الذاكرة السياسية

ابن باديس وغريمه الجنرال..كلاهما حاضر في جزائر الاستقلال و"الاستحلال" (1من2)

هل الهوية الوطنية والوحدة المجتمعية والشعبية إلا دين مانع ولسان جامع وانسجام كامل بين أفراد الأمة في إطار وحدة ثقافية متكاملة في العموميات الكلية ومختلفة في الجزئيات الفرعية والمحلية المتروكة لأهل الاختصاص.. أرشيفية
إذا كان الاحتلال معروفا لدى القراء اصطلاحا وسلوكا كواقع الجزائر بعد الغزو الفرنسي سنة 1830 وواقع فلسطين منذ الانتداب وتطبيق وعد بلفور المشؤوم حتى الآن، فإن المصطلح غير المعروف وغير المألوف هو "الاستحلال" ولذلك وجب توضيحه ابتداء ليعرف القراء ملامحه حتى لا يلتبس عليهم أمره مع الاحتلال والإستقلال!؟!؟

فالاستحلال مصطلح منحوت من الفعل العربي، (حل يحل) و(استحل يستحل...) ومن معاني هذا الوزن في العربية (استفعل يستفعل) هو طلب الشيء والحصول عليه مثل استغفر يستغفر (طلب الغفران) واستنجد يستنجد (طلب النجدة) واستطعم يستطعم (طلب الطعام) وهكذا..ففعل (استحل يستحل) هنا هو طلب شارل وجاك من هذا العميل أو ذاك الوكيل، الحلول محله في الحكم والتصرف بالوكالة في رزقه وشعبه كأنه هو القائم عليه بنفسه!

ومعناه هنا طلب الموكل الأجنبي من الوكيل المحلي الحلول محله والمقاولة لحسابه في جمركة وجوده على حدوده وتبييض جرائم جنوده وترسيم بنوده في دستوره استعداء واستعلاء واستقواء بالموكل المراقب المتحكم في أهم المراتب والمناصب.!

وذلك بواسطة شبكة من الوكلاء والعملاء من ذوي القابلية للاحتلال (على رأي أستاذنا مالك بن نبي) وذوي الحظوة والإذعان والإدمان على الطاعة والاستعباد والولاء للمحتل السابق واللاحق الذي يربيهم على عينه ويده ولسانه ويختارهم بعناية حسب المراتب والخبرات والمراحل والاحتياجات والسوابق والولاءات والمواهب والانتماءات إلى منظمات وحركات وفئات وليست بطبيعة الحال جهات من الوطن بعينها دون غيرها بأي حال من الأحوال كما سنبين لاحقا...!

وهو ما عبر عنه متعهد الاحتلال والاستحلال ذاته وأعني به الجنرال دوغول في كتابه "الأمل" (صفحة 49) من الترجمة العربية الصادرة عن دار عويدات بيروت اثناء حكمه (1968) بقوله: (ستبقى الجزائر فرنسية... مثلما أصبحت فرنسا رومانية!؟).

ويضيف مؤكدا ومفسرا ذلك القرار المصيري والمستقبلي بقوله: ولئن تركناهم يحكمون أنفسهم فهل يعني ذلك اننا نتركهم بعيدين عن أعيننا وقلوبنا؟ فالجواب القاطع (لا)!


                                                                     ابن باديس

والملاحظ هنا أنه لم يقل (يستقلون) بما يعني أن ما يعتبره البعض عندنا (استقلالا) لا يعدو كونه مجرد حكم ذاتي عنده مثل وضع غزة واريحا في فلسطين الحالية بعد خدعة او سلو الاستحلالية الواضحة والفاضحة؟!، والدليل على ذلك قوله: فهل يعني ذلك أننا نتركهم بعيدين عن أعيننا وقلوبنا؟ ثم يجيب مباشرة ب "لا"... ويبرر ذلك النفي القاطع بكل ثقة في نفسه وفي المستحلين من بعده قائلا: (لأنهم يتحدثون لغتنا ويتقاسمون معنا ثقافتتا!؟)

وهل الهوية الوطنية والوحدة المجتمعية والشعبية إلا دين مانع ولسان جامع وانسجام كامل بين أفراد الأمة في إطار وحدة ثقافية متكاملة في العموميات الكلية ومختلفة في الجزئيات الفرعية والمحلية المتروكة لأهل الاختصاص، كما سبق أن فصلنا الحديث عنها في مقالات (هنا في عربي21) وفي مؤلفات آخرى خارج هذا النطاق والسياق كـ (الهوية الوطنية) و(هذي هي الثقافة) فليرجع إليها المعنيون للتعمق والتحقق!

أما الذي يهمنا التركيز عليه هنا هو إن الجزائر المسلمة الوجدان العربية اللسان ستظل كذلك- بإذن الله- وإرادة كل المخلصين من أبنائها العاملين المتوارثين لراية الجهاد المتواصل خلفا عن سلف ضد مخلفات الاحتلال السابق ومناورات الاستحلال اللاحق الذي يعتبر أخطر من الاحتلال ذاته في بعض المجالات التي تتطلب رجالات ومواهب وإمكانات في مستوى التحديات التي تظهر في كل مرحلة من مراحل الحياة وقد تختلف في وسائل الكفاح ونوعية الرجال والسلاح حسب مستجدات كل حالة بين الاحتلال والاستقلال الذي لم يأت من فراغ كما نعلم وإنما سبقته أعمال رجال وأجيال متعاقبة في الزمان والمكان..

وإن هذا الوطن الذي أراده الغازي الموتور أن يفصله عن كيان أمته ويلحقه بكيانه ليكرر تجربة الأندلس ومأساتها في الأمة المحمدية كما تمثل ذلك في تنظيمه احتفالا مهيبا في الجزائر العاصمة بمناسبة الذكرى المئوية لفصل العضو الأصيل عن جسم الأمة التي كتب لها الخلود برسالتها في الوجود رغم اليهود العرب واليهود اليهود!

ولأهمية ذلك الحدث حضر رئيس دولة الاحتلال ذاته من فرنسا الأم (كما كانت تسمى) ليشرف بنفسه على ذلك الاحتفال الشهير الذي حمل فيه المستوطنون الأولون نعشا يرمز إلى موت الإسلام ولغة القرآن في (الجزائر الفرنسية) منطلقين من مسجد كتشاوة الحالي الذي كان قد حول قبل قرن من ذلك التاريخ إلى كاتدرائية لأهل الصليب في يوم حزين طلب فيه القائد العسكري من الخطيب (وهو على منبره ) أن يخبر المصلين بأنه ابتداء من ذلك اليوم لن يعبد إله في هذا المكان غير المسيح. وأنزل الهلال من على السارية ورفع الصليب فوق المئذنة العالية!!

فقام الإمام الجليل المجاهد محمد بن لكبابطي ـ رحمه الله ـ مخاطبا المصلين بقوله (أيها الإخوة المؤمنون... ولئن تغيرت عبادة الله في مساجدنا فإن الله لن يتغير في قلوبنا.

وأعقبت ذلك القول في اليوم المشهود مجزرة ذهب ضحيتها الآلاف من المسلمين في ساحة الشهداء الحالية تخليدا لتلك الذكرى الأليمة التي لم يمحها الزمان من القلوب والآذهان خلفا عن سلف حتى الآن!

ونظرا لأن الله لم يتغير في قلوب أبناء هذا الوطن المسلم الصادق الإيمان الذي لا يتردد أبناؤه الأصلاء في قول الحق أمام حبال المشانق وفوهات البنادق (مثل أهل غزة الآن تماما أمام كل أنظار العالم !!؟؟) فلم تمض إلا 10 أشهر على ذلك الحدث الأليم حتى صدح الإمام العتيد الوارث الجديد للرسالة الأبدية للأمة المحمدية في هذا البلد بقوله المدوي كالزلزال في وجه الاحتلال قائلا:

شعب الجزائر مسلم                     وإلى العروبة ينتسب...
من قال حاد عن أصله                 أو قال مات فقد كذب...
أو رام إدماجا له                            رام المحال من الطلب

هذا القول الذي ظل يمثل خارطة الطريق للحركة الوطنية حتى تفجير ثورة التحرير الكبرى في الفاتح من نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1954 كما هو معلوم والتي أتت هي الأخرى برئيس الجمهورية الفرنسية الخامسة الجنرال المذكور ذاته لإنقاذ فرنسا من جهاد الجزائر وأخذ وردها لبلاده دون شوك جهادها ضد مصالح اتباعه وكيانه وأبنائه وأحفاده!!

ومن أخطر مناوراته المعروفة والمكشوفة رفع شعاره الخطير والمغالط الذي استبدل به (الجزائر الجزائرية في الاستحلال) (بالجزائر الفرنسية في الاحتلال) بعد أن يئس من فرنسة الجزائر وتنصيرها على نهج أجداده الأولين كما يئس الكفار من أصحاب القبور!

علما أنه مثلما لا توجد (فرنسا الفرنسية) ولا (ألمانيا الألمانية.!؟.) فلا توجد كذلك (الجزائر الجزائرية) الخرساء الصماء دون نطق وانتماء إلى أمة مرتبطة بوحي، السماء!!فشعب الجزائر مسلم فعلا ولكنه إلى العروبة ينتسب وليس إلى فرنسا أو أوروبا ينتسب بدينه ولسان ثقافته الجامعة المانعة لغالبية أفراد شعبه المسلم الموحد الوجدان، بالقرآن روحا ولسانا بلادا وعبادا جهادا واستشهادا! وإن الانتماء أو الانتساب العربي الباديسي هنا أساسه اللغة المتبناة للدولة السيدة والشعب الناطق بها في الفكر والشعور والوجدان والمعبر عن سيادتها الفعلية في الدستور والإدارة الوطنية والمؤسسات العلمية والمدرسية!

فالعروبة بالسلالة للحصان والعروبة بالرسالة واللسان للإنسان وهي المقصودة هنا (في المفهوم الإسلامي الإيماني الباديسي القرآني ) والتي تعطي اسم الشعب واسم الدولة كقاعدة وليس كاستثناء.!

وبناء على هذه المسلمة نؤكد بأننا في شمال أفريقيا كلنا خليط من مختلف الأعراق والألوان البشرية كما تثبت تحليلات احماضنا النووية في المخابر العلمية المحلية والدولية... ولكننا كلنا من ناحية الدين مسلمون قبل أن نكون عربا بالانتماء الحضاري والاختلاط الاجتماعي وانصهار الأرحام تبعا لذلك بين المسلمين الذين لا فرق بينهم عند الله إلا درجة التقوى والصلاح.!.

وفي هذا يقول العلامة الثائر (رفيق درب أمام الجزائر...) الفضيل الورتيلاني في كتابه "الجزائر الثائرة": " كان سكان المغرب العربي قبل دخول الرسالة الإسلامية العربية، بربرا لا خلاف في ذلك، ولا يهمني ما يذهب إليه بعض المؤرخين، من أن هؤلاء البربر، أنفسهم، إنما هم من أصل عربي، وإنما الذي يهمني والذي لا شك فيه، إن أولئك البربر قد تعربوا جميعا بعد الهجرات العربية المتوالية على ديارهم...أما أهم أسباب هذا التعريب فثلاثة: الدين، واللغة، والزواج وكان أسبق الثلاثة إلى التحكم في مصير البربر، فلقد اعتنقوا الإسلام عن شوق وقناعة، وأحبوه من أعماق قلوبهم، وأخلصوا لتعاليمه أشد الإخلاص، ثم أحبوا معه، ومن أجله كل ما صحبه من مقومات، أحبوا أهله العرب حبا لم يكن يخلو من الغلو، حتى كان البربري يرى أن الأصهار إلى العربي والتقرب منه، إنما هو شرف كبير له، بل هو في نظره ضرب من العبادة، والتقرب إلى الله، لأن هذا العربي في نظره، إنما هو رسول الله إليه، وانه مجاهد في سبيل تبليغ رسالة الحق المقدسة، وأنه مرابط في الثغور بعيدا عن أهله وعن وطنه، وإنه يفعل كل ذلك، في سبيل إعزاز كلمة الدين والحق، وفي سبيل نشر مبادئه السمحة الخالدة، وساعد على تسهيل الزواج والاختلاط، أن حملة رسالة الإسلام الأول من العرب كانوا بدورهم يؤمنون بأن دينهم لا يفرق بين عربي وعجمي، ولا بين أبيض وأسود إلا بالتقوى..من هنا، شاع التزاوج بين العرب والبربر، وابتدأ منذ الفتح، وظل يتسع نطاقه حتى يوم الناس هذا، وقد مضى أربعة عشر قرنا على هذا التلقيح، لا يقف في طريقه واقف".

وهذا التحليل الوارد على لسان الورتيلاني سنة 1955 يقره عليه باحث وطني من المغرب الأقصى الشقيق سنة 1996، حيث يقول الأستاذ  الحسن بلحسن: "لا يمكن القيام بعملية بتر وفصل وتقسيم الجسد الواحد لكون العربي امتزج وتزوج بالأمازيغية كما أن الأمازيغية تناسلت من عربي بل أكثر من ذلك إننا تتحدى من يستطيع أن يميز من بين السكان الحاليين من هو العربي ومن هو الأمازيغي ذلك أن مجموعة من الناطقين بالأمازيغية هم عرب والعكس صحيح.... ".

ونؤكد مرة أخرى أن العروبة (بالمفهوم الباديسي والعلمي والحضاري...) هي لسان وانتماء يربط أهل الأرض بوحي السماء وليست عرقا على الإطلاق بل هي مهارة بشرية تحصل بالاكتساب الإرادي للأفراد والجماعات! فالعروبة بالسلالة (كما قلنا.) للحصان والعروبة بالرسالة واللسان للإنسان!

وكل الحضارة الإسلامية على امتدادها عبر القرون قد شيدها العلماء المسلمون (عربا وعجما في كل البلدان ) باللسان العربي المبين حتى سقوط الخلافة الإسلامية على يد أحد كبار المفسدين المندسين في صفوف المسلمين كما هو واقع الأمر إلى حين!!

وشأن الجزائر وكل بلاد المغرب العربي في ذلك شأن نصف مليار مسلم ناطق بالعربية من خليج عمان إلى وادي السنغال...!

وأقول من منطلق الباديسية النوفمبرية (ولا فرق بين الإثنين في ثوابت الهوية الوطنية) أن ما يميز الفرد الجزائري المسلم عن الغازي الفرنسي المسيحي في الجزائر هي الهوية العربية اللسان مقابل الهوية الفرنسية اللسان والانتماء الحضاري للرومان.. أما الإسلام الذي تحاربه فرنسا على أرضها وأرضنا لصالح العلمانية والكفر والانحلال فإنها لم تمنعه صراحة طوال وجودها المباشر على أرض الجزائر (مثلما حاربت اللغة العربية التي اعتبرتها أجنبية بالقانون وحاربت تعليمها حتى في المدارس الأهلية بأموال المحسنين) وكانت تعتبر كل الجزائريين (رغم اختلاط أعراقهم واختلاف ألوانهم ولهجاتهم المحلية) مسلمين فرنسيين في الأوراق تحت شعارها الزائف (الحرية والإيخاء والمساواة) في الوثائق الرسمية مثل أهلنا تحت الاحتلال الصهيوني في فلسطين المسلمة العربية المحتلة اليوم من لفيف الدول الأجنبية!!

وظلت فرنسا اللائكية طوال وجودها العسكري والإداري المباشر في الجزائر تقبل من الجزائري أن يكون فرنسيا مسلما (مثل العربي المسيحي والعربي اليهودي في كل البلاد العربية مشرقا ومغربا)، ولكن ما ظلت فرنسا ترفضه بإصرار وما تزال تحاربه حتى الآن بكل تعصب وعنصرية هو صفة الانتماء العربي الإسلامي للجزائر (الفرنسية سابقا على الأوراق)، والذي تريد التحايل عليه وتجاوزه حاليا بمغالطة (الجزائر الجزائرية) حتى بعد توقيف القتال وتقرير المصير على هذا الأساس الهوياتي كما هو معلوم.. وهذا لتفادي الصفة العربية (الباديسية النوفمبرية) التي هي أساس قيام جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بعد حادثة ادعاء فرنسا لموت الإسلام والعربية في الجزائر سنة 1930 كما أسلفنا وقيام ثورة التحرير المجيدة على هذا الأساس كما جاء حرفيا في بيان تفجيرها بالنسبة للأهداف المسطرة لها فيما يتعلق باسترجاع السيادة والهوية الوطنية بثوابتها الجوهرية المقدسة  وهي:

أولا ـ "إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة في إطار المبادئ الإسلامية".. غير الشيوعية وغير العلمانية وغير المسيحية.

ثانيا ـ "تحقيق وحدة شمال أفريقيا في إطارها الطبيعي العربي الإسلامي". وهنا الإعلان الصريح عن الانتماء الطبيعي والهوية الوطنية ذات الأصل الثقافي (العربي الإسلامي) وليس العرقي الذي ينفيه البيان في بند ثالث صريح يقول: "احترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني".


                                                                  الجنرال ديغول

ونلاحظ هنا عدم وجود كلمة "لغوي" في البند، وهو ما يعني صراحة أن البيان الوحدوي السيادي يقر حرية الاعتقاد ولكنه يرفض التعدد اللغوي الرسمي، لأنه الفيصل القاطع في السيادة كما قلنا وإن التلاعب فيه أو التلاعب به يؤدي حتما إلى ما لا يقبل التعدد على الإطلاق ألا وهو الهوية الوطنية لوحدة الشعب والوطن لأن الإنسان يمكن أن يكون عربيا مسيحيا أو مسلما فرنسيا كما أسلفنا ولكنه لا يمكن أن يكون (مسلما مسيحيا أو عربيا فرنسيا) على الإطلاق من ناحية الانتماء أو الانتساب كما يسميه إمام الأمة في خريطة طريق التحرير والاستقلال ضد الاحتلال والاستحلال السالف الذكر، وهذا هو معنى كلامه الصريح الفصيح الذي يوضحه البيان الخالد الذي يطلب من فرنسا المحتلة.

ثالثا ـ "الاعتراف بالجنسية الجزائرية بطريقة علنية ورسمية ملغية بذلك كل القرارات والقوانين التي تجعل من الجزائر أرضا فرنسية التاريخ والجغرافيا واللغة والدين والعادات للشعب الجزائري".

ونعتقد أن هذا الرفض القاطع للجنسية الفرنسية وهويتها اللغوية والدينية والثقافية من قادة الثورة وعلى رأسهم مخها المفكر وحكيمها المدبر محمد العربي بن مهيدي تلميذ مدرسة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في مدينة بسكرة على يد الشيخ المجاهد علي مرحوم الذي حدثني شخصيا عن أخلاق تلميذه الشهيد القائد الرمز الذي استشهد تحت التعذيب سنة 1957! مما يدل على أن للجزائر هوية وطنية وشخصية متميزة تتكامل فيها كل المقومات التاريخية والجغرافية واللغوية والثقافية التي تجعلها غير فرنسية ومن ثمة تطالب بالحرية والاستقلال المشروع خلافا لسكان مرسيليا وتولوز وبوردو وليل اللذين لم يطالب أي واحد منهم بالاستقلال عن باريس ولن يطالبوا بذلك على الإطلاق لاتفاق الجنسية والهوية معا بخلاف الجزائر التي كانت تعتبر في الأوراق فرنسية ولكنها في الواقع ظلت تعتبر نفسها مسلمة عربية (وليست مسلمة فرنسية على الإطلاق) وعلى هذا الأساس قامت الثورة على الاحتلال. وما تزال....!؟

 وتم تقرير المصير على هذا الأساس بعد توقيف القتال.. وإذا قال بعضهم بأن اللغة المقصودة هنا في البيان ليست العربية فإننا نحيلهم على شعار الثلاثية المقدسة المطبوع على بطاقات كل مناضلي حزب الشعب الجزائري مفجر ثورة التحرير دون منازع وهو "الجزائر وطننا، الإسلام ديننا؛ العربية لغتنا".. علما أنه هو الشعار ذاته الذي وضعه ابن باديس قبل تفجير نشئه المرجو لثورة الجهاد قبل 23 سنة (من 1931 إلى 1954).

والمهم هو أن يتحقق الهدف بقطع النظر عن الجيل الذي يحققه ولكل جيل فضله في أية مرحلة من مراحل تحقيقه في التاريخ الوطني المجيد. وهذا ما قاله الإمام ابن باديس ذاته بما لا يترك مجالا لأي تأويل لكلماته الصادقة والصادعة كالرعد والساطعة كالبرق عن اللغة المقصودة في البيان والدين المقصود في نصه كذلك وكأنه يشارك في كتابة البيان الجهادي بيده وروحه من قبره بعد رحيله بـ 14 سنة حيث يقول حرفيا: "إن هذا الشعب له لغته وهي العربية ودينه وهو الإسلام ووطنه وهو الجزائر...إنكم لا تعرفون شيئا عن هذا الشعب وتريدون كل مرة وبجرة قلم أن تستبدلوا بحضارته حضارة أخرى وبمقوماته مقومات أخرى وبتاريخه تاريخا آخر وهذا مستحيل!؟".

قارنوا نص هذا الكلام حرفيا بالبند الرابع الذي أوردناه آنفا من البيان الجهادي الخالد وأوجدوا لنا أيها السياسيون كلمة واحدة في هذا البند خارجة عما سطره الإمام بيمناه قبل ذلك بعقود كما أثبتنا لتدركوا معنى (الباديسية النوفمبرية) في أجلى صورها الموثقة التي يتخذها السفلة والسفهاء والجهلة والعملاء والوكلاء عندنا هزءًا ونحن مانزال إحياء شهداء.

فلماذا لا يقول الجنرال دوغول صاحب مغالطة (الجزائر جزائرية) عن بلاده (فرنسا الفرنسية)؟ مع أنها كانت وثنية وتلتنت لسانا (أي أصبحت لاتينية) بعد أن تمسحت دينا ووجدانا كما يعترف هو نفسه في كتابه (الأمل) المذكور آنفا الذي كتبه وهو على رأس الدولة الفرنسية في جمهوريتها الخامسة التي أتت به وبها الثورة الجهادية المجيدة..  يقول فيه كما أسلفنا (ستبقى الجزائر فرنسية مثلما أصبحت فرنسا رومانية".

وهل يمكن لفرنسا أن تكون فرنسية بغير اللغة الفرنسية (الرومية كما نقول عندنا بالعامية الجزائرية حتى الآن!!!؟) أو تبقى الجزائر فرنسية (كما قال) بغير اعتماد اللغة الفرنسية رغم تقرير المصير والاستقلال الذي ما يزال يتطلب التحصين والاستكمال في مجال السيادة ضد الاستحلال كما أوضحنا!؟!؟ علما أن هذه اللغة التي فرضت علينا "كغنيمة حرب" في الاستحلال رغم تقرير المصير والاستقلال بعد أن كانت جريمة حرب إبادة جماعية للهوية الوطنية في ليالي الاحتلال كما رأينا ومن أجلها قامت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بعد الذكرى المئوية لموت الإسلام والعربية في "الأندلس الثانية. ".. وقامت الثورة المباركة من تلك المبادئ نصا وروحا كما أوضحنا.... والنص أمام كل مواطن جزائري عربي مسلم غير أمي حرفيا وبليد عقليا وأعمى بصريا وغير مكابر أو خائن وطنيا!؟

لأن الثورة الجهادية حكمت بالإعدام على كل من كان ضد البيان داخل الوطن وخارجه أيضا ونفذت فيهم حكم الإعدام بعد مؤتمرها الأول بوادي الصومام سنة 1956 !؟

 وهو ما يجعل المسؤولية مضاعفة على الوطنيين المسلمين (قولا وفعلا) من رجال الثقافة والسياسة والسيادة الحاليين للدفاع عن هذه اللغة الوطنية والدينية بعد ستة عقود من توقيف القتال... باعتبار أن اللغة الوطنية والرسمية هي الفيصل الأول في الهوية الوطنية دون منازع كما أثبتنا بالدليل القاطع والبرهان الساطع؛ لأنها هي التي تعطي الصفة أو الاسم الرسمي للدولة الوطنية كقاعدة وليس كاستثناء!

وبهذا الموجب أصبحت الجزائر (الفرنسية سابقا) عضوا فاعلا ومؤثرا في جامعة الدول العربية لاحقا وقد تكون أول بلد عربي سيخرج من هذه الجامعة مستقبلا إذا خرجت عن خطها العربي كما يخطط له كل الأعداء في الخفاء!

فلا فرنسا دون لغة فرنسية ولا ألمانيا دون ألمانية ولا أسبانيا ولا إيطاليا ولا إيران ولا تركيا ولا رومانيا ولا روسيا ولا أوكرانيا دون الروسية والأكرانية بدليل قيام الحرب الطاحنة بينهما منذ أكثر من سنتين بسبب اختلاف اللسان بالذات بين سكان اكرانيا الشرقية وأكرانيا الغربية رغم وحدة الكنيسة الارثرضوكسية واختلاط السكان منذ قرون!!

ومما يؤكد العلاقة (الربانية العضوية) بين الإسلام والعربية هو تعهد الله بحفظها وجعلها هي العليا وعليها ستقوم الساعة في الدنيا..! ؟!؟

وتبقى العربية المحفوظة من خالقها بالذكر في كل البلاد الإسلامية بمثابة القطبين (السالب والموجب) في الطاقة الكهربائية. فبدونهما لا حرارة ولا حضارة ولا بناء ولا ضياء ولا تقدم ولا بقاء !؟!؟

وهذا هو معنى قول الإمام ابن باديس (شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب... ) ولا عروبة دون لغة عربية قرآنية فصيحة للمتعلمين وتبقى اللهجات العامية للأميين حرفيا أو المعوقين ذهنيا والمعقدين نفسيا!؟!

مع العلم أن وضع كل الفرنسيين من حيث التحول اللغوي من الأمية إلى اللاتينية والمسيحية هو مثلنا تماما في كل بلاد المغرب والمشرق العربيين... حيث تعربت هذه الشعوب المسلمة لسانيا وبالتالي ثقافيا وحضاريا بعد إسلامها إيمانيا كما قلنا وعلمت أبناء أروبا في جامعاتها العالمية بقرطبة وبجاية وفاس والزيتونة وتلمسان والقيروان باللغة العربية وحدها لعدة قرون. وحتى الطب في جامعة السوربون!؟

وإذا كان الإسلام لا يكره الناس على اعتناقه فلا يجبرهم أيضا على تبني لسانه.

ولكن المسلم الذي غير ما في قلبه من الكفر إلى الإيمان بإرادته لا يوجد ما يمنعه عقلا ونقلا وشرعا من تغيير لسانه إذا كان صادق الإيمان بالفعل بعيدا عن القومية العنصرية والعصبية القبلية الجاهلية المترسبة في أذهان بعض الفئات التي قد تدعي الإسلام والوطنية في الظاهر وتخفي الكفر والشرك والعنصرية الوثنية في الباطن.

فكيف تحل فرنسا لنفسها الانتماء اللساني والإيماني إلى الحضارة الإغريقية الرومانية وتحرم علينا انتماءنا نحن إلى حضارتنا العربية اللسان المسلمة الوجدان عبر العديد من القرون المتعاقبة في الزمان والمكان حتى حل على أمتنا قرن الخيانات والردة والنكران؟

والذي يجادل في مبادئ البيان كما فصلنا الحديث فيه قبل حين هو يجادل في الاستقلال الوطني ذاته الناتج عن تطبيق هذا البيان بأغلى الأثمان التي ليس لها مثيل في علمنا إلا فيما يدور من جهاد في فلسطين الآن (كما أثبتنا في سلسلة مقالاتنا على موقع عربي21 منذ بداية الطوفان المبارك حتى الآن....)

ولذلك لا يقبل الشرفاء أن يمس حرف واحد من البيان المسطور دون استئذان الشهداء أنفسهم الذين سطروه بأقلامهم وطبقوه بدمائهم، ومهروه بأرواحهم.

وفي غيابهم عند ربهم يستفتى شعبهم مثل استفتائه على الاستقلال الوطني وتقرير المصير بعد حرب التحرير، علما أن الاستثناءات التي تمثل الأقلية (الزائغة والمرتدة) قد تؤكد القاعدة ولا تغيرها أو تلغيها أبدا لأنها وجدت لهذه المهمة مثل وجود الشيطان لتضليل الإنسان وتمحيص الايمان.

وهذه هي القاعدة المطبقة (مع الأقليات الشاذة) في كل الدول الديمقراطية الشعبية الشرعية.