مقالات مختارة

«داعش» تحوّل إلى محرّك لإنعاش الاعتدال السني

1300x600
كتبت راغدة درغام: قد يشكّل حدث العراق هذا الأسبوع مدخلاً إلى مقاربة جديدة في العلاقة السعودية الإيرانية بعد إزالة عقدة نوري المالكي والتوافق على تسلم حيدر العبادي رئاسة الحكومة لتشكيل حكومة وفاق غير إقصائية في العراق. هذه خطوة مهمة مبشّرة باحتمال أن يكون حدث العراق بوابة التفاهمات الأوسع عراقياً، وأن تكون الساحة العراقية بوابة التفاهمات الإقليمية، السعودية- الإيرانية تحديداً.

هذه خطوة وليست استراتيجية متكاملة لقلب موازين العلاقة الثنائية، فالطريق طويل، والثقة لم تولد فجأة من بطن العراق بمجرد إزالة عقدة المالكي أو الالتقاء على مكافحة «داعش» وإرهابه. الأمل بألا يكون الحدث العراقي خلال الأسابيع القليلة الماضية، من «داعشه» إلى «مالكيته»، جزءاً من خطوات تكتيكية لطرف ما أو لمجموعة أطراف، ذلك أن التكتيك ليس أبداً استراتيجية، وهو أحياناً يتعمد التضليل بمفاجأة موقتة فيما تمضي الاستعدادات لإحياء الاستراتيجية الأصلية. الأمل بأن يوصل الحدث العراقي إلى عتبة جديدة للعراق نفسه كي يخرج من عهدة هذا وقبضة ذاك ويسير نحو الفيديرالية الصحية، وليس بالضرورة نحو الكونفيديرالية بمفهومها التقسيمي. هناك مؤشرات على احتمال تمكّن الحدث العراقي من إحداث تغيير إيجابي في التفاهمات الإقليمية والدولية لأسباب متنوعة ومتعددة. وحتى الآن، موقتاً كان أو مبشّراً على ديمومته، يتسلق الاعتدال إلى مكانة جديدة بعدما كانت داسته التيارات والتنظيمات والأنظمة المتطرفة بعونٍ خارجي، لا سيما من الولايات المتحدة، باحتضان بعض قطاعاتها لكل من الثيوقراطية الشيعية في إيران و «الإخوان المسلمين» بمشروعهم الثيوقراطي للسنّة انطلاقاً من مصر.

كَثُرَ الانبهار بـ «داعش» والانصباب عليه منذ بضعة أشهر، لا سيما عندما ظهر «داعش» بزخم المفاجأة وتقهقر الجيش العراقي أمامه بمفاجأة مدهشة ما زالت مجهولة المعالِم والخلفية والمنطق. النظريات عديدة ومتضاربة حول هوية «داعش» ومَن وراءه. إحدى النظريات تعتبره خليطاً جهنمياً لمجموعة من الاستخبارات في دول متعددة، شرق أوسطية وغربية وشرقية. نظرية أخرى تراه أداة إيرانية لتعميم الفوضى كجزء من استراتيجية الاحتياج إلى سيطرة إيرانية على العراق لضبط الوضع فيه وردع التطرف الإرهابي عنه. وهناك بالتأكيد النظرية التي تعتبر «داعش» من صنع السلفية السنّية بهدف المواجهة مع إيران وحلفائها بلغة «النار بالنار» في العراق وفي سورية وفي لبنان.

«داعش» في رأي البعض يشبه «راجح» في مسرحية فيروز، أي الشخصية الوهمية التي تنتجها مخيّلة كل من يُرتعب بها لتصبح واقعه، لكن الواقع الذي يخلّفه «داعش» وراءه بفظائعه وعنفه القاطع وإرهابه الصريح يجعل منه حقيقة وليس وهماً.

النقاش يحتد حول ما إذا كان «داعش» ظاهرة عابرة، بمعنى أنه ببطشه الفظيع لن يتمكن من الدوام والبقاء لأنه يفتقد البيئة الحاضنة على المدى البعيد. أو أنه حصيلة بيئة حاضنة له أساساً في العراق وسورية ولبنان في إطار مواجهة البطش بالبطش، القتل بالقتل، التطرف بالتطرف، والاستقواء باستقواء مماثل وأكثر.

«داعش» مزيج من الاثنين من ناحية البيئة الحاضنة التي ساهمت في إطلاقه وجعلت منه المحرك المرعب catalyst ومن ناحية عدم تمكنه من الديمومة لأنه لن يلاقي البيئة الحاضنة له ما بعد إحداثه الهزة الكهربائية.

لعل التاريخ يسجّل لاحقاً ما يهمس به البعض بأن «داعش» شرّ لا بد منه كحركة تصحيحية للإفراط الإيراني في الهيمنة على العراق والسيطرة على مصير سورية ورسم مصير لبنان. ولعل التاريخ يسجل أيضاً أن «داعش» أحبط المشروع الإيراني الذي دعمه المحافظون الجدد في إدارة بوش وسُمي «الهلال الشيعي» وذلك من خلال إعادة تعريف الحدود العراقية- السورية سنيّاً بدلاً من تواصلها شيعياً. لكن التاريخ لن يغفر لـ «داعش» ومن يدعمه أو يتفهمه ارتكابه الفظائع ضد المسيحيين والأيزيديين والكرد والشيعة وغيرهم من الأقليات أينما كان. وبالتأكيد، لن يسود ذلك «الاعتدال» الذي أطلقته وحشية تطرف «داعش» إذا فشلت بيئته بإبلاغه بصرامة أنها ليست بيئة حاضنة له.

جرائم «داعش» حقّرت إرهاب الآخرين وطمست جرائم الآخرين وبات «داعش» العنوان الجديد لمكافحة الإرهاب لكنه في الوقت ذاته تحوّل، كأمر واقع، إلى المحرّك الرئيس في إنعاش الاعتدال السني ولمّ شمل السنّة في العراق إلى لبنان بقرار سعودي.

عراقياً، نجح كل من «داعش» ورئيس الحكومة السابق نوري المالكي في جمع الأعداء والاتفاق على إزالتهم عن المشهد العراقي. توافقت القيادة الأميركية والسعودية والإيرانية والأوروبية على التخلص من الخطرين وبرزت مواقف عراقية مهمة ضد الاثنين معاً. ولعلهما معاً ساهما من دون قصد في تقوية كفّة الاعتدال ضد التطرف ليس فقط في العراق وإنما أيضاً في المعركة الدائرة إيرانياً بين قوى التطرف التي يقودها قاسم سليماني و «الحرس الثوري» وقوى الاعتدال بقيادة الرئيس حسن روحاني.

حالياً، واضح انحسار سليماني وصعود روحاني عبر مواقف مرشد الجمهورية آية الله خامنئي الذي دعم توّلي حيدر العبادي رئاسة حكومة العراق وأوضح لنوري المالكي أن عليه الرحيل. كانت تلك صفعة لسليماني الذي تمسّك بالمالكي وأراد الاستفادة من الفوضى التي أطلقها «داعش» في العراق ليفرض حاجة العراق للمالكي. إنما ليس من الواضح إذا كان هذا تكتيكاً ضمن توزيع الأدوار كما شاء آية الله خامنئي، أو تقهقهراً جدياً لقوى التطرف الذي يسيطر عليها تيار سليماني بإيعاز من آية الله خامنئي، كما يُقال.

فإذا كان صعود حظوظ الاعتدال داخل إيران تطوراً جديّاً بقرار من مرشد الجمهورية وليس ضمن تكتيك توزيع الأدوار، فإن حدث العراق سيكون فائق الأهمية لأنه سيُطلق توجهاً إيرانياً جديداً وكذلك حديثاً إيرانياً- سعودياً مختلفاً عن السابق.

القيادة السعودية تبنّت الاعتدال عنواناً لزخم في سياساتها الجديدة الممتدة من هبات لمكافحة الإرهاب إلى معونات لتقوية صفوف الاعتدال بين السُنّة. وهي أكثر استعداداً للتحاور مع القيادة الإيرانية في إطار تقوية الاعتدال، لا سيما إذا تصرّفت ايران كدولة وليس كثورة.

«داعش»، كما «القاعدة» وأخواتها، تشكل خطراً ليس فقط على المملكة العربية السعودية وإنما أيضاً على السُنّة ككل. ويبدو اليوم أن هناك استطلاعاً لدور سعودي مختلف عن الدور السعودي المتحالف مع باكستان والولايات المتحدة لدعم «الجهاديين» في أفغانستان قبل ثلاثين سنة بهدف إسقاط الشيوعية السوفياتية. فتشبيع المقاتلين من أينما أتوا بالجهاد، بغسل دماغ على أيدي الاستخبارات الأميركية، أسفر عن إنمائهم لدرجة نمو الوحش فوق العادة وفوق السيطرة عليه.

قد يقال انه لولا نمو وحش «داعش» إلى درجة دب الرعب في القلوب لما كان إنعاش الاعتدال السني ممكناً كما لم كان إيقاف التطرف الشيعي ممكناً، وبالتالي هذا يشفع للذين أصرّوا على أسلوب «النار بالنار» ويصرّون على إبقائه متأهباً في حال فشل أسلوب الاعتدال.

القرار السعودي الرسمي اليوم هو رفع راية مكافحة الإرهاب والتطرف عالية بإجراءات ومواقف مدروسة سياسياً أيضاً، فالهبة بمئة مليون دولار للأمم المتحدة للحشد العالمي لمكافحة الإرهاب مهمة ليس فقط من ناحية دلالتها المالية والإعلامية وإنما من ناحية الدلالة السياسية، لا سيما في إطار سورية.
الرئيس السوري بشار الأسد نصب نفسه واجهةً لمكافحة الإرهاب السنّي وحماية الأقليات من «داعش» وأمثالها، مع أن عناصر «داعش» أخرجهم الرئيس السوري من السجون السورية لتلويث المعارضة السورية وسمعتها ولنصب نفسه العنوان الأساسي للولايات المتحدة وروسيا والدول الغربية لمكافحة الإرهاب.

الهبة السعودية للأمم المتحدة أتت برسالة سياسية لسحب البساط من تحت أقدام النظام في دمشق كي لا تترك له الساحة خالية لمزاعم دحض الإرهاب السنّي. كما أن قيام الحكومة السعودية بتقديم الأموال لمكافحة الإرهاب للأمم المتحدة بالإضافة إلى هبات أخرى لدعم جهودها في العراق تأتي جزءاً من استراتيجيتها الأشمل، القائمة على انفتاح جديد على المنظمة الدولية وعلى التعاون العالمي في مكافحة الإرهاب وفي مساعدة العراق على التعافي شرط التوقف عن إقصاء السُنّة وهضم حقوقهم بقرار من طهران.

لبنانياً، أسرعت القيادة السعودية إلى الوقوف ضد «داعش» إبرازاً للاعتدال السنّي وأرفقته بمبلغ بليون دولار حملها رئيس الحكومة السابق سعد الحريري عائداً إلى لبنان زعيماً للاعتدال السني، جاهزاً للتفاهمات.

بقدوم الحريري إلى لبنان واستعادته الزعامة السنّية بعنوان الاعتدال، وبرحيل المالكي عن العراق متأبطاً عنوان الإقصاء والطائفية والتطرف، هناك مساحة للتفاؤل بتوجه جديد للبلدين وبهامش تفاهمات ممكنة بين القيادتين السعودية والإيرانية على وتر الاعتدال لمكافحة التطرف.

سورية تبقى الآن الشوكة في خاصرة التفاهمات لأنها ما زالت حصراً في عهدة «الحرس الثوري» الإيراني، لا غير. وهذا بالطبع سيؤثر على لبنان على رغم أن «حزب الله» يستمع إلى مرشد الجمهورية وله حساباته اللبنانية وهو ليس مجرد ملحق في «الحرس الثوري» الإيراني على رغم علاقتهما الوثيقة.

وسورية ليست حصراً مسألة إيرانية- سعودية، بل هي أيضاً مسألة روسية وقطرية وأوروبية باختلاف الأبعاد.

روسياً، من اللافت قيام الرئيس المصري عبدالفتاح السياسي بزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتوثيق العلاقات بصفقات الأسلحة بأموال سعودية وإماراتية إلى جانب فتح قناة السويس أمام روسيا. فمصر تشكّل إحدى وسائل التفاهم السعودي مع روسيا، كما يشكل العراق إحدى وسائل التفاهم السعودي مع إيران.

يبقى أميركياً، بدا الرئيس باراك أوباما جاهزاً للتحرك بخطوات صغيرة ظهرت وكأنها حصراً دعم للأكراد إن كان عبر قصف مواقع «داعش» أو عبر النظر في احتمال توسيع الدور الأميركي في العراق عن طريق الطائرات بلا طيار drones. هكذا بدا أوباما جاهزاً للتحرك ضد التطرف الإرهابي على نسق جرائم «داعش»، بالتزامن مع التوافق على إزاحة نوري المالكي عن السلطة كي لا يبدو أنه يقف مع إيران في العراق لو لم يضغط لإزالة المالكي.

أوباما لن يجر أميركا إلى المعركة المباشرة مع «داعش» أو غيرها لأنه عقد العزم على عدم التورط في حروب الآخرين تلبية للمطالب الشعبية الأميركية، بحسب تقويمه.

حدث العراق يشكّل فرصة للرئيس الأميركي لإعادة فرز العلاقات الأميركية بكل من المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية نحو رعاية التفاهمات ودعم الاعتدال حقاً. فهكذا ينفض باراك أوباما عن نفسه صيت دعم التطرف بشق «الإخوان المسلمين» في مصر وبشق شغفه لإرضاء إيران لتكون له تركته التاريخية إذا أنجز الاتفاق النووي معها.

المفاوضات النووية مع إيران متعثرة وقد لا تؤدي إلى ما يشتهيه باراك أوباما بسبب اتساع الفجوة بين ما تريده طهران وما تستطيع أن تقبل به إدارة أوباما وتسوّقه مع الكونغرس في واشنطن.

لذلك، قد يفيد الرئيس الأميركي أن يرسم مساراً متوازياً مع انصبابه على إرضاء طهران ويأخذ من حدث العراق موقع قدم لإطلاق صورة جديدة عنه تبيّنه داعماً جدياً وصارماً لقوى الاعتدال.

(الحياة اللندنية)