الذاكرة السياسية

روح شباب الجزائر تبعث في فلسطين الحاضر.. المعركة واحدة (3)

لا غرابة في أن تجد الفرق بين أبناء باديس وأبناء باريس حرفا واحدا، بل وبين التعريب والتغريب نقطة واحدة قد تمثل وقفة ذبابة عابرة على صفحة كتاب أو خطاب، ولكنَّ وراء تلك النقطة في واقع الأمر قرونا من البناء الحضاري وبحارا من الدماء..
إذا كان الزمان غير الزمان فالإنسان هو الإنسان وفريضة الدفاع عن النفس والأرض والعرض لا تسقط عنه إلى  يوم الدين. وسنة التدافع بين الناس والحضارات والقيم تجعل دوام الحال من المحال ولو دامت  للأولين لما دانت للآخرين!؟ وأن الكيل بمكيالين في حقوق الإنسان من القائمين على مجلس الأمن المخيف هو سبب كل الخلل في المعايير والموازين وهذا الدمار المبين..

وفي تاريخ الحروب والثورات التحريرية العظمى دروس للمعتبرين وأن الذكرى قد تنفع حتى البغاة  والعصاة والطغاة فضلا عن المؤمنين!!

وبمناسبة إحياء الجزائر للذكرى التاسعة والستين لثورة القرن العشرين بدون منازع في الفاتح من تشرين  الثاني (نوفمبر 1954) وربطا بما تصادفه إحياء هذه الذكرى من أحداث جسام جارية في الساحة والساعة  الدولية عرفنا إرهاصات بدايتها ولا نعرف نهايتها بعد.. نود أن نذكر المعتبرين بدروس التاريخ الحي الذي عشناه في هذه الثورة لحما ودما وجهادا و"استشهادا" لما يزيد عن السبع سنين مماثلة لما يراه العالم  على  المباشر يوميا من أهوال الحرب غير المتكافئة بين الحق والباطل في معركة الأحزاب الثانية في فلسطين الحالية والتاريخ بيننا يبقى دائما الشاهد الأمين على المحسنين والمسيئين والظلمة والمجرمين وأصحاب الحق المغتصب الذي لا يسترجع إلا غلابا وافتكاكا باليمين وتلك هي سنة الله في الأولين  والآخرين.

تأتي ذكرى هذا العام مشحونة بكثير من الآلام المبرحة والآمال العريضة في الوقت ذاته وهي تصادف قمة الثورة الجهادية الوريثة الشرعية لها في معركة الأقصى بشقيقتها الصغرى فلسطين.

لقد عايشت تلك الثورة الجهادية كابن شهيد ومجاهد في صفوف جيش تحريرها حتى توقيف القتال وتقرير المصير والاستقلال وكنت شاهدا على كثير من مجرياتها المفرحة والمقرحة بورودها وأشواكها؛ بأفراحها بانتصاراتها وأقراحها بالإحباطات والتقلبات والخيانات التي اعترضت مسيرتها الطويلة إلى النصر المبين!

ومن مميزاتها أن يوم انتصارها وتحقيق الاستقلال سنة 1962 كان هو يوم ذكرى الغزو والاحتلال سنة 1830 مما يعني أن كل استقلال قد يحمل بذور احتلال كما أن كل احتلال يحمل بذور استقلال إذا بقي عزم الرجال كما كان واقع  الحال.

وإدراكا مني بما للثورة الجزائرية من أوجه شبه وتطابق أحيانا مع ما يجري في فلسطين هذه الأيام، إلى درجة التوأمة (السيام) بين الثورتين وخاصة من جهة نوعية الاستيطان وفصيلة المستوطنين أنفسهم  خلفا عن سلف.. والدليل على ذلك هي آلاف القوافل من شهداء المغرب العربي الكبير  المدفونين في القدس الشريف على مر التاريخ  الإسلامي للأمة عندما كانت أمة حرة حتى تحت الاحتلال الأجنبي  الخارجي (الأرحم مع الأسف من الاستحلال الداخلي الراهن!!!!)، حيث ذهب أكثر من 4000  مجاهد سنة 1948 ودخلوا من أرض الكنانة سابقا لنجدة الأشقاء في الأرض المباركة التي لم تتغير في وجدان كل مسلم من المحكومين لاحقا في أمة المليارين من أصحاب العين البصيرة واليد القصيرة على امتداد سماع الأذان وتلاوة القرآن من جاكارتا إلى داكار ونواكشوط والرباط وتطوان مرورا بقسنطينة ووهران!؟!

وإني لهذا السبب وغيره أعيد نشر بعض فصول كتابي (جهاد الجزائر: حقائق التاريخ ومغالطات الجغرافيا)، هنا في صحيفة "عربي21"، وهو صورة حية عن جوانب مشرقة من ثورة القرن العشرين التي جسدت أمجاد الحرية والكرامة، تماما كما هو حال غزة وفلسطين هذه الأيام.. لما بين الثورتين من تطابق  وتشابه كما قلنا وعشنا في الثورة الأولى مقارنة بما نراه على المباشر في الثورة الفلسطينية العظيمة  الثانية التي اختصرت أمة المليارين (من غثاء السيل) في المليونين من أبناء الشعب الفلسطيني في غزة والقدس وجنين.

وإنني أدرك تمام الإدراك الصلة الوثيقة بينهما في حجم التضحيات ومعارك التحرير التي يخوضها الأشقاء  الفلسطينيون هناك (كما كان أشقاؤهم هنا لأكثر من سبع سنين دون انقطاع) في مواجهة أعتى احتلال وأشده شراسة، لا سيما وأنه احتلال يلتف حوله قادة العالم الغربي الاستعماري كله ويدعمونه انتقاما  من عدوهم اللدود على هزائمهم السابقة وإحياء لخلافات وأحقاد تاريخية دفينة..

كنا نعتقد، وأن بعض الظن  ليس إثما، أن ثورات الحرية والكرامة والسيادة والاستقلال التي عرفتها مختلف أنحاء المعمورة قد تجاوزتها الوحوش البشرية المسلحة بالنووي والحقد الأعمى في معاداة حقوق الإنسان الفلسطيني خارج حقوق الإنسان التي يحميها حق الفيتو الظالم أمام كل أنظار العالم الأعور الأصم الواجم.

إن الإسلام والاستعمار ضدان لا يلتقيان في مبدأ ولا في غاية، فالإسلام دين الحرية والتحرير، والاستعمار دين العبودية والاستعباد، والإسلام شرع الرحمة والرفق، وأمر بالعدل والإحسان، والاستعمار قِوامه على الشدة والقسوة والطغيان، والإسلام يدعو إلى السلام والاستقرار، والاستعمار يدعو إلى الحرب والتقتيل والتدمير والاضطراب، والإسلام يثبت الأديان السماوية ويحميها ويقرّ ما فيها من خير ويحترم أنبياءها وكتبها، بل يجعل الإيمان بتلك الكتب وأولئك الرسل قاعدة من قواعده وأصلا من أصوله، والاستعمار يكفر بكل ذلك ويعمل على هدمه خصوصا الإسلام ونبيه وقرآنه ومعتنقيه. وهذا المكيال العجيب الغريب بين إنسانين لا يثير القلق  فقط حول مصير البشرية في هذا العالم (وحيد القرن) وإنما يعيد السؤال أيضا وبإلحاح عما إذا كان للمعارك الحضارية الكبرى التي سعت لتوحيد البشرية على أساس العدل والمساواة تتراجع إلى ما تحت الصفر كما نراها في مجازر المغول الجدد بالصوت والصورة في غزة العزة والإنسانية التي تحتضر في مستشفياتها المنكوبة كلها اليوم والمقطوعة عن الحياة أمام أعين دعاة حقوق الإنسان (الحجري) وليس الإنسان البشري المتحضر المتعلم والمتقدم!!

وما يفيد في هذه الصفحات من ثورة الجزائر (فلسطين الأولى) الأشقاء في الجزائر الثانية (فلسطين  الحالية)، سأسرده ليس من باب تقديم الدروس، وإنما من باب قراءة التاريخ والاتعاظ به وأخذ العبرة منه..


                                                 الدكتور أحمد بن نعمان مجاهد في صفوف جيش التحرير
                                                        الوطني الجزايري قبل 63 سنة وعمره  17 سنة


عن الجهاد الأكبر والجهاد الأصغر

لا يعتبر من نافلة القول التأكيد هنا مذكرين الناسين، ومعرفين الجاهلين أو مُثبِتين للناكرين، بأن الجهاد الأكبر المتواصل لا يمكن أن يؤتي ثماره المرجوة إلا بتطبيق القواعد الذهبية التي نجح بها الجهاد الأصغر، لأن جهاد الوصول إلى القمة، وجهاد المحافظة على البقاء في هذه القمة يتطلب كلاهما العديد من الأسلحة النوعية (الحديثة)، وفي مقدمتها الأسلحة العقائدية والثقافية (الفكرية والروحية) التي تحرك العضلات وتوجهها، وتفجر الطاقات وتستغلها في كل الحالات وفي جميع الاتجاهات!؟

وهذا ما يفهم من التوجيه القيم الذي قدمه  الأستاذ مالك بن نبي لمن يهمه الأمر من الحكام والمحكومين بالنسبة لضبط بوصلة الثورة في عشية انتهاء معاركها الحامية سنة 1962حيث قال: "لا يمكن لنا أن نفهم معنى فاتح نوفمبر 1954 كبعث وتحرير للإنسان إذا غابت عن أذهاننا عملية التلويث التي عاناها الإنسان الجزائري طيلة قرن ونصف... ولا داعي لبذل جهد كبير في توضيح الإيديولوجية البسيطة للثورة الجزائرية التي صاغها الفلاح الجزائري في كلمة واحدة هي "الاستقلال" ولا داعي للاتجاه إلى التعقيد في نسبة هذه الثورة إلى مذهب عقائدي معين، فقد كان شعارها "الله أكبر" وروادها "مجاهدون" وعدوهم "الكفار"، وباعتبارها نموذجا إسلاميا لا يسقط عنها كونها نموذجا عالميا لكل حركة تحريرية، وحتى تسمية "جبهة التحرير الوطني" لم تخل من هذا البعد الواضح...".

عن مهمة فرنسا التحضيرية للجزائر الفرنسية ورد عن الكاتب الفرنسي دوتوكفيل قوله "ينبغي شن الحرب في جميع الاتجاهات دون أن نعطي للعرب وقتا للتنفّس" ويعلق الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي على ذلك بقوله: "أين هو الفرق بين قلم دوتوكفيل وسيف كافينياك البتار؟" .
وهو ما يؤكده أيضا الدكتور عبد الحميد براهيمي (ضابط في جيش التحرير الوطني)، ووزير أول في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد (1979 ـ 1992) في إجابته عن سؤال موجه إليه يقول: "مع مرور أكثر من أربعين سنة على الاستقلال الوطني، هل تعتبر أن التيار الفرنسي لا زال موجودا"!؟ فيجيب دون تردد: "نعم ما زال موجودا، وإن "حزب فرنسا" ليس بمفهوم الحزب المعروف الظاهر للعلن كتكتل حزبي معروف للناس جميعا، ولكنه تيار واسع وقوي جدا، متواجد في مختلف دواليب الدولة وله الآن خمسة أو ستة أشخاص يعتبرون رموزا له يمثلون تياره السياسي والإيديولوجي ويتولون مسألة التنظير لهذا التيار. والأمر واضح جدا لا يحتاج إلى دليل على ذلك. بعد عقود من التمسك بعناصر هويتنا الوطنية، ديننا الإسلام ولغتنا العربية، ها نحن الآن نواجه مجابهة تتم فيها محاربة هذه المبادئ أمام مسمع ومرأى الجميع. ونشهد الآن ردة كاملة وتراجعا قويا عن تلك المكتسبات".

ويواصل الدكتور عثمان سعدي رده على داعية "الجزائر الفرنسية" قوله: "لقد قدم الفيلم أحداث الثورة الجزائرية المسلحة على لسان مجنون بين القبور مبرزا بذلك أنها ثورة مجانين، وهذا هو الذي جعل الفرنسيين يعرضون هذا الفيلم في مهرجان "كان" ويمنحونه "السعفة الذهبية" بينما رفضوا من قبله عرض أفلام أخرى جزائرية كفيلم "الأفيون والعصا" و"الخارجون عن القانون" و"معركة الجزائر" و"مصطفى بن بوالعيد" الذي فرض الفرنكوفونيون عليه حصارا كما فرضوه أخيرا، أيضا على فيلم "أحمد زبانة" لأن الفرنسيين يقرأون بين السطور، فرأوا أنّ فيلم "سنوات الجمر" يخدم فلسفتهم في تمجيد الاستعمار الفرنسي، كما يعتبر الفيلم الأخير لهذا المخرج وهو بعنوان "الصورة الأخيرة". عن حقيقة العهد الاستعماري، من خلال معلمته اليهودية التي مثلت إمكانية إخراج الجزائريين من وحشيتهم وتجنيبهم القيام بثورة المجانين التي حرمت الجزائريين من مواطنيتهم الفرنسية، ومن استمرار الجزائر الفرنسية. وهذا بالضبط هو ما عبر عنه المخرج المذكور في منتدى مرسيليا حيث اعتبر إعادة الاعتبار للهوية الوطنية (المتمثلة في التعريب) جريمة في حق الجزائر الفرنسية التي يؤمن بها".

وعن مهمة فرنسا التحضيرية للجزائر الفرنسية ورد عن الكاتب الفرنسي دوتوكفيل قوله "ينبغي شن الحرب في جميع الاتجاهات دون أن نعطي للعرب وقتا للتنفّس" ويعلق الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي على ذلك بقوله: "أين هو الفرق بين قلم دوتوكفيل وسيف كافينياك البتار؟" .

ثم يضيف: "إنّ هذه الكتابات التي تنكر حقوق الإنسان والحريات المعلن عنها في ثورة 1789، صاحبت وبررت ومجدت مشروع المستعمر اللاإنساني الذي نفذه ضباط سامون تمت ترقية بعضهم إلى مناصب سياسية تقديرا لـ (بطولاتهم العسكرية) في الجزائر: مونتانياك، الذي قال (لا ينبغي للعشب أن ينبت من جديد حيثما مر الجيش الفرنسي)، وراندون المناصر لأسلوب إبادة الهنود الحمر وبيجو، بطل (الأرض المحروقة) عندما وصف الأهالي بأنهم (ثعالب يجب خنقها)، وسانت آرنو، المختص في حرق الأحياء والذي وصف دون أدنى ضمير أحد (أعماله الإجرامية) بقوله: (أحكم إغلاق جميع منافذ المغارات والكهوف، ثم اجعل منها مقبرة واسعة الأطراف)، ويختم وصفه قائلا: "إن ضميري لا يؤنبني، ولقد قمت بواجبي كقائد" .

ثم يضيف الدكتور أحمد طالب قوله: "والأمر المدهش في هذه الجرائم ضد الإنسانية التي وصفها توكفيل بأنها (ضرورات مؤلمة) هو أن منفذيها لم يراعوا نتائج اللجنة البرلمانية الفرنسية التي أرسلت إلى الجزائر في أعقاب خرق فرنسا لالتزاماتها المنصوص عليها في نص الاستسلام الذي تم توقيعه مع الداي حسين. إننا نقرأ في هذا التقرير الذي نشر عام 1833 ما يلي: «لقد دنسنا المعابد والأضرحة وأفنية الديار... واحتجزنا أملاك المؤسسات الدينية. لقد قتلنا الناس الذين يحملون ترخيصات مرور، وذبحنا قبائل بأكملها بمجرد الاشتباه فيها مع أنها كانت بريئة. وخلاصة القول، لقد تجاوزنا همجية البربر الذين جئنا لتمدينهم ونشر الحضارة بينهم".

ونحن هنا نتحدى فرنسا التي تقف وراء أمثال هؤلاء "الجزائريين الفرنسيين" القدامى والمحدثين أن تفتح أبواب قنصلياتها اليوم أمام كل أفراد الشعب الجزائري للحصول على جنسية آبائهم وأجدادهم التي فرضها عليهم بالحديد والنار!؟ ولكنها في الحقيقة ترفض ذلك رفضا قاطعا، وتقتل أبناء الجزائر الهاربين من جحيمها على شواطئها، وتجعل من الهجرة الجزائرية على أرضها قضية وطنية، وورقة انتخابية في أيدي اليمين العنصري المتطرف، نجدها تقف وراء هذا المخرج وأمثاله من دعاة "الجزائر الفرنسية" في بلادهم وعلى أرضهم، وليس على أرضها الموحدة بلغتها وفي إطار هويتها الوطنية التي أنشأت لها وزارة خاصة بذاتها في السنوات الأخيرة، مكتفية في ذلك بجني الثمار وقطف الورود والأزهار، دون وخز الأشواك التي طالما أدمت أيدي جيوشها وأعمت عيون أبنائها وعملائها على امتداد احتلالها المباشر لأرض الجزائر، علما أن ذلك الاستفتاء الذي انتهى بموجبه الاحتلال المباشر كان هو الوحيد في تاريخ الجزائر الذي لم يحدث فيه أي تزوير يذكر بشهادة فرنسا ذاتها التي كان يمكن أن تحدث التزوير لصالحها لأنها كانت ترغب في التصويت بـ "لا" في حين أن جبهة التحرير الوطني كانت تحث الشعب على التصويت بـ "نعم" وتشهد على ذلك بعض الكتابات الباقية والشاهدة على جدران حي القصبة وفي أعالي العاصمة حتى الآن(...)

ولكن من مفارقات القدر أن فرنسا قبل خمسين سنة كانت تطالب الشعب الجزائري بالصويت بـ "لا" للاستقلال ضد "نعم" ولو يحصل التصويت اليوم، فإن حزب "فرنسا الجزائرية" هو الذي سيطالب الشعب الجزائري بالتصويت بـ "لا" في حين أن حزب "الجزائر الفرنسية" في فرنسا (بما فيها حزب الجبهة الوطنية العنصري) هو الذي سيطالب بالتصويت  بـ "نعم" على غرار ما كانت تنادي به جبهة التحرير الوطني بالضبط، قبل خمسين سنة، وذلك بدليل أن الشعب الفرنسي صوت ضد الدستور الأوروبي سنة 2005 رفضا لانضمام تركيا للاتحاد، فكيف إذا كان الأمر يتعلّق بانضمام الجزائر إلى هذا الاتحاد اليوم، وهم يقتلون أولادنا المتسللين إلى أراضيهم عبر حدودهم في كل مكان. وهكذا نرى كيف انقلبت الأوضاع السياسية رأسًا على عقب، عما كانت عليه قبل خمسين سنة بحيث يصبح "نعم" عند هذا الطرف هو "لا" عند الطرف الآخر. وبهذه الطريقة "الاستحلالية" تتجنب فرنسا المشاكل الداخلية، وتزداد "كيل بعير" في عدد البلدان الفرانكفونية، في القارة الإفريقية العربية وغير العربية!.

ونعتقد جازمين أن هذا النوع من حاملي الجنسية الجزائرية بحكم الاستفتاء على الاستقلال في 03/07/1962، وانتقال الوضع من «الجزائر الفرنسية» إلى "فرنسا الجزائرية" هو الذي راهن عليه الجنرال ديغول ومايزال يراهن عليه كلّ خلفائه من الرؤساء والوزراء المتعاقبين على الجمهورية الخامسة من بعده!

وهذا التصريح المرئي والمسموع والمقروء لهؤلاء الوكلاء والمقاولين الجزائريين (بالجنسية) يناقض في جوهره بيان أول نوفمبر 1954 في أهم بنوده الخاصة بالهوية الوطنية الجزائرية وبالتالي الوحدة الوطنية. وإذا كان الحاج أحمد مصالي الوطني العروبي حتى النخاع الملقب بأبي الاستقلال الوطني (ضدّ سياسة الإدماج والاندماج)، قد خونته الثورة المباركة خيانة عظمى، لمجرد اختلافه مع رجالها حول موعد التفجير، والزعامة لقيادة الثورة، وليس حول ثوابت الهوية الوطنية (وفي جوهرها الإسلام واللغة العربية) والعمالة الثقافية والعقائدية للعدو الفرنسي (كما هو واقع اليوم مع هذا الرهط من الكولون الجدد المطالبين ببقاء الجزائر الفرنسية) بعد نصف قرن من تغيير ألوان العلم الوطني وتزيينه بالنجمة والهلال مع تغيير اسم العملة، ولحن النشيد الوطني... فإذا كان هذا هو مصير الزعيم الوطني الحاج أحمد مصالي الذي خونته قيادة الثورة وحاربته في الجبال مثلما حاربت جيوش العدو الفرنسي ذاته، فكيف بالذي يقف اليوم أمام بيان أول نوفمبر ذاته على طرفي نقيض، مع أهم مبادئه وبنوده الجوهرية لصالح "الجزائر الفرنسية" أو "فرنسا الجزائرية"، كما فعل أمثال هذا المخرج (الفرنسي الجزائري) الذي يعتبر الاستقلال الوطني، عبارة عن مرحلة متقدمة من الإندماج الاجتماعي والثقافي، وليس الاستقلال السيادي الحقيقي عن فرنسا كما كان يخطط له الشهداء ودفعوا من أجله أغلى ثمن في تاريخ الثورات المعاصرة.

وعن هذه الفئة التي وقع عليها الرهان الفرنسي لعكس هذه الأهداف النوفمبرية رأسًا على عقب، بما يحقق مخططات الجنرال ديغول بعد رحيله بعقود... يقـول الدكتور مـحمد العربي ولد خليفة: "أصدرت الأسبوعية اليمينية الفرنسية (le nouvel observateur) سنة 1992م عددا خاصا عن الجزائر، بعد ثلاثة عقود من الاستقلال، شارك فيه أربعون من كبار المفكرين والكتاب الفرنسيين المختصين في الشؤون الجزائرية مع بعض زملائهم من الجزائريين، ومن المثير للانتباه أن عددا من المؤرخين وعلماء الاجتماع والسياسة الفرنسيين أبدوا سرورهم وتفسيراتهم لازدهار العلاقة بين الجزائريين والفَرْنَسة التي أصبحت جزءا من تكوينهم (constitue les qui francité la) بينما ذهب البعض من زملائهم الجزائريين إلى أبعد من ذلك، وأكدوا عن طريق نصف الحقيقة وعكسها أن الراديكالية والشعبوية هي التي منعت الشعب الجزائري من الاتحاد مع فرنسا، وتجاوز التناقض الشكلي بين أمتين تلتقيان في شخص القديس أوغسطين وحضارة روما». ولا نعتقد أن هذا الطرح الانقلابي على الشهداء يسمح للمجاهدين أن يبقوا صامتين، وإننا لعلى يقين أن مثل هذه الكتب بما تؤكده من حقائق تدخل في صميم تصحيح المسار الجهادي الذي عرفنا بدايته سنة 1954م ولا نعرف بعد نهايته ولن نعرفها حتى تستكمل الجزائر مقومات استقلالها وسيادتها وتطبيق دستورها الوطني مثلما تطبق فرنسا دستورها الوطني على كامل ترابها وشعبها، الذي يتكون من ملايين المنحدرين في بلاد المغرب العربي أصلا وفصلا! ومنهم ثلاثة وزراء في الحكومة الاشتراكية الجديدة!.

الاستفتاء الذي انتهى بموجبه الاحتلال المباشر كان هو الوحيد في تاريخ الجزائر الذي لم يحدث فيه أي تزوير يذكر بشهادة فرنسا ذاتها التي كان يمكن أن تحدث التزوير لصالحها لأنها كانت ترغب في التصويت بـ "لا" في حين أن جبهة التحرير الوطني كانت تحث الشعب على التصويت بـ "نعم" وتشهد على ذلك بعض الكتابات الباقية والشاهدة على جدران حي القصبة وفي أعالي العاصمة حتى الآن
وعن أهمية التاريخ الذي نلح على إبراز جوانبه الحية في هذا الكتاب، يقول الأستاذ محمد الهادي الحسني مستشهدا بمقولة للكاتب الجزائري رمضان حمود والتي يقول نصها: "التاريخ محيي الأمم، ولكنها إذا شربته في كأس غيرها قتلها"، ثم يواصل تحليله قائلا: "إن أعداءنا يريدون الثأر لهزيمتهم النكراء بأن يضربوا بكل وسيلة سورا من النسيان بيننا وبين أمجادنا، فننسى هذا التاريخ وأبطاله، ونشك فيه وفيهم، وإن أعداءنا يعرفون أننا ما غلبناهم إلا بعقيدتنا الإسلامية ووحدتنا الوطنية، ولذا فهم لا يألون جهدا في محو هذه العقيدة وتمزيق هذه الوحدة، فإن مكناهم من ذلك فقد خنّا أمانة الشهداء، وإنا إذن لخاسرون، ولكننا على يقين من أن شعبنا لن يخون أمانة الجهاد والشهادة".

وأخيرا إذا كان من المطلوب والمرغوب أن يلد الصغار عظاما... فمن غير المعقول ولا المقبول أن يلد العظام أقزاما!؟

ونعتقد أن الباب ما يزال مفتوحا أمام كل الشباب الوطني كي يعبروا ويبرهنوا بالملموس عن إخلاصهم للوطن، ويكونوا من الأحفاد الشرعيين لابن بولعيد وديدوش والحواس وعميروش وبن مهيدي ولطفي... ولحسن حظهم ـ أو لسوئه في الوقت ذاته ـ أنه لا يقبل منهم أي عذر أو أسف على عدم مشاركتهم في تحرير أوراق الجنسية لأن باب الجهاد والاجتهاد والتضحية في سبيل استرجاع مقومات الهوية لاستكمال الاستقلال الوطني (بكل أبعاده الثقافية والاقتصادية والدفاعية)، ما يزال مفتوحا على مصراعيه أمام جيل الاستقلال السياسي (أو  الاستقلال الأصغر) الذي نحتفل هذه السنة بذكراه الخمسين...

ويكفي دليلا على خطورة الموضوع وعظمة الهدف أن استقلال الجنسية قد تحقق في بضع سنين كما هو معلوم وبتضحيات معروفة النوعية ومحدودة الكمية ضد عدو مكشوف الطوية، لكن الاستقلال التام والحقيقي الذي تطرح أهم أبجدياته اليوم بعد خمسة عقود أو يزيد من الكفاح النّوعي الجديد الذي انقلب فيه المفعول بالأمس فاعلا اليوم والفاعل بالأمس مفعولا به اليوم أو نائبا للفاعل، والخصم في معركة تحرير الجنسية بالأمس قد أصبح حَكَما في ملحمة تحرير الهوية اليوم!

وإذا كانت معركة الجنسية بالأمس قد تميزت بقتل الأجساد وبقاء الأرواح حية كما حاولنا أن نثبت في هذا الكتاب فإن معركة الهوية اليوم تتميز بقتل الأرواح وإبقاء الأجساد في مهب الرياح، يعبث بها العابثون من سماسرة الشّرف الوطني المهدور في سوق الخلاعة والمهانة، تحت غطاء الرّدّة والتزوير والخيانة!

وإن كلّ شيء إلى تغيير وزوال مهما تتعقد الأحوال، وإن الجغرافيا إذا كانت تخضع للزلازل فإن التاريخ فوق مستوى الزلازل، ولا يخضع قطّ لمنطقها الفيزيقي، والدليل على ذلك أن البشرية تعرف تاريخ الزلازل، ولكنها لا تعرف زلازل التاريخ على الإطلاق، لأنه يصنع بإرادة البشر من الأخيار، ولا يدين ببقائه لإرادة الأشرار منهم مهما أوتوا من وسائل التضليل والتعليل والتجهيل!

وباسم كل الوطنيين الأوفياء والمخلصين الشرفاء نتحدى من يخلط بين الشرف والعلَف، والغاية والوسيلة، والأمة والقبيلة، ويدّعي السّيادة والاستقلال والحرية في الجزائر المسلمة العربية نتحداه هنا وللتاريخ... أن يحاول تطبيق الدستور الوطني في كل مواده الأساسية الثابتة التي لا تقبل التبديل والتعديل. فتلك هي المهمة النبيلة والمقدسة التي لم تفت الأحفاد الشرعيين للأمجاد السالفين. وإذا كانت المواطنة تكتسب بالجنسية التي تمنح وقد تمنع، فإن الوطنية (التي يلعبها البعض كورقة رابحة، أو يلعب بها البعض الآخر في الحملات الانتخابية لأغراض انتهازية) هذه الوطنية لا تمنح ولا تمنع، بل تعرف بشيء وحيد هو التضحية (بأوسع معانيها) من أجل الوطن ومصالحه العليا شعبا ووحدة وأمة، وليست الوطنية هي حبّ الوطن بالكلام (دون تضحية في سبيله) كما يردد المغالطون من سماسرة الشرف والعلف، لأن الإنسان الجائع قد يشتهي شريحة لحم مشوية ليزدردها في نهم، واللص قد يريد لوحة فنية رائعة أو عقدا من المعدن النفيس ليستبدل به بضع دريهمات في سوق المزاد السّري والعلني. ولذلك نقول من هنا للذين يرددون عبارة "الجزائر قبل كل شيء" أية جزائر تقصدون!؟ فالكولون القدامى والجدد كانوا هم كذلك يرددون العبارة ذاتها وهي "الجزائر الفرنسية قبل كل شيء" (بخيراتها وليس بأهلها)، وبن بولعيد ورفقاؤه الصادقون كانوا يقولون: «الجزائر الحرة الأبية والمسلمة العربية قبل حياتنا» أي الجزائر بثوابت هويتها الأبدية ووحدتها الوطنية التي كان لها الفضل الأكبر في نجاح جهادها الأصغر كما يشهد عليه كل أحرار العالم من الأشقاء والأصدقاء وحتى بعض النزهاء من الأعداء!

فالإثنان إذن صادقان في قولهما عن حبهما للجزائر! ولكن يبقى نعت هذه الجزائر وانتمائها الحضاري والهوياتي هو الأهم والحكَم والفيصل بين الإثنين! ولا غرابة في ذلك أن تجد الفرق بين أبناء باديس وأبناء باريس حرفا واحدا، بل وبين التعريب والتغريب نقطة واحدة قد تمثل وقفة ذبابة عابرة على صفحة كتاب أو خطاب، ولكنَّ وراء تلك النقطة في واقع الأمر قرونا من البناء الحضاري وبحارا من الدماء وجبالا من الأشلاء والشهداء!

فذلك إذن هو بعض معاني الاستقلال الذي تحتفل الجزائر بذكراه الخمسين هذه السنة والذي عرفنا فيه البداية ولا نعرف، بل وقد لا نشهد النهاية! ولكن حسبنا أن نقول عبّدوا الطريق فسلكنا ونعبّد فيسلكون، ولا يهم من يحقق الهدف، وإنما الأهم أن يتواصل الجهاد بنفس الإمداد والاعتقاد ليتحقق الهدف، وفي هذا القدر من التذكير كفاية للمؤمنين والمجاهدين المخلصين غير المتقاعدين من الأولين والآخرين والمخضرمين، وبعد هذه التجربة المريرة من الاحتلال الطويل والثقيل، بكل أنواعه وأشكاله وأبعاده الاستيطانية، والاقتصادية، والثقافية والعسكرية... هذا الاحتلال الذي توج بثورة جهادية عارمة كانت من أبرز أحداث القرن العشرين، وطنيا وقوميا ودوليا... ولذلك أردنا أن نستخلص بعض الدروس منها للاعتبار بالإيجابيات، وعدم تكرار السلبيات، وهو ما سنتناوله في الفصل التالي والأخير!.

إقرأ أيضا: روح شباب الجزائر تبعث في فلسطين الحاضر.. المعركة واحدة (1)

إقرأ أيضا: روح شباب الجزائر تبعث في فلسطين الحاضر.. المعركة واحدة (2)