 كلم)، وفيها تجمع الناس حولي بأسلحتهم، ومنها اتجهنا إلى تهامة حيث التقينا جيشا من حاشد ومن الضباط النظاميين يقوده مجاهد أبو شوارب".

 

                               الإمام محمد البدر

يؤكد الشيخ عبد الله أن قبيلة حاشد أدت دورا حاسما في انتصار الثورة الجمهورية ويرجع السبب إلى الظلم الإمامي، ولكن أيضا إلى التكفير عن خطأ ارتكبته القبيلة عندما تفاشلت في الدفاع عن الشيخ حسين الأحمر ونجله حميد، وعن الأسرة عندما نكل بها الإمام أحمد بل يحسم بالقول: "لولا اغتيال الإمام لأبي وأخي، لكان موقف حاشد كموقف قبائل أخرى اصطفت إلى جانب الإمام".

ما كانت الثورة الجمهورية في عرف الشيخ عبدالله الأحمر امتدادا للثورة البورجوازية الفرنسية 1789م التي قلبت النظام الملكي وأقامت بدلا منه نظاما جمهوريا. كان يرى الجمهورية في اليمن على صورة النظام الجمهوري المصري أو السوري، بل كانت في عرفه بديلا غير أصيل". كنا جميعا نلتف حول الإمام البدر بوصفه إماما إصلاحيا. نسعى لوصوله إلى الحكم وإن فشلنا نقلب النظام ونجعله جمهوريا"، لذا كان معنى الجمهورية في عرفه وربما في عرف الأكثرية الساحقة من ثوار 26 سبتمبر، هو التخلص من إمام متسلط، على أن "تسود الشورى في البلاد، وكانت بعض الشعارات تستهوينا عندما كنا في السجن، ومن بينها شعار الاشتراكية الذي يطرح العدل أساسا للملك بدل التسلط والاستبداد والفقر". هذا الشعار وغيره من الشعارات المماثلة، كانت تصل إلى اليمن عبر وسائل الإعلام المصرية، التي أدت دورا أساسيا في خلق الوعي الثوري الجمهوري في هذا البلد، وفي مناطق أخرى في العالم العربي.

وداع آخر جندي مصري

لكن نجاح الثورة اليمنية ما كان مضمونا، خصوصا بعد أن تمكن الإمام محمد البدر من الفرار من صنعاء والتمترس في حجة وتعبئة أنصاره الكثر من القبائل اليمنية، وتلقيه دعما كبيرا من المملكة العربية السعودية ومن الدول الغربية التي تناصب الرئيس جمال عبد الناصر العداء. وكان على الرئيس المصري أن يرد على التدخل الخارجي لصالح الإمام البدر، ودعما لحركته بإرسال قوة من الجيش المصري إلى اليمن لحماية الثورة والجمهورية اليمنية، التي صارت حليفا لمصر وطلبت منها المساعدة.

قاتل الشيخ عبد الله الأحمر مع المصريين في معارك الدفاع عن الثورة، "كان المصريون يطمئنون إلي ويأمنون للعمل مع قبائل حاشد. كنا نفديهم بنفوسنا. اشتركنا معا لسنوات في معارك ضارية دفاعا عن الجمهورية، وبذلنا تضحيات كبيرة من أجل حمايتهم. وهم بذلوا تضحيات مهمة من أجل الثورة. هذا الواقع لا يمكن نكرانه، لكن الحكومة المصرية صارت تتدخل من بعد في شؤوننا الداخلية، وتحاول فرض خيارات معينة علينا، ومن بينها الإصرار على التمسك بالمشير عبد الله السلال في منصبه؛ لأنه ترك القضايا اليمنية مفتوحة أمام تدخل الضباط المصريين في كل شيء، الأمر الذي أدى إلى تكتل القسم الأعظم من قادة اليمن ضد السلال، وبدلا من أن تنتبه الحكومة المصرية إلى هذا التحول، جربت أن تفرض علينا السلال فرضا. 

حاول سياسيونا شرح خطورة هذه السياسة للرئيس عبد الناصر، لكنه اعتقل الذين زاروه ووضعهم في السجن، وهم قيادات اليمن الكبار ومن بينهم القاضي الأرياني والأستاذ النعمان وقادة كبار في الجيش. وفي صنعاء، اعتقلت القوات المصرية شخصيات يمنية كثيرة، فانتقلت وأنصاري مع ما تبقى من القيادات السياسية والضباط إلى مقرنا في مدينة خمر. مع الأسف، لم تفرج الحكومة المصرية عن المعتقلين، إلا بعد هزيمة حزيران (يونيو) 1967" والكلام دائما للشيخ الأحمر، الذي يروي أن الهزيمة كانت صاعقة في نفوس كل اليمنيين، وأنه طلب من الحكومة المصرية أن تسمح لثلاثة آلاف مقاتل من حاشد بالمشاركة في الدفاع عن مصر. والجدير ذكره أن الشيخ عبد الله الأحمر كان قد رافق الجنرال المصري عبد القادر حسن إلى ميناء الحديدة عشية حصار السبعين يوما، الذي ضربه الملكيون حول صنعاء، وكان آخر قائد عسكري مصري يغادر الأراضي اليمنية.

حصار صنعاء

تسببت هزيمة حزيران (يونيو) الشنيعة بتغيير أساسي في السياسة الخارجية المصرية تجاه اليمن، فقد سحبت القاهرة قواتها العسكرية من هذا البلد، وعقدت صلحا مع المملكة العربية السعودية، الأمر الذي أدى إلى تقدم الملكيين نحو صنعاء ومحاصرتها لمدة 70 يوما في الفترة الواقعة بين 28 تشرين الثاني (نوفمبر) 1967 و7 شباط (فبراير) عام 1968.

سيؤدي الشيخ عبد الله الأحمر دورا أساسيا في الدفاع عن صنعاء خلال الحصار المحكم الذي فرضته القوات الإمامية، ومعها فرق من المرتزقة الأجانب وعدد كبير من زعماء القبائل الذي تجمعوا حول العاصمة بقيادة رموز معروفة من آل حميد الدين. وكان مقدرا لهذا الحصار أن يحمل المدافعين عن صنعاء على الاستسلام، لكن الصمود البطولي الذي شارك فيه طيارون من سوريا واستفاد المحاصرون من صفقة أسلحة روسية ودعم لوجستي صيني.

 

 الشيخ مجاهد أبو شوارب صهر الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر وأحد أهم أركان قبيلة حاشد.

كان الشيخ الأحمر يقاتل مع أنصاره داخل العاصمة وخارجها، وقد أصيب في إحدى المعارك وخرج من المستشفى لمواصلة القتال والتفاوض مع شيوخ القبائل لحماية طرق الإمداد للمحاصرين، وكان يعاني من خيانات مشايخ كثر لم يحترموا تعهداتهم، مراهنا بتصميم لا يلين على انتصار تم في نهاية المطاف بعد تضحيات كبيرة، وكان عليه أيضا أن يحافظ على التوازن في صفوف المدافعين عن المدينة، وبينهم تيار يساري قوي كان يرغب في أن ينتهي الحصار بانتصار مزدوج على الملكيين وعلى مشايخ القبائل الجمهوريين في الآن معا، ومن ثم إقامة حكم يساري على غرار الحكم الذي سيستقر للتو في جنوب اليمن.
 
ملاحظة: 

وقع لغط في تصنيف القبائل وفي تقدير أحجامها في الحلقة الأولى من هذه السلسلة. تنتمي قبيلة همدان المتاخمة للعاصمة إلى همدان بن جشم بن حاشد، وليس إلى همدان الكبير أي همدان بن زيد بن كهلان كما ورد في الحلقة. أما قبيلة مذحج، فليست أصغر القبائل بل تساويها أو ربما تتعداها في الحجم، وهي تضم قبائل مراد في مأرب والحدا وعنس في ذمار ومعظم محافظة البيضاء وقبيلة العواذل، وعلة في دثينة في أبين والعوالق وبني هلال وخليفة وبالعبيد في شبوة. أما قبيلة بني بهلول المحاذية لسنحان، فهي تنتمي إلى بكيل وليس إلى حاشد. 

 

اقرأ أيضا: الأحمر.. مشيخة معمرة في بيئة إسلامية لم تخترقها الكولونيالية

 

اقرأ أيضاعبد الله الأحمر في عرين النظام الإمامي ومقاومة العثمانيين

 

اقرأ أيضا: الأحمر وفشل رهان الإصلاح يفتح باب الثورة والجمهورية في اليمن